الرشوة هي اتجار الموظف ومن في حكمه بالوظيفة الموكولة إليه، أو بالأحرى استغلال السلطات المخولة له بمقتضى تلك الوظيفة لحسابه الخاص، وذلك حين يطلب لنفسه أو لغيره، أو يقبل أو يأخذ وعدا أو عطية لأداء عمل من أعمال وظيفته، أو يزعم أنه من أعمال وظيفته، أو للامتناع عن ذلك العمل أو الإخلال بواجبات الوظيفة( ).
ودون الخوض في سرد التعاريف الفقهية والقضائية العائدة لهذه الجريمة الداء( )، فحسبنا القول في هذه التوطئة بأنها داء خبيث إذ هو انتشر في المجتمع قضى أولا على مبدأ مساواة المواطنين أمام القانون، فترى حينئذ حقوق الذي لا يملك أو يملك ولا يدفع، -أو يدفع أقل- تقوت للذي يملك ويدفع أكثر، وهو ما يؤدي في نهاية المطاف إلى اختفاء فكرة القانون ذاتها في المجتمع الذي نخرته الرشوة وقوضت تماسكه، بعد أن غيبت فيه فكرة العدالة كقيمة من القيم السامية، التي لا يؤكدها ويدعمها غير مبدأ مساواة الجميع أمام القانون، وعصفت ثانيا بالثقة التي ينبغي أن تجمع المواطن بدولته وبمرافقها، لذلك نجد الشريعة الغراء تحارب هذه الظاهرة الممقوتة بتحريمها عندما ينهي الكتاب والسنة عن السقوط في براثنها، وهكذا جاء في قوله تعالى: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون ( ).
وإذا كان الأصلين السابقين قد ذكرا رشوة الحكام (القضاة) دون غيرهم من خدام الدولة، فإنما كان ذلك بسبب أنها كانت في الأصل تقدم للقاضي من طرف الراشي لكي ينحاز إليه، إلا أنه أمام تعدد المرافق العامة في الدولة الإسلامية، فقد تجاوزت –أي الرشوة- مرفق القضاء، وإن ظلت غالبة الوقوع فيه، إلى غيره من المرافق ، فأصبحت بذلك تفيد كل ما يقدم للموظف، أو المكلف بخدمة عامة لكي يقوم بعمل (أو الامتناع عنه) يعود بالنفع على الراشي، ومؤيدنا في ذلك ما جاء في الموطأ من أن رسول الله كان يبعث عبد الله بن رواحة إلى خيبر ليخرص (أي ليقدرما على النخل من الثمر) بينه وبين يهود خيبر، فجمعوا له حليا من نسائهم فقالوا هذا لك وخفف عنا وتجاوز في القسم، فقال عبد الله يا معشر اليهود والله إنكم لمن أبغض خلف الله إلي وما ذاك بحاملي على أن أحيف عليكم، فأما ما عرضتم علي من الرشوة فإنها سحت (مال حرام) وإن لا نأكلها فقالوا بهذا قامت السموات والأرض.
وظلت الشريعة الإسلامية تواجه بمنطقها التشريعي المرن كل نازلة، غير عاجزة عن إيجاد الحلول الملائمة لها، وهي لم تستعن في ذلك بتشريع آخر خارج عن ذاتها، وإنما احتوت نصوصها واستوعب كل المشاكل الطارئة، ولم تبق واحدة منها معلقة بدون حل تشريعي ( ).
أما بالنسبة للتشريعات الوضعية المعاصرة فالإجماع منعقد بينها على تجريم الرشوة والعقاب عنها إلا أن الملاحظ فيما هو ظهور هذه الجريمة بتنظيمين مختلفين.
التنظيم الأول: وهو اتجاه يعتبر أن الرشوة تتكون من جريمتين مستقلتين، ولو أن عقوبتهما واحدة- أولا جريمة المرتشي الذي يكون مقترفها لزوما موظفا عموميا، أو في حكمه، وثانيهما جريمة الراشي التي لا يشترط في فاعلها توافر أية صفة كانت من الصفات، فبمقتضى هذا النظام الأول فإذا دفع شخص لموظف عمومي مثـلا مقابلا لأداء خدمة له وقبلها هذا الأخيـر فإنه يعتبر مرتكبها لجريمة ارتشاء (ويطلق عليها الفقه الفرنسي الرشوة السلبية أما الذي قدم المقابل له فيعتبر راشيا ويعاقب بكيفية مستقلة (ويطلق عليها الفقهاء في فرنسا الرشوة الإيجابية والنظام السابق هو السائد في التشريع الجنائي التونسي (المواد 83-91) والأردني 170-173) والألماني (المواد 331-335) والفرنسي (المواد 177-183) وعن هذا الأخير اقتبس المشرع الجنائي المغربي الأحكام العائدة للرشوة، ولذلك اعتبر أن الرشوة تتشكل في صورتين مستقلتين هما جريمة الراشي (م 251 ق ج) وجريمة المرتشي (فصلين 248 و 249 ق ج) ( ).
التنظيم الثاني: وهو اتجاه يعتبر بأن الرشوة جريمة واحدة يرتكبها الموظف العمومي الذي يستغل وظيفته وحده كفاعل أصلي، أما الذي يقوم بتقديم الرشوة له مقابل أدائه خدمة له، فيعتبر شريكا للموظف المرتشي في جريمة الرشوة، وتسري عليه أحكام المشاركة، وقد اتبعت هذا الاتجاه الأخير التشريعات الجنائية لكل من مصر (المواد 128 – 134ع) وإيطاليا المواد (321-326ع) والعراق (المواد من 90 إلى 97ع).
وكما هو واضح فإن وجه الاختلاف بين النظامين المنوه عنهما أعلاه يمكن أساسا في بعض الحالات التي لا ترتكب فيها الجريمة بصورة تامة والتي من أهمها حالة رفض الموظف العمومي للرشوة التي عرضت عليه من قبل الغير حيث يكون الراشي بمقتضى النظام الأول مستحقا للعقاب بينما لا يعاقب عملا بالنظام الثاني بسبب استعارة الراشي للتجريم دوما من الفاعل الأصلي الذي هو الموظف العام المرتشي ( )، وعلى كل فإن وجه الخلاف بين النظامين على الرغم من وروده نظريا، فقد اضمحل عمليا تماما بسبب أن النظام الذي جعل من الرشوة جريمة واحدة يعاقب الراشي بنص مستقل عندما لا تتم الجريمة.
وعلة تجريم الرشوة إنها اتجار بالوظيفة أو الخدمة العامة، أي انحراف بها عن الطريق السوي، وإنزالها منزلة السلع الرائجة التي تباع وتشترى وتجريدها من سموها وقيمتها الحقيقية باعتبارها خدمات عامة مقررة لمصلحة المواطنين.
فالرشوة تقوم على التفرقة الظالمة بين المواطنين، فمن يدفع مقابلا، مكافأة- تؤدي لمصلحته الخدمات الوظيفية ومن لا يستطيع أولا يريد ذلك تعففا تهدر مصالحه وحقوقه… وهذا بقدر ما يخرق مبدأ المساواة بين الأفراد المتساوين في المركز القانوني، يهدر ثقة المواطنين في نزاهة الجهاز الإداري للدولة ثم أنه يحمل بعض المواطنين عديمي الضمير إلى الاعتقاد بقدرتهم على شراء ذمة الدولة من خلال موظفيها، و هذا من أخطر ما قد يصيب الجهاز الإداري في دولة من الدول.
وعموما فإن الرشوة إن دبت في أجهزة الحكم أو تسربت إلى المصالح العمومية، فإنها تكون ولاشك وبالأعلى النظام السياسي و الاجتماعي ككل، وزعزعة للثقة في أعمال موظفي الدولة، مع ما يترتب على ذلك من انعكاسات سلبية على الاستقرار السياسي والاجتماعي في البلاد، ولعل العديد من الاضطرابات والانقلابات التي عرفتها بعض الدول، كان سببها المباشر أحيانا انتشار آفة الرشوة داخل أجهزة الحكم فيها وفي أوساط مجتمعها عامة.
بعد هذه التوطئة نرى أن نبحث الرشوة في أربع مباحث كالآتي:
المبحث الأول: جريمة المرتشي
المبحث الثاني: جريمة الراشي
المبحث الثالث: الوساطة في الرشوة
المبحث الرابع: إثبات جريمة الرشوة وعقوبتها.
مقتطف من ” جريمة المرتشي: صفة , الركن المادي والمعنوي في جريمة المرتشي “