وعي السارد بضرورة التعدد اللغوي في وليمة لأعشاب البحر

التعدد اللغوي وأثره الجمالي في وليمة لأعشاب البحر ” لحيدر حيدر”
الفصل الأول
تركيب عام :
يتضح إذن أن الرواية خصوصا الرواية الديالوجية بشبه الفسيفساء في قدرتها على الجمع بين الأشياء المختلفة وخلقة التكامل بينها ويتجلى هذا الميسم بالنسبة للرواية في جمعها بين عدة نصوص ولغات مع محاولة تحقيق الإنسجام والتكامل بينها إذ الاختلاف لا يعني التنافر . كما أنه لا يقف حدا أمام تحقيق جمالية الرواية بل إن حضوره ضروري ، باعتبار الرواية مرآة تعكس الواقع بجميع مظاهره ، وجميع الوضعيات التي تؤطر وجود الإنسان المتكلم فيه ، حيث إننا في أحاديثنا اليومية لابد لنا شئنا أم لا- من نقل كلام الآخرين إما بشكل مباشر أو غير مباشر بالاستشهاد مثلا بالقرآن أو كلام الناس الحكماء . أو نقل كلام الناس العاديين وهذا هو ما يسميه باختين بالحوارية . بالإضافة إلى أن اختلاف الخليفات والإيديولوجيات التي تحرك الأفراد يجعل كل فرد ينظر إلى موضوع انطلاقا من زاوية نظره الخاصة وهذا ما يسمى بتعدد الأصوات .
تقوم الرواية بدور عكس الواقع غير أن هذا لا يعني أنها تعكس الأحداث بشكل سطحي بل إنها تذهب إلى أكثر وأعمق من ذلك وهو إبراز الفوارق الاجتماعية من خلال اللغة، إذ لكل طبقة اجتماعية طريقتها الخاصة في التعبير كما أن لها معجمها ونبرتها الخاصين… غير أن المتكلم في الرواية بشبه الحرباء ويتجلى ذلك في قدرته على تغيير مصطلحاته ونبرته باختلاف المقامات التي يوضع فيها فلغته وقت الحرب ليست هي لغته وقت الفرح ولغته في موضع رسمي ليس هي لغته مع أصدقائه .
وتبقى اللغة الوسطى حلا عادلا يقرب بين الطبقات الاجتماعية، وذلك لانها ليست خاصة بطبقة معينة وهذا ما جعلها تحتل الموضع الرئيسي في وسائل الإعلام والاتصال سعيا إلى تبليغ الأخبار تبليغا شاملا .

I-    تأطير الرواية :
نبدة عن حيدر حيدر :
إن الحديث ن حياة حيدر حيدر ليس أمرا مجانيا باعتبار أنه خطوة مساعدة على الكشف عن انعكاس بعض جوانب حياته داخل الرواية وخصوصا فيما يتعلق بالتعدد اللغوي.
ولد الأديب والروائي حيدر حيدر سنة 1936 في قرية سورية صغيرة مشرفة على البحر، وقد أرسل شهادة له   عن الكتابة والحياة إلى الكاتب الفلسطيني فؤاد عزام ، الذي نشرها على صفحات الأنترنيت يسرد فيها أبرز تجاربه في الحياة وأهم أعماله .
وقد جاء في هذه الشهادة أنه انتقل إلى حلب من أجل مواصلة دراسته في معهد المعلمين التربوي كان ميالا إلى قراءة الكتابات الرومانية ( جبران خليل جبران آلام فرتر لغوته ” العبرات والنظرات ، للمنفلوطي …) انتسب إلى حزب البعث الذي كان يسعى إلى مواجهة الديكتاتورية العسكرية . كما أنه كان ضابطا في الجيش قرأ الفلسفة والسياسة والنقد غادر سنة 1970 مدينة دمشق التي كتب عن تجربته فيها رواية ” الزمن الموحش ” في اتجاه الجزائر ليشارك في ثورة التعريب وبعد أربع سنوات غادرها هي الأخرى إلى بيروت ثم إلى قبرص . وفي تنقله بين هذه المحطات الثلاث الأخيرة ( الجزائر ، بيروت، قبرص) كتب روايته ” وليمة لأعشاب البحر ”
كيف ساهمت إذن القراءات المتنوعة لحيدر حيدر في جعل ” وليمة لأعشاب البحر ” عالما منفتحا ؟ ثم ما هو تأثير تنقلاته بين الدول على لغة الوليمة ؟

2- ملخص الرواية
كتب حيدر حيدر ” وليمة لأعشاب البحر ”   بين سنتين 1974 و 1983 وتتكون من ثمانية فصول هي على التوالي : الخريف ، الشتاء، الربيع ، الأهوار ، الحب ،نشيد ،الموت ، ظهور اللوياتان ، الصيف ، ووتتخذ أحدات الرواية مدينة بونة ( عنابة حاليا) الجزائرية مسرحا لها. وتتمحور أهم هذه الأحداث حول رجلين وامرأتين : مهدي جواد ومهيار الباهلي من العراق، وفلة بوعناب ، وآسيا الأخضر من الجزائر ، ولكل واحد من هؤلاء تجربته الخاصة في الحياة، فمهدي جواد شيوعي جاء إلى بونة باعتباره أستاذا للغة العربية، يلتقي آسيا الأخضر ابنة أحد شهداء الثورة الجزائرية ( سير العربي الأخضر ) فيصبح أستاذا لها ثم حبيبها فيما بعد. هذا الحب الذي حكم عليه بالموت في آخر المطاف. أما مهيار الباهلي فهو صديق مهدي جواد مناضل أيضا غير أن الفر بينهما هو أن مهيار لا يلقي بالا إلى عالم المرأة إذ لا يشغله أمر آخر غير التفكير في الثورة رغم محاولة فلة بوعنان رمز التحرر من قيود المجتمع لجعله ينتفح على أشياء أخرى غير السياسة كالحب مثلا …
تقدم ” وليمة لأعشار البحر ” من خلال مهدي ومهيار جانبا من تاريخ العراق الأسود وثروة المليون شهيد في الجزائر ، وتنتهي الرواية بالقبض على مهيار بتهمة النشاط السياسي ، وانتحار مهدي جواد بتنفس بعمق الهواء الرطب وباندفاعه طائر يقذف جسده إلى البحر ”  ومن ثم يكون ” اللوياثان ” قد افترس الحب والثورة على حد تعبير محمد برادة  .

II-    وعي السارد بضرورة التعدد اللغوي في ” وليمة لأعشاب البحر “
يعير السارد في ” وليمة لأعشاب البحر” عن وعي كبير بوجود التعدد اللغوي فيها وضرورته وذلك باعتبار أن هذه الرواية تجمع بين شخوص آتية من أوساط وبلدان مختلفة يجمعهم وسط واحد هو بونة الجزائرية ، تقول فلة بوعناب لمهيار الباهلي :” قبلك جاؤوا إلى هنا، فلسطينيون ومصريون وسوريون وعراقيون ”  يقول السارد في موضع آخر ” … في الساحة الإهليجية تناثر شرقيون ومغاربة وفرنسيون …”   . ومن ثم كان لابد لهذا التعدد في الجنسيات ان يخلق تعددا لغويا، إذ حتى الطبيعي أن يتحدث كل شخص بلسان قومه . فالسوري له لهجته والعراقي له لهجته والمصري نفس الشيء. وتجمعهم الجزائر بلهجتها الممزوجة بلغة المستعمر الفرنسي .
يشير السارد في كل حديث تقريبا بين الشخوص ذات الجذور المختلفة إلى وجود اختلافات لغوية مثلا تقول آسيا لمهدي ، كم تبالغ كأي قروي ” ويضيف السارد :” فالتها بالفرنسية ”  فلو كانت آسيا امرأة فرنسية ، أو كانت تتحدث إلى فرنسي مثلا لما قام السارد بالإشارة إلى اللغة التي استعملت فإشارة السارد إذن جاءت لإبراز مدى قوة تأثير لغة الاستعمار الفرنسي على الناس . فآسيا الأخضر رغم أنها عربية ، لا تتكلم سوى الفرنسية واللهجة المحلية ، أما اللغة العربية فقد كانت سببا في تفويتها لفرصتين للحصول على الباكلوريا تقول آسيا لمهدي :” أجهل لغتي ”   فهي هنا واعية بان لغتها الأصلية هي العربية لذلك تحاول جاهدة تعلمها ، بمساعدة أستاذها مهدي تقول آسيا :” بدأت أحب العربية حقا كما بدأت أدرك أنها لغتي وأرغب أن نتحاور بها معا ”   فهي لا تستعمل الفرنسية إلا لكونها عاجزة عن تكلم اللغة العربية ، وهذا ما يجعل السارد يركز على حواراتها والصعوبات التي تواجهها في الحديث مع مهدي الذي تختلف لهجته عن لهجتها .
ولأن اللغة ليست بريئة لكونها تحمل دائما رؤية ما أو إيديولوجيا معينة، فإن آسيا ووعيا منها بهذه المسألة تتساءل ما إذا كان تفكيرها سيتغير بتعلمها للغة العربية إذ تقول ” عندما أستطيع الحديث جيدا بالعربية هل سأتغير ؟ …هل أصبح عربية التفكير ؟
بالإضافة إلى هذا يبرز السارد اصطدام الشخوص بلغة الآخر ، وهنا نذكر ما واجهه مهدي جواد في أيامه الأولى في مدينة بونة، فالوصول إلى المدينة في الأيام الأولى كان ذهولا كل شيء ظهر غريبا … المنازل البيضاء … مقاهي الأرصفة ولغة الناس ” . ومن تم يعتبر تنوع اللغات واختلافها من أبرز العوامل المعيقة لعملية التواصل بين الناس والدافعة بالشخوص إلى البحث عن البديل الذي يشترط فيه أن يكون مشتركا بين  الشخوص ونذكر هنا وضع مهدي جواد في المقهى ” ولأنه لا يعرف اللغة المحلية طلب بالفرنسية قهوة سوداء ”   وهنا يكشف السارد عن عجز مهدي جواد وجهله باللهجة الجزائرية مما حذا به إلى اختيار الفرنسية التي يفهمها الجزائريون ويتكلمون سواء المتعلم منهم أو غير المتعلم نفس الشيء نجده بالنسبة للتواصل الصعب ، بين آسيا ومهدي ، في أول لقاء لهما، إذ ” وبصعوبة لغوية شرحت الآمر وبصعوبة خارقة حاول أن يستوعب ” .
نخلص إلى أن اختلاف جنسيات الشخوص في ” وليمة لأعشاب البحر” جعل السارد واعيا بضرورة وجود التعدد اللغوي لذلك يتدخل في أغلب الأحيان لإبراز الاختلافات اللغوية بين المتكلمين والصعوبات التي يواجهونها نتيجة هذه الاختلافات.
________________
حيدر حيدر: شهادة عن الحياة والموت والكتابة ( صدمة الحياة والكتابة) 02-03-2009 ( الأنترنيت)
حيدر حيدر :” وليمة لأعشاب البحر ، تنشيد الموت ، دار أمواج بيروت الطبعة الرابعة 1992.
-حيدر حيدر ، وليمة لأعشاب البحر ، مصدر مذكور ص 376.
– محمد برادة أسئلة الرواية ،أسئلة النقد ، مرجع مذكور ، ص  103.
– حيدر حيدر ، وليمة لأعشاب البحر ، مصدر مذكور ص 51
– حيدر حيدر ، وليمة لأعشاب البحر ، مصدر مذكور ،ص 15.
– نفس الصدر ، ص  43.
نفس المصدر ص 22.
– نفس المصدر ، ص 37.
نفس المصدر ، ص 26.
حيدر حيدر ، وليمة لأعشاب البحر ، مصدر مذكور ص 15
-نفس المصدر ، ص 15
– نفس المصدر، ص 18.

قرأوا أيضا...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.