البصمة الوراثية كحجة في إثبات النسب

DNA ثانيا: حجية البصمة الوراثية
في إطار مدونة الأسرة أشار المشرع إلى الخبرة الطبية كوسيلة إضافية من وسائل الاثباث عامة وفي مجال إثباث النسب أو نفيه خاصة، وذلك في المادتين 153 و158 والمقصود بها الخبرة الطبية التي لم تبقى مقتصرة على الفحوصات الأولية فحسب وإنما تطورت إلى فحص ما يسمى بالبصمة الوراثية، ومن ثم أثير التساؤل حول الحجية التي تتميز بها الـADN، أي هل التقنية الـADN قطعية الدلالة ومعصومة من الخطأ ؟! أم أن هذه التقنية يكتنفها غموض وقابلة للخطأ ؟! ويجب تسليط الضوء على هذه الإشكالية نورد ما يلي:

1ـ الحجية المطلقة للبصمة الوراثية:
و لعل قطعية دلالة تقنية الـADN تتجلى في انفراد كل شخص بنمط وراثي مميز له لا يوجد عند أي كائن آخر في العالم، إذ لا يمكن أن يتشابه الـADN لشخصين إلا مرة واحدة من أصل 86 بليون حالة أي أن نسبة التشابه تساوى 1 من 86 بليون وإذا استحضرنا أن عدد سكان الكرة الأرضية لا يتجاوز 08 مليار نسمة[1] فإنه يمكن القول أن نسبة التشابه منعدمة تماما و لا يمكن أن تكون إلا بعد مئات القرون من الزمن.

ويرى علماء الطب الحديث المتخصصين أنهم يستطيعون إثبات الأبوة، أو البنوة لشخص ما أو نفيه عنه من خلال إجراءات الفحص على جيناته الوراثية حيث دلت الأبحاث الطبية التجريبية على أن نسبة النجاح في إثبات النسب أو نفيه عن طريق معرفة البصمات الوراثية يصل في حالة النفي إلى حد القطع أي بنسبة %100 أما في حالة الإثبات فإنه يصل إلى قريب من القطع وذلك بنسبة % 99 تقريبا[2]، إذا تم تحليل الحمض بطريقة سليمة حيث أن احتمال التشابه بين البشر غير وارد بعكس فصائل الدم التي تعتبر وسيلة إثبات نسبية الإحتمال للتشابه بين البشر، وقد أكد مختبر التحليلات الجينية للدرك الملكي بالرباط على أن حجية الحامض النووي في الإثبات تقدر بنسبة %99،9999 وهذا ما ورد التأكيد عليه في إحدى الأحكام الصادرة عن المحكمة الابتدائية بالجديدة بتاريخ 07/03/2007 الذي ورد في إحدى حيثياتها … وحيث انه أمام إنكار المدعى عليه للحمل الذي ظهر بالمدعية ونفيه أن يكون قد عاشرها، لجأت المحكمة إلى إجراء خبرة جينية على الحامض النووي باعتبارها وسيلة شرعية في إثبات النسب، عهد للقيام بها لمختبر التحليلات الجينية للدرك الملكي بالرباط، الذي خلص في تقريره المؤرخ في 19/04/2006 إلى أن المدعى عليه يعد بحق الأب البيولوجي للمولود المسمى … بنسبة %99،9999 …”[3]

وهذا ما ثم إثباته من خلال التحاليل الطبية المجرات على 16 حالة من طرف مصلحة علم الجينات الطبية التابعة للمعهد الوطني للصحة بالرباط (I .N.H) بطلب من محاكم الدرجة الأولى أو الدرجة الثانية في مجموعة من المدن المغربية والتي مكنت من إعطاء أكثر مصداقية لطرق البحث عن الأبوة مع دقة تقدر بـ %99،99[4]

وما يؤكد الحجية المطلقة للـADN إمكانية أخذها من أي مخلفات آدمية سائلة (الدم، اللعاب، المني) أو أنسجة (لحم، عظم، جلد، شعر) كما أنها تقاوم عوامل التحلل و التعفن و العوامل المناخية المختلفة من حرارة وبرودة ورطوبة وجفاف لفترات طويلة حتى أنه يمكن الحصول على البصمة من الآثار القديمة والحديثة

وعليه فالبصمة الوراثية حسب المتخصصين تعتبر أدق وسيلة عرفتها البشرية إلى حد الآن في تحديد هوية الإنسان[5] مع العلم أن نتائج البصمة الوراثية قاطعة لم تعد محل شك حتى في مجامع الفقه الإسلامي،حيث قرر المجمع الفقهي الإسلامي في دورته 16 المنعقدة بمكة المكرمة أيام 5 إلى 10 يناير 2002 بخصوص حجية الاثباث بالبصمة الوراثية أنها وسيلة تمتاز بالدقة لتسهيل مهمة الطب الشرعي ويمكن أخدها من أي خلية بشرية، ومن خلال البحوث والدراسات العلمية والمناقشات التي دارت حولها تبين أن نتائجها قد تكون قطعية في إثباث نسبة الأولاد إلى والديهم أو نفيهم عنهما، وأن احتمال وقوع الخطأ في البصمة الوراثية غير وارد من حيث هي وإنما الخطأ في الجهد البشري أو عوامل التلوث أو نحو ذلك[6]

وعقدت المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية حلقة نقاشية لدراسة حجية البصمة الوراثية في إثبات أو نفي النسب واعتبرت البصمة الوراثية وسيلة لا تكاد تخطئ في التحقق من الوالدين البيولوجيين، والتحقق من الشخصية ولا سيما في مجال الطب الشرعي، وهي ترقى إلى مستوى القرائن القوية التي يأخذ بها أكثر الفقهاء – في غير قضايا الحدود الشرعية – وتمثل تطورا عصريا عظيما في مجال القيافة الذي يذهب إليها جمهور الفقهاء في إثبات النسب المتنازع في ، ولذلك ترى الندوة أن يؤخذ بها في كل ما يؤخذ فيه القيافة من باب أولى .[7]

ولقد تبنى عدد من رجال القانون انطلاقا من القيمة القانونية التي تعتري مجال الطرق العلمية (الخبرة الطبية) فكرة أن لهذه الأخيرة حجية مطلقة باعتبارها دليل مادي  تعتمد قواعد علمية ثابتة ويقينية يمكن من خلالها الجزم بإثباث البنوة أو نفيها دون تأثير العواطف.

ومن القضايا التي أثارت ضجة إعلامية عالمية كبيرة، ووجدت حلولا شافية لها بواسطة البصمة الوراثية للحمض النووي باعتبارها قطعية الدلالة قضيه صدام حسين، وتتلخص وقائع هذه القضية المتعلقة بالرئيس العراقي السابق صدام حسين في ما راج من شائعات حول وجود شبيه له تم أسره دون الرئيس الحقيقي و هو ما دفع القوات الأمريكية تأجيل إعلان أسر صدام حسين إلى حين التأكد من هويته عن طريق تحليل الـADN .

وتبقى الإشارة واجبة إلى أن الأمريكان كانوا يحتفظون بـADN صدام حسين عندما كان حليفا لهم، وتمت مقارنة هذه العينات مع عينات أخرى أخذت من شعر صدام ولعابه، مباشرة بعد أسره في الجحر التكريتي، والتي أذيعت مباشرة على الهواء حين شاهد العالم بأسره الطبيب الأمريكي وهو يفحصه وللتأكد أكثر قورنت بعينات أخرى أخذت مباشرة بعد سقوط بغداد العاصمة وفرار صدام حسين، أخذت من فرشاة الأسنان التي كان يستعملها و من السيجار الكوبي الذي كان يدخنه، وللتأكد أكثر فأكثر تم أخذ عينات من الحامض النووي للأخ غير الشقيق لصدام حسين و المدعو برزان التكريتي و بما أن الأخ من الأم يحمل نصف الجينات التي يحملها صدام حسين وأهم ما في الأمر هو دراسة مصدر الطاقة في الخلية و التي تسمى الميتوكوندريال و التي تورث من خلال الأم فقط ومقارنتها بتلك التي لدى لصدام حسين وبعد كل هذه العمليات و المقارنات العلمية و التي قامت بها القوات الأمريكية، تم التأكيد وبصفة قطعية بأن المحتجز هو الرئيس العراقي السابق صدام حسين، وأن الأمر لا يتعلق بشبيه له، وبذلك كان الـADN كلمة الفصل في هذه القضية وبصفة قطعية[8].

2 ـ الحجية النسبية للبصمة الوراثية:
إن تقنية الـADN يمكن لها دون شك التعرف على الأشخاص وتحديد هويتهم سواء في المجال الجنائي أو المجال المدني أو مجال الأسرة ولكن لا يمكنها بأي حال من الأحوال منحنا الدليل القاطع على اتهام شخص معين، أو نسبة الأبناء إلى الآباء ويمكن اعتبارها عنصر من العناصر التي يعتمد عليها القاضي عند دراسته لملف معين دون أن ترقى إلى دليل قطعي غير قابل لإثبات العكس تتوقف عنده السلطة التقديرية للقاضي.

ويمكن القول أن التحاليل الجينية لا تشكل بأي حال من الأحوال سلاحا مطلقا لأول وهلة لأن هذه التقنية رغم حساسيتها تقتضي إحاطتها بشروط صارمة للأخذ بها، لأن التحليلات الطبية تفترض الدقة والصرامة في أخد العينات وتحليلها حتى يمكن الحصول على نتائج سليمة نسبيا،[9] وعليه فإن هذا الأمر يجرنا إلى التساؤل عن مدى اعتبار تقنية حمض الـADN قطعية الدلالة أم نسبية الدلالة مبنية على غلبة الظن؟.

لذلك سنورد بعض الحالات التي لا تكون لهذه التقنية الثقة الكافية والحجية المطلقة و من بعض هذه الحالات:

-الخطأ البشري:
بالرغم من الحجية القاطعة للبصمة الوراثية التي قال بها بعض المختصين من الأطباء وبعض الفقه القانوني، إلا أن الخطأ في الجهد البشري قد يضعفها، ويجعل حجيتها في الإثبات نسبية وظنية، كنقص في المؤهلات العلمية، وعدم سلامة الطرق والإجراءات التي توظف أثناء التحليل، وعدم حفظ المادة المستعملة في التحليل، إضافة إلى التلاعبات التي قد تتم في نتائج التحليلات الطبية من بعض عديمي الضمير، الذين لا يرجون لقاء الله، وهذا ما جعل البعض يتحفظ فيجعل النسبة أعلاه غالبا %99.999، وهو أمر لا يمس مصداقية هذه التقنية العلمية الحديثة في شيء [10]

إن استعمال تقنية الـADN يتطلب بالضرورة وجود بنك معلومات وحسب البروفيسور البريطاني” Alec jeffreys” كلما كانت المعطيات كبيرة داخل بنك المعلومات فإن النتائج تكون مؤكدة أكثر ” وكلما كبرت المعطيات وجدت إمكانية الخطأ لأن تسيير البنك يتم من طرف البشر، والبشر بطبعه خطاء.

و لكن عندما يتحدث البعض عن عيوب البصمة الوراثية فإنهم يشيرون إلى أن ذلك يحدث عندما لا يكون التحليل دقيقا بالكامل، وعندما يتم فحص عينات مختلفة على طاولة واحدة في المعمل نفسه أو عند تلوث العينة المأخوذة لسبب ما

وانطلاقا من كل ما سبق وحسب رأينا فإن تقنية الحمض النووي ADN) ( ومن دون شك هي ذات حجية قطعية من حيث أنها حقيقة بيولوجية وعلمية ثابتة لا يرقى إليها الشك إلا ما تم استثناؤه كحالة التوائم، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى فإنها ذات دلالة نسبية من حيث هي كدليل إسناد ونسبة الأبناء للآباء بحيث لا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تفصل في هذه المسألة، ويبقى القاضي ذو سلطة تقديرية واسعة لتقريرها كدليل والاستئناس بها وتدعيمها بقرائن أخرى.

وقد جاء ضمن التوصيات والنتائج التي خرجت بها أشغال مؤتمر الهندسة الوراثية بين الشريعة والقانون، المنعقد بجامعة الإمارات العربية المتحدة، ما بين 5 و7 مايو، سنة 2002 م، أن البصمة الوراثية تبقى طريقة حديثة وشديدة الدقة، إلا أنها عرضة للنتائج المضللة، إذا لم تستخدم بدقة، ولذلك يجب الالتزام بضوابط القبول العلمي، في جمع وحفظ العينات بطريقة سليمة، وإتقان عملية توثيق العينات البيولوجية وسلامة الإجراءات المختبرية[11]

وتبقى الإشارة واجبة إلى أن النظريات العلمية الحديثة من طبية وغيرها مهما بلغت من الدقة والقطع بالصحة في نظر المختصين إلا أنها تظل محل شك ونظر، لما علم بالاستقراء للواقع أن بعض النظريات العلمية المختلفة من طب وغيره يظهر مع التقدم العلمي الحاصل بمرور الزمن إبطال بعض ما كان يقطع بصحته علمياً، أو على الأقل أصبح مجال شك، ومحل نظر، فكم من النظريات الطبية علي وجه الخصوص – كان الأطباء يجزمون بصحتها وقطعيتها ، ثم أصبحت تلك النظريات مع التقدم العلمي الطبي المتطور ضرباً من الخيال[12]
نفي النسب بين اللعان والخبرة الطبية في ضوء القانون الوضعي
_____________________________________
[1] : نبيل سليم(البصمة الوراثية وتحديد الهوية)، مجلة حماة الوطن، عدد/265، 2004، الكويت.
[2] ـ وقد أكد لنا ذلك الدكتور بوعزة حمداني( أخصائي في طب الشغل وخبير لدى المحاكم) في إطار مقابلة شخصية أجريت معه في الموضوع بمقر عيادته الكائن بحي الإمارات الصخيرات بتاريخ 17/05/2010 على الساعة 11:45
[3] ــ حكم صادر عن المحكمة الابتدائية بالجديدة بتاريخ 07/03/2007، الملف عدد 804ـ05، منشور بكتاب المنتقى من عمل القضاء، وزارة العدل، الجزء الأول،  منشورات جمعية نشر المعلومة القانونية والقضائية، العدد 10، فبراير 2009 الصفحتان 264 و 265
[4] -Amira HORCHANI : APPLICATION DES EMPREINTES GENETIQUES DANS L’ETABLISSEMENT DE LA FILIATION PARENTALE : A PROPOSE DE 16 DOSSIERS ANALYSES A L ‘INH DE RABAT (thèse pour l’obtention du doctorat en pharmacie) ; UNIVERSITE MOHAMED V FACULTE DE MEDECINE ET DE PHARMACIE _RABAT_ ; ANNEE 2009 ; P 95
وتبقى نسبة أو إمكانية التشابه بين شخصين  في الجينات الوراثية  حسب الخبرات الطبية المجرات من طرف المعهد الوطني للصحة بالرباط جد ضعيفة تتراوح ما بين% 0.0001 و % 0.0851 للتوسع أكثر أنظر الملحق
[5] محمد الكشبور- المرجع السابق- ص 191
[6] إدريس الفاخوري، ندوة: مدونة الأسرة بعد ثلاث سنوات من التطبيق الحصيلة والمعوقات، أشغال الندوة الدولية المنظمة من طرف مجموعة البحث في القانون والأسرة، يومي 15 / 16 مارس 2007 بكلية الحقوق وجدة ، طبعة 2008، ص 193
[7] سعد الدين مسعد هلالي، القضايا الطبية المستحدثة وحيثيات أحكامها الشرعية، من واقع توصيات المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، ندوات المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية الخمسة عشر، الكويت، 2004، ص 95، منشور على الموقع الالكتروني التالي:    http://www.emro.who.int/ahsn/pdf/MedicalEthicsAr.pdf تم الاطلاع عليه بتاريخ 03/05/2010 على الساعة 11:42
[8] خالد منتصر، وهم الإعجاز العلمي، الطبعة الأولى 2005 دار العين للنشر، الصفحتان 165 و 166
Amira HORCHANI : APPLICATION DES EMPREINTES GENETIQUES DANS L’ETABLISSEMENT DE LA FILIATION PARENTALE : A PROPOSE DE 16 DOSSIERS ANALYSES A L ‘INH DE RABAT ; op.cit P55 ـ [9]
[10] محمد الكشبور، المرجع السابق، ص 191
[11] أشغال مؤتمر الهندسة الوراثية بين الشريعة والقانون، كلية الشريعة والقانون، المنعقد بجامعة الإمارات العربية المتحدة، المجلد 2، فندق هلتون العين 5ـ7 مايو، 2002 م ص 736 منشور على الموقع الالكتروني التالي: http://slconf.uaeu.ac.ae/prev_conf/2002/2.pdf ، تم الاطلاع علية بتاريخ 01/05/2010 على الساعة 11:47 صباحا.
[12] – أنظر البصمة الوراثية وتأثيرها علي النسب إثباتاً ونفياً ، للدكتور نجم عبد الواحد ص 6 ، مناقشات جلسة المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي عن البصمة الوراثية في دورته ( 15 ) ، ص 6 .

قرأوا أيضا...

1 فكرة عن “البصمة الوراثية كحجة في إثبات النسب”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.