دور الوقف في الرعاية الصحية والتنمية الاجتماعية

الوقف ودوره في تنمية المجتمع
الفصل الثاني: دور الوقف في تنمية المجتمع
المبحث الرابع: دور الوقف في الرعاية الصحية والتنمية الاجتماعية

لقد استطاع الوقف – على مر العصور- أن يحفظ الهوية- المتميزة للمجتمع الإسلامي، فأمسك عليه كيانه من الداخل بما يحققه من تكافل اجتماعي، وأمسك عليه كيانه من الخارج في مواجهة غارات العدوان والدمار.
ومما لا ريب فيه أن الوقف كان له دوره المتميز في تغطية جانب كبير من جوانب المتطلبات الاجتماعية وفي سد الثغرات الاقتصادية لفئات عديدة من أفراد المجتمع.
فالوقف على المحرومين من الفقراء والمساكين وأبناء السبيل يغل في نفوسهم الحقد والحسد، ويبعث في قلوبهم المودة، ويدفع سواعدهم إلى المشاركة في بناء المجتمع المسلم الذي لم يضن عليهم بالرعاية بلا طلب أو استجداء وإنما يقدم لهم عوائد الأموال الموقوفة عليهم لتحقيق الحياة الكريمة لهم.
ومن هنا تبرز أهمية الوقف الخيري الذي يداوي، ويواسي ويعاون، ويدافع عن قيم المجتمع، ويحمي بنيانه الاجتماعي في جميع الغوائل، من خلال الاهتمام بحاجات الفرد والأسرة، لأنهما اللبنة الأولى في بناء المجتمع( ).
وقد حقق الوقف هذا الدور الاجتماعي بجدارة في الماضي وعلى مر العصور، وذلك من خلال رعاية الفقراء والمساكين واليتامى والأرامل والعجزة والمعوزين.
وما لا ريب فيه أن الفقراء والمساكين تنحصر حاجتهم الأساسية في المأكل والملبس والمسكن، ويهتم الكثير من أهل الخير بوقف جزء من ثرواتهم للمشاركة في توفير هذه الحاجات للفقراء والمساكين، ولا ريب أن الإسهام في توفير الحاجات الأساسية لهم سوف يعني تحويل المزيد من الموارد إليهم، و هذا يؤدي إلى رفع مستوى معيشتهم وتقليل الهوة بينهم وبين الأغنياء إلى حد ما.
كما أن الأوقاف على جهات الخير تساعد في توفير حد أدنى من الحياة الكريمة للفقراء والمساكين، وذلك بتوفير فرص العمل المناسبة لهم ومن ثم زيادة دخولهم والرفع من مستوى معيشتهم وحياتهم الاجتماعية ( ).
ومن أهم المجالات الاجتماعية التي مارسها الوقف رعاية للفقراء والمساكين هو الإعانة على تأدية العبادات.
فقد قام كثير من الواقفين بتخصيص بعض الأعيان وحبسها للإنفاق من عوائد الفقراء والمساكين على تأدية العبادات المفروضة كالصيام والحج، وذلك بإعداد موائد للإفطار والسحور، ليست كالموائد التي يقيمها البعض في زماننا للخيلاء أو الرياء والسمعة، وإنما ينفق على هذه الموائد من أموال الوقف المخصصة لها لتمكين الفقراء من أداء العبادة بلا مشقة.
كما أن بعض الواقفين يخصص بعض الأعيان للإعانة راغبي تأدية فريضة الحج من الفقراء والمساكين، بمدهم بالمئونة التي تعينهم على تحقيق بغيتهم في تأدية هذه الفريضة التي تحتاج إلى المال والزاد والراحة.
كما خصصت بعض الأوقاف لمساعدة الشباب والفتيات الفقراء على الزواج وذلك بمنحهم المهور اللازمة والإسهام في تزويجهم، وإمداد العروس بالأثاث والثياب والحلي وما تحتاج إليه من ضرورات الحياة لتكوين أسرة سعيدة.
وقد ذكر الرحالة ابن بطوطة أنه وجد وقفا بالشام لتزويج البنات الفقيرات اللواتي لا قدرة لأهليهن على تزويجهن، كما ذكر أن هناك وقفا مماثلا خصص لتزويج البنات الفقيرات بتونس، ومن مدينة فاس بالمغرب، كانت هناك دار لتزويج الضعفاء والمعوزين الذين لا يملكون سكنا للإقامة مراسم الزفاف ( ).
هذا وقد اتخذت المؤسسات الوقفية التي لا تنهض بتقديم الرعاية الاجتماعية والصحية عدة أشكال أهمها: الملاجئ والتكايا والبيمارستانات.

المطلب الأول: الملاجئ:

الملجأ باعتباره مؤسسة للرعاية الاجتماعية هو شكل متطور للرباط الذي كان من المؤسسات الوقفية المبتكرة منذ العصر الأيوبي على الأقل، حيث كان الرباط يقوم بوظائف متعددة منها وظيفة الملجأ في الوقف الحالي، وقد استمر الرباط مستعملا لدى مؤسسي الأوقاف في مصر حتى مطلع القرن العشرين كمرادف للملجأ.
وإذا رجعنا إلى حجج الأوقاف الخاصة ببعض الملاجئ نجد أنها تتضمن الكثير من الشروط التي وضعها الواقف لتنظيم أعمال الرعاية لنزلاء الملجأ، سواء أكانوا من اليتامى أم من الرجال أم من النساء، بما في ذلك مقادير الطعام الذي يقدم لهم، وما يحصل عليه كل نزيل من إعانة نقدية شهريا، وملابس للصيف وأخرى للشتاء.
هذا بالإضافة إلى تفاصيل أخرى تتعلق بإدارة الملجأ، وشروط الالتحاق به، وكذلك شروط الاستمرار فيه.

المطلب الثـاني: التكايا.
اختصت التكايا – في معظم الأحوال- برعاية من لا عائل لهم، و الذين لا يقدرون على الكسب من العجزة وكبار السن، والأرامل من النساء اللائي لا يستطعن ضربا في الأرض، إلى جانب الغرباء والمسافرين الذين لا يجدون لهم مأوى في البلاد التي يمرون بها، وخاصة إذا كانوا قاصدين بيت الله الحرام لأداء فريضة الحج.
وبعض التكايا كان مخصصا لإسكان طلبة العلم، ومن أشهرها تكية محمد بك أبو الذهب، وتكية اكلشني بالقاهرة، وكانتا مخصصتين لإسكان بعض طلبة العلم الأغراب الذين يدرسون بالأزهر الشريف.
ومن أشهر التكايا أيضا تكيتا مكة المكرمة والمدينة المنورة اللتان أنشأهما محمد علي وأوقف عليهما قريتين كاملتين بمصر بلغت مساحتها 2877 فدانا ليصرف ريعها على هاتين التكيتين لتسهيل أداء فريضة الحج على الحجاج بيت الله الحرام.
وعلى أية حال فإن التكايا لم تجتذب وقفيات جديدة ذات الشأن، على كعس الملاجئ التي كانت ومازالت آخذة في الازدياد، والحلول محل التكايا باعتبارها مؤسسة للرعاية الاجتماعية أكثر كفاءة وتنظيما من التكايا.

المطلب الثـالـث: البيمارستانات .
وهو إحدى المنشآت والمؤسسات الوقفية التي كان يشيدها السلاطين والملوك والأمراء وأهل الخير على العموم صدقة وحسبة وخدمة للإنسانية، ولم تكن مهمة هذه البيمارستانات قاصرة على مداواة المرضى، بل كانت في الوقف نفسه معاهد لتعليم الطب.
وأول دار أسست لمداواة المرضى في الدولة الإسلامية بناها الخليفة الأموي الوليد ابن عبد الملك في دمشق سنة 88هـ وجعل فيها الأطباء، وأجرى عليهم الأرزاق، وخصص لكل مُقعد خادما يهتم بأمره ولكل ضرير قائدا يسهر على رفقته( ).
وبنى أحمد بن طولون سنة 259هـ، بيمارستان كبير في مصر، وقد اتفق ابن طولون على إنشاء هذا البيمارستان ستين ألف دينارا، وكان يركب بنفسه في كل يوم جمعة ليتفقد أحوال المرضى.
كما شيد نور الدين زنكي بيمارستان في دمشق قال عنه الرحالة ابن جبير أنه: “مفخرة عظيمة من مفاخر الإسلام، وله قوم بأيديهم الأزمة المحتوية على أسماء المرضى، وعلى النفقات التي يحتاجون إليها من الأدوية والأغذية وغير ذلك، والأطباء يبكرون إليه في كل يوم ويتفقدون المرضى، ويأمرون بإعداد ما يصلحهم من الأدوية والأغذية”.
ويضيف ابن كثير أن نور الدين زنكي وقف هذا البيمارستان على الفقراء دون الأغنياء اللهم إلا إذا لم يجد الأغنياء دواء لعللهم إلا في هذا البيمارستان، مما يؤكد الأهمية الاجتماعية لمثل هذه المؤسسة( ).
وهناك المستشفى المنصوري الكبير، المعروف بيمارستان قلاوون، الذي أنشأه الملك المنصور سيف الدين قلاوون بالقاهرة سنة 673هـ، وأوقف عليه ما يغل ألف درهم في كل سنة، وألحق به مسجدا أو مدرسة ومكتبا للأيتام، وكان آية من آيات الدنيا في التنظيم والترتيب، جعل الدخول إليه والانتفاع به مباحا لجميع الناس، وجعل لمن يخرج منه من المرضى عند برئه كسوة، ومن مات جهز وكفن ودفن.
وعين فيه الأطباء من مختلف فروع الطب، كما وظف له الفراشين والخدم لخدمة المرضى وإصلاح أماكنهم وتنظيفها وغسل ثيابهم.
ومن أروع ما فيه أن الاستفادة ليست مقصورة على من يقيم فيه من المرضى، بل رتب لمن يطلب وهو في منزلة ما يحتاج إليه من الأشربة والأغذية والأدوية( ).
و هناك المستشفى العضدي الذي بناه عضد الدولة بن بويه عام 371هـ، في بعداد، حيث أنفق عليه مالا عظيما، وجمع له من الأطباء 24 طبيبا، وألحق به كلما يحتاج إليه من مكتبة علمية وصيدلية ومطابخ ومخازن.
وهناك بيمارستان الذي بناه يعقوب المنصور بمراكش بالمغرب، فقد أقيم في أفضل ساحة في البلد، ورتبت بالمارستان كل احتياجات المرضى من أطباء وصيادلة وأدوية وأغذية وكملابس وغير ذلك.
وهكذا انتشرت البيتارستانات في أغلب المدن الإسلامية، وكان لها دور كبير في الرعاية الصحية و الاجتماعية للأفراد في المجتمعات الإسلامية ولا سيما الفقراء منهم والمحتاجين.
وتجدر الإشارة إلى أنه كان يوجد بكل مستشفى قاعة كبيرة للمحاضرات يجلس فيها كبير الأطباء ومعه الأطباء والطلاب ويعلمهم أصول الطبي وعلاج المرضى كما كان “يلحق بكل مستشفى مكتبة عامرة بكتب الطب وغيرها مما يحتاجه الأطباء وتلاميذهم حتى قالوا : إنه كان في مستشفى ابن طولون بالقاهرة خزائن كتب تحتوي على أكثر من 100 ألف مجلد في سائر العلوم” ( ).

المطلب الرابع: دور الوقف في تحسين المستوى الاجتماعي والمعيشي.

إن وقف الأموال على نشر التعليم فتح مجالا للشباب أن يرتقوا ويتميزوا في السلم الاجتماعي، وفي التأثير والنفوذ حتى لو كانت أصولهم الاقتصادية والاجتماعية ضعيفة نتيجة ما أتاحته لهم أموال الوقف المتخصصة للتعليم من مجالات… فالتعليم الجيد الذي قد يحمله شخص موهوب قد ينقله ليس لأن يتسلم مرتبة الإفتاء والقضاء فحسب بل لأن يتمرس في العمل الإداري وتيسير أمور الدولة، أو في أي مهنة متخصصة كالطب والإدارة أو غيرها، والتي قد لا تحتاج له لـولا أموالا موقوفة قد ساعدته على هـذا الارتقاء، وسهلت له سبيل التعليـم والرقي( ).
لقد أدت الطبقة المتعلمة دورا رئيسيا في انتقال المعرفة والمعلومات الإنسانية والعلمية والأخلاقية والقيم الدينية، حيث نقلوها لمختلف أبناء الأمة الإسلامية، وأتيح لكل فرد من أفراد المجتمع الإسلامي الفرصة على أن يكون عضوا فعالا في هذه الفئة التي اتصفت بالعلم والمعرفة، كما أن العلماء بالرغم من كونهم مستقلين عن الإدارة إلا أنهم المصدر الرئيسي الذي رفد الجهاز لكل احتياجاته، كما كانت المدارس والمساجد مصدرا هاما في إمداد الأجهزة والدواوين الحكومية بما تحتاجه من قوى بشرية مؤهلة.
وفي الوقت نفسه نجد أن الكثير من المعلمين والفقهاء الذين اعتمدوا في تعليمهم ومعاشهم على أموال أمدتهم بها الأوقاف، قد اندمجوا كذلك في الأعمال الاقتصادية والأنشطة التجارية، فاشتغل العلماء والفقهاء وطلبة العلم في السوق، وكان وجودهم واضحا في ساحة النشاط الاقتصادي في المجتمع الإسلامي إذ عملوا تجارا وكتبة ومحاسبين وصيارفة وغير ذلك.
وكان العديد من العلماء يقسمون نشاطهم اليومي بين التجارة والتعليم، فيشتغلون بعض الوقت تجارا في السوق وفي البعض الآخر منه إما أن يكونوا طلبة يتلقون العلم، أو أن يقوموا هم بالتدريس لغيرهم من الأفراد.
وفي دراسة قامت بها “إيرالابيدوس” عن المجتمع الإسلامي في العصر الوسيط بعنوان “المدن الإسلامية في العصور الوسطى المتأخرة) وجدت أنه من بين نموذج استخلصته من تراجم الرجال يمثل ستمائة تاجر في هذا العصر في بعض هذه المدن الإسلامية ووجدت أن من بين هؤلاء الستمائة تاجر، مائتين وخمسة وعشرين تاجرا كانوا أساتذة في المدارس الجماعية وعلماء شريعة وأئمة للمساجد أو قضاة ومحتسبين، كما وجدت أن فيهم كتابا للعدل ونظارا على الأوقاف الخيرية، كما وجدت أن من بينهم أربعة وثمانين تاجرا يعلمون بنفس الوقت كمحدثين في المساجد والمدارس الموقوفة، وخمسة عشر تاجرا كانوا يتولون وظيفة قاضي، وستة آخرين عملوا في وظائف الإدارة العليا، كما أن ستة أشخاص عملوا في وظائف الحسبة.
كل ذلك لم يكن ممكنا إلا بفضل ما وفرته الأموال الموقوفة لباقي الطبقات من موارد صرفت عليهم بسخاء في سبيل تعليمهم حسبة الله.
ولذا فإننا نرى أن الصناع والعمال كانت الفرص متاحة لهم لأن يتعلموا ويواصلوا تعليمهم في مختلف مراحل الدراسة معتمدين على المخصصات التي تصرف على الطلبة من الوقف، وبذلك كان المجتمع كله يتعلم وينمو وقد قرر الفقهاء المسلمون بان الوقف على التعلم من راتبه أو من وظيفته، واعتبروا أن الوظيفة هي نوع من التعليم واستمرارية له.

المطلب الخامس: دور الوقف في تحقيق التكافل الاجتماعي
إن الوقف الإسلامي يحقق نوعا من التكافل الاجتماعي لم يسبق إليه نظام، بل ولم يدانه نظام كذلك، ذلك أن للوقف وظيفة اجتماعية قد تبدو ضرورية في بعض المجتمعات وفي بعض الأحوال والظروف التي تمر بها الأمم، فلقد اقتضت حكمة الله أن يكون الناس مختلفين في الصفات، متباينين في الطاقة والقدرة، و هذا يؤدي إلى أن يكون في المجتمع الغني والفقير، والقوي والضعيف.
فلذا أمر الشارع الحكيم الغني بالعناية بالفقير، والقوي بإعانة الضعيف، ولهذا جاءت الحياة في المجتمع المسلم في غاية من التكافل والتراحم والتعاطف، جعلته كالبناء المرصوص يشد بعضه بعضا.
والمتأمل في طبيعة الوقف، استلهاما من دلالته التشريعية، ونماذجه التطبيقية، يجد أنه إفراز طبيعي وذاتي لمسؤولية المسلم تجاه مجتمعه، ورسالته في الحياة وتعايشه مع بني دينيه ووطنه، فالمسلم الحق هو الذي يحيا بأهله وذويه وإخوانه في الدين والوطن، يستشعر آلامهم وآمالهم، ويشاركهم في أتراحهم وأفراحهم.
إن هذا المنحى للوقف، و الذي يشع على أوجه الحياة كلها، يبوئه المكانة السامقة في منظومة العطاء الإسلامية التي تعتمد على صريح الخطاب الإسلامي، وعلى عمق الالتزام الديني، مع تشريعات الزكاة والصدقات والوصايا والهبات، وهي تتضافر سويا نحو هدف واحد وهو مد مظلة التكافل الاجتماعي لكل أفراد المجتمع الإسلامي.
إن من يسبر أغور هذا المجتمع، ويعي مغزاه، يدرك على الفور أن المجتمع الإسلامي يقوم على أساسين:
الأساس الأول: وهو الذي يرتكز على الإسهامات الفردية، والمشاركة الشعبية الواعية بمسئولياتها الاجتماعية، والتي طرحت –جانبا- الجشع والأثرة والبخل وغيرها من الآفات الاجتماعية.
الأساس الثاني: الأساس الذي ينبني على دور الدولة، باعتبارها سلطة راشدة تقوم بمهمتها في تطبيق المبادئ والتشريعات الإسلامية، لينهض المجتمع مؤسسا على التضامن والتكافل الاجتماعي.

قرأوا أيضا...

1 فكرة عن “دور الوقف في الرعاية الصحية والتنمية الاجتماعية”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.