بحث حول دور التدابير الوقائية في مكافحة الظاهرة الإجرامية
الفصل الأول : المبادئ العامة للتدابير الوقائية
الفرع الثاني : خصائص وشروط التدابير الوقائية والضمانات والقواعد التي تخضع لها
المبحث الأول : خصائص وشروط التدابير الوقائية
تنطوي التدابير الوقائية على مجموعة من الخصائص الجوهرية التي تبرز أهميتها في كونها تكفل التمييز بين التدابير الوقائية وبين غيرها مما قد يشتبه بها وتحدد أيضا طبيعة ونطاق القواعد الواجبة التطبيق عليها. من جهة ثانية نجد أن ما يميز التدابير الوقائية طابعها الفردي، فالأصل أنها تطبق بعد فحص اجتماعي وصحي وعقلي ونفسي، ومؤدى ذلك ضرورة توافر شروط خاصة فيمن تطبق عليه وفي التدبير الواجب التطبيق، حتى يتلاءم مع حالته، ويحقق الهدف المنشود منه، ولأجل توضيح هذه الخصائص والشروط سنعمل على تقسيم هذا المبحث إلى مطلبين نشير في المطلب الأول إلى خصائص التدابير الوقائية وفي مطلب ثاني لشروط تطبيق هذه التدابير.
المطلب الأول : خصائص التدابير الوقائية
تتميز التدابير الوقائية بالعديد من الخصائص يمكن إجمالها فيما يلي :
ـ تهدف التدابير الوقائية إلى مقاومة الخطورة الإجرامية الكامنة في المجرم. وبهذه الخاصية تكون التدابير الوقائية متجهة دوما نحو المستقبل وذلك لدرء كل خطر قد يصدر عن المجرم سواء كان مختلا عقليا أو مجرما حدثا أو مجرما بالغا.
ـ نطاق التدابير الوقائية أوسع بكثير من نطاق العقوبة، حيث يمكنه أن يشمل عدة فئات من المجرمين، وما على القاضي إلا اللجوء إليها كلما توفرت لديه دلائل وجود الخطورة الإجرامية لدى الجاني.
ـ تخضع التدابير الوقائية لقاعدة شرعية التجريم والعقاب، وهذا يعني بأنه لا تدبير وقائي إلا بنص قانوني صريح، فالمشرع المغربي ينص في الفصل 8 من القانون الجنائي على أنه لا يجوز الحكم بأي تدبير وقائي إلا في الأحوال وطبق الشروط المقررة في القانون وأنه لا يحكم إلا بالتدابير المنصوص عليها في القانون النافذ وقت صدور الحكم.
ـ تتميز التدابير الوقائية كذلك بخاصية الشخصية حيث أنها لا تطبق مثلها في ذلك مثل العقوبة إلا على المجرم المرتكب للجريمة سواء كان فاعلا أصليا أو مساهما أو مشاركا. ولاشك في أن المقصود بهذه الخاصية هو أن المحكوم هو الذي يبقى خاضعا للتدابير الوقائية المحكوم بها عليه دون أن تمتد آثارها إلى غيره من الأفراد.
ـ التدابير الوقائية تبقى دائما مرتبطة بفكرة الخطورة الإجرامية، وبالتالي فهي تسري فقط على المستقبل لمنع المجرم من السقوط ثانية في مغبة الجريمة. ونشير في هذا الصدد إلى أن مفهوم الخطورة الإجرامية لم يتم تعريفه في النظام الجنائي المغربي، بينما نجد أن العديد من التشريعات الأجنبية قد حددت المقصود بهذا المفهوم( ).
تتجه التدابير الوقائية أساسا إما إلا سلب حرية الجاني (كالإقصاء والإجبار على الإقامة أو المنع من الإقامة) أو سلب حقوقه (كالمنع من مزاولة مهنة أو نشاط أو فن أو سقوط الحق في الولاية على الأبناء أو عدم الأهلية لمزاولة جميع الوظائف أو الخدمات العمومية).
إذا كانت هذه هي خصائص التدابير الوقائية، فماذا عن شروط تطبيقها ؟
المطلب الثاني : شروط التدابير الوقائية
لكل تدبير وقائي على حدة شروطه التي تستخلص من نوع ودرجة الخطورة الإجرامية التي يراد له أن يواجهها، وتختلف التدابير فيما بينها من هذه الوجهة، ولكن ثمة شرطين يثوران عند البحث في جميع التدابير الوقائية. ولذلك كانت دراستهما جزءا من دراسة النظرية العامة للتدابير الوقائية، وهذان الشرطان هما : ارتكاب جريمة سابقة، وتوافر الخطورة الإجرامية.
أولا : الجريمة السابقة
الحجية في اشتراط ارتكاب جريمة سابقة : يتجه الرأي الغالب في الفقه إلى اشتراط ارتكاب المتهم جريمة حتى يتصور أن يثور البحث في إنزال التدبير الوقائي به، وأهم حجة تدعم هذا الاشتراط هي الحرص على حماية الحريات الفردية. إذا السماح بإنزال التدبير الوقائي، ـ وقد يكون ثقيل الوطأة لانطوائه على سلب للحرية غير محدود المدة ـ على شخص لم يرتكب جريمة لمجرد احتمال أنه قد ترتكب في المستقبل جريمة، هو عدوان خطير على الحريات الفردية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن هذا الاشتراط لا يدعم خضوع التدابير الوقائية وحالات توقيعها لمبدأ “الشرعية” وهو بعد ذلك يبين للناس عاقبة سلوك محدد، فيحملهم ذلك على اجتنابه تجنبا لهذه العاقبة.
ومن ناحية أخرى فما السبيل إلى القول باحتمال ارتكاب شخص جريمة في المستقبل ؟ أهي العلاقات التي قال بها لمبروزو وتجردت الآن من القيمة العلمية، أم هي تحريات السلطات العامة، وقد لا تخلو من التعسف والاستبداد ؟ إن أهم قرينة على توافر هذا الاحتمال هي ارتكاب جريمة بالفعل، إذ الغالب في من أجرم مرة أن يخشى إجرامه من جديد، وليس الشأن غالبا كذلك في من لم يسبق إجرامه.
ـ الجريمة في مدلول النظرية العامة للتدبير الوقائي
الجريمة في مدلول النظرية العامة للتدبير الوقائي يراد بها الفعل الإجرامي أي الفعل المتصف من الوجهة الموضوعية بطابع عدم المشروعية، أو هو بتعبير آخر الفعل الخاضع لنص تجريم غير الخاضع لسبب إباحة، ويعني ذلك أن الركن المعنوي ليس من عناصر الجريمة في هذا المدلول. ومن ثم كان التدبير الوقائي جائزا قبل من لا يتصور توافر الركن المعنوي إزاءه كالمجنون، ونستطيع القول بأن المشرع يحل الخطورة الإجرامية محل الخطيئة، وتقوم الأولى في نظرية التدبير الوقائي بالدور الذي تقوم به الثانية في نظرية العقوبة( ).
ثانيا : الخطورة الإجرامية
يمكن تعريف الخطورة الإجرامية بأنها حالة تتوفر لدى شخص وتفصح عن ميله لارتكاب جريمة، وبتعبير آخر يمكن القول بأنها احتمال ارتكاب جريمة تالية، ومؤدى هذا التعريف الأخير أن الخطورة تقوم على عنصرين : الاحتمال وموضوع ينصب عليه هذا الاحتمال، وهو الجريمة التالية وتحليل التعريف السابق للخطورة الإجرامية يقتضي بيان مدلول الاحتمال وتحديد المراد بالجريمة التالية التي يتعلق بها هذا الاحتمال.
يقصد بالاحتمال تحديد العلاقة التي تربط بين ظاهرتين بحيث يمكن القول استنادا إلى هذا الربط أن تحقق ظاهرة معينة قد يقود إلى حدوث ظاهرة أخرى. وبتعبير أكثر تفصيلا فإن الاحتمال يعني العلاقة التي يمكن تأثير العوامل الإجرامية الحاضرة في إحداث جريمة تالية.
ودراسة الاحتمال على هذا النحو تستوجب الاستعانة بأبحاث علم الإجرام لتحديد العوامل المؤدية إلى ارتكاب الجريمة وقوة هذه العوامل في إحداثها، وعلى أساس هذا التحديد يمكن القول بأن وجود عامل شخصي أو اجتماعي … لدى أحد الأشخاص يجعل من المحتمل ارتكاب جريمة تالية( ).
ـ التفرقة بين الحتمية والاحتمال والإمكان :
الخطورة الإجرامية لا تعني حتمية ارتكاب جريمة تالية، ولا تعني كذلك إمكانية ارتكابها، وإنما تعني احتمال ذلك، فنحن نستبعد الحتم والإمكان من مجال البحث في الخطورة الإجرامية. ومرجع ذلك أن الأول مفهوم غير منطقي في مجال العلوم الاجتماعية، والثاني غير كاف للاستناد إليه والقول بتطبيق تدبير وقائي. وتوضيح ذلك أن الحتم يفترض العلم بكافة العوامل الدافعة لارتكاب الجريمة، والجزم بأنها تؤدي بلا محاولة إلى إحداثها، ولا شك أن ذلك ـ وإن كان بمثابة أمنية عزيزة لدى الباحثين في الظاهرة الإجرامية ـ إلا أنه غير ممكن، بل غير متصور. أما الإمكان فإنه يعني أن قوانين الطبيعة قد تدلل على وقوع الظاهرة وفي نفس الوقت قد تنفيها، ولاشك أن اعتبارات الحرية الفردية تجعلنا نرجح في هذه الحالة عدم حدوث الجريمة حتى لا يطبق التدبير. فالخطورة الإجرامية تستوجب الاستناد على علامات ظاهرة تجعل وقوع الجريمة التالية أقرب من عدم وقوعها، أي تجعل وقوع الجريمة التالية راجحا، وعدم وقوعها مرجوحا.
فالاحتمال يتحقق إذن إذا أمكن الإحاطة بالكثير من العوامل الدافعة إلى ارتكاب الجريمة وأمكن التثبت أن هذه العوامل تقود عادة ووفقا للمجرى العادي للأمور إلى إحداث الجريمة.
ومؤدى ما سبق أن يقين القاضي بتوافر الاحتمال إنما يكون حصيلة مقارنة علمية بين العوامل المختلفة المؤدية للجريمة لتحديد أثرها في إحداث الجريمة التالية.
ـ الجريمة التالية
ينصب الاحتمال على ارتكاب جريمة تالية دون تحديد لدرجة جسامة هذه الأخيرة، ودون تعيينها، فمطلق الجريمة كاف لتوافر هذا العنصر. فلا أهمية للتفرقة بين جنايات وجنح ومخالفات، ولا أهمية للمصلحة التي قد يتحقق الاعتداء عليها بهذه الجريمة، كذلك لا يهم التوقيت الذي يمكن أن تقع فيه هذه الجريمة، وإن كان اقتراب توقيت ارتكابها يجعل القاضي أكثر قناعة باحتمال ارتكابها.
الخطورة الإجرامية تتمثل إذن في احتمال ارتكاب جريمة في المستقبل، فهي خلاصة الحكم على مجموعة من العوامل وتحديد مدى فعاليتها في إحداث الجريمة، ورغم أن المشرع المغربي لم يضع لها تعريفا، إلا أن الفقه يسلم بها باعتبارها شرطا أساسيا لتطبيق التدابير الوقائية
_____________________
( ) د. محمد بن جلون : شرح القانون الجنائي العام، المرجع السابق، ص. 243.
( ) محمود نجيب حسني : شرح قانون العقاب، القسم العام، ص. 938 ـ 939.
( ) د. عمر سالم : النظام القانوني للتدابير الاحترازية، دراسة مقارنة، طبعة 1995، ص. 121.