يكشف إطار نظري للامركزية بالمغرب عن التحديات التي واجهت اللامركزية الكلاسيكية حتى دستور 2011، ويحلل كيف أثرت هذه التحديات على تقديم الخدمات الأساسية. هل ستتمكن اللامركزية من التكيف مع احتياجات السكان المتزايدة؟
المطلب الثاني: أسباب فشل اللامركزية الكلاسيكية
وجدت اللامركزية الكلاسيكية نفسها أمام مجموعة من التحديات1، وهذا ما سبب في اصطدام هذه الأخيرة مع تزايد حاجات السكان الأساسية وتوفير الخدمات الضرورية التي لم تعد خدمات روتينية عادية، بل أصبح من الضروري توفير الماء والكهرباء والطرق والمستشفيات والمدارس، وأيضا توفير مناصب الشغل والمشاريع الاقتصادية.
وعدم انسجام هياكل الجماعات المحلية – الترابية – ووسائلها مع هذه التحولات سيلقي بها في أزمة بنيوية أصبحت تهدد وجودها، إذن ماهي العوامل الأساسية التي أبانت عن فشل المقاربة الكلاسيكية للجماعات الترابية بالمغرب في تدبير شؤنها؟ وهل يمكن اعتبار فشل هذه المقاربة هي السبب الرئيسي في تبني مرحلة جديدة من اللامركزية بالمغرب مع دستور 1992؟
وللإجابة عن هذه الأسئلة الفرعية سنحيط علما في هذا المطلب بالأسباب الرئيسية التي أدت لفشل المقاربة الكلاسيكية للامركزية بالمغرب عبر العناصر التالية:
- الفرع الأول: الجماعات الترابية الكلاسيكية إطار للتسيير الإداري
- الفرع الثاني: ضعف أداء النخب المحلية
- الفرع الثالث: ضعف الموارد المالية للجماعات الترابية مقابل توسيع الاختصاصات
الفرع الأول: الجماعات الترابية الكلاسيكية إطار للتسيير الإداري
إن هيكلة الجماعات الترابية الذي عملت به لمدة طويلة، تظهر أن هذه الأخيرة لا زالت مهامها تنصب حول تأطير سياسي وإداري للسكان، في حين ظلت السلطة المركزية وممثلوها تمارس الاختصاصات الجوهرية وتستحوذ على الوسائل الكفيلة بخلق تنمية حقيقة في التصور والعمل، فالهياكل الكلاسيكية وجدت أصلا لتأمين وظائف الحكم وتأطير السكان، وغير قابلة للقيام بالمهام الجديدة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية2، فهي من حيث أهدافها المعلنة جماعة ترابية تدخل في نطاق اللامركزية، لكن من حيث وظائفها تعتبر مؤسسة أو مقاطعة إدارية تابعة للدولة، خاصة على مستوى الجماعات القروية، حيث تبقى دائرة ذات طابع إداري وسياسي، إذ لم تكتسب بعد بعدا اجتماعيا كجماعة ترابية.
إن إطلالة سريعة على التشريعات الخاصة بالجماعات الترابية، يظهر لنا بجلاء أنه لم تكن لدى واضعي ميثاق 1960 رؤية واضحة واستراتيجية متكاملة للدور التنموي الذي يمكن أن تلعبه الجماعات الترابية، وحتى إذ تعمقنا مع ظهير 1976 نجده لازال حبيس اعتبارات لم تستطع معها الجماعات الترابية أن تتخلص من الإطار الإداري الضيق.
ومن خلال قراءة أفقية للنصوص القانونية التي تأطر عمل لجماعات الترابية بالمغرب في فترة ممتدة من 1960 إلى حدود سنة 2010 يمكن استخلاص نتيجتين3:
هجانة البنيات وروتينية وظائف الجماعات الترابية، عملت السلطات العمومية غداة الاستقلال على إبقاء النموذج الاستعماري في التسيير الإداري العام، مع بعض الإصلاحات الطفيفة المستوحاة من التجربة الفرنسية، وهي إصلاحات لا تتماشى مع الخصوصيات الوطنية، الشيء الذي جعل هذه النماذج المستوردة غير ملائمة للواقع السياسي والاجتماعي والإداري المغربي.
ولذلك فالجماعات الترابية بالمغرب التي كانت من المفروض أن تشكل البنية الأساسية لتأطير مختلف الأنشطة اللامركزية، لم تستطيع أن تقوم بهذا الدور التنموي، نظرا لهجانة بنياتها وهيمنة البعد الإداري في المؤسسة والناتج أساسا عن تأثر الواضح لدى واضعي ميثاق 1960 بقانون 1884 الفرنسي4.
الواقع أن المسألة الجماعية بالمغرب لم تكتسب أبعادها الحقيقية وتكرس واقعها العملي، إلا بعد 1976 في المجال الحضري على الأقل، ولذلك فإن أهم العيوب التي لا زالت تطبع النصوص المنظمة للجماعات الترابية هي أنها لا تطرح أهمية التباينات القائمة بين الجماعات الترابية وخاصة بين القروية والحضرية إذ ظلت النصوص تتكلم عن نفس الاختصاصات ونفس الموارد، وبالتالي ظلت بنية الجماعات القروية رهينة لمثالية المشرع المغربي دون أن تستفيد من أي تطور عملي قصد التقليص الفرق الهائل بينها وبين مجموعة من الجماعات على المستوى الحضري.
أما بالنسبة للعمالات والأقاليم، فالتنظيم الإقليمي جعل من العامل الجهاز المنفذ لمقرارات المجلس، وصاحب السلطة الأولى في الإقليم.
إن التأمل في الاختصاصات التي منحت للعمالات والأقاليم يتضح لنا بجلاء أن هذه الأخيرة ظلت تعاني من مجموعة من الإكراهات حالت دون القيام هذه الأخيرة بوظائفها من قبيل، هيمنة العامل على سائر الحياة الاقتصادية، مما يجعل منه الرئيس الفعلي في حين تبقى وظيفة المجالس التداولية الإقليمية شكلية5.
ضعف السلطات الاقتصادية للجماعات الترابية، لقد تم إحداث الجماعات الترابية في المغرب ما بعد الاستعمار بهدف خلق لا مركزية إدارية وليست اقتصادية، مما جعل الإطار القانوني المعتمد عليه وكذا بنيته الترابية من خلال التقسيم الإداري لم تكن إلا استجابة لمعطيات سياسية وإدارية دون إقحام البعد الاقتصادي والاجتماعي في القاعدة الأساسية لبناء الجماعات الترابية.
وهذا ما جعل المشرع المغربي منذ ظهير 1960 لا يعطي للجماعات الترابية إلا اختصاصات تنصب أساسا في المجالات الإدارية العادية: الحالة المدنية، التعليم، في حين أن ان إصلاح 1976 وعلى الرغم من توسيعه لدائرة الاختصاصات وتجديد التدخل في بعض المجالات الاقتصادية والاجتماعية والقافية، فقد أبقاها محدودة لا من حيث إطارها القانوني العام بل أيضا من حيث جوانبها المادية والبشرية6.
ولعل عمومية النص على التنمية بأبعادها الثلاثة، تؤدي إلى غموض فيما يرجع لتحديد مختلف هذه المجالات وقياس درجة التدخل، بالمقابل لم يتحقق التدخل الاقتصادي ولاجتماعي للجماعات الترابية كما هو مطلوب للرفع من المستوى التنموي سواء بواسطة إنشاء مرافق محلية أو عن طريق تقنيات غير مباشرة، كأن تقوم بتوفير الإطار الملائم لتشجيع واستقبل الاستثمار الخاص.
الفرع الثاني: ضعف أداء النخب المحلية
تعرضت النخبة المحلية لعدة انتقادات مرادها ضعف الأداء خصوصا من داخل الإدارة الترابية، حيث رغم سعي المشرع إلى النص على عدة مقتضيات قانونية كفيلة بتوفير الشروط الذاتية والموضوعية للرفع من هذا الأداء إلا أن انحراف السلوك الوظيفي والغموض في الاختصاص الإداري ظل سمته الأساسية. وعند الخوض الموضوعي في مردودية النخبة المحلية من خلال التراكمات السوسيو-ثقافية، السياسية والإدارية لفهم معيقات التحديث الإداري الترابي، سنجد أن هذه الأخيرة ظلت حبيسة الشكلانية والعقم الإبداعي والسلوكي وكانت فيها المنفعة الذاتية والزبونية والارتباط السلبي بالقبيلة والارتباط السلبي بالقبيلة أو الجماعة محدد وموجها لأدائها7.
فالنخبة القروية مثلا تعتمد في تعبئتها لقواعدها وحصولها على تمثيليتها النيابية على المحددات القبلية والفوائد الرمزية والمادية التي يرى عبرها الناخب عملية التصويت، أي أن نوايا التصويت ترتكز إلى محددات مادية أكثر منها موضوعية، والحديث هنا عن المقاربة السلوكية في تحديد التوجه الانتخابي للناخب8.
فهذه البنية التقليدية الجامدة أثرت على عملية التحديث في كل مستويات الإدارية والمجالية وغيرهما، وخلقت اختلالا واضحا في معادلة الواقع المفروض توازنها بين اللامركزي واللامتمركز أي بين الناخب والمعين.
مما يوضح أن النخب المحلية المفرزة سياسيا أو مجتمعيا ليست مؤهلة كفاية لتحمل مسؤولياتها كاملة والمحافظة على اختصاصات كاملة غير منقوصة، كما أنه من المهم التحلي بالقدرة اللازمة للوفاء بها وليس التهرب منها في ممارسة سياسية متواكلة9.
الفرع الثالث: ضعف الموارد المالية للجماعات الترابية مقابل توسيع الاختصاصات
أدى تطور القانوني المتعلق بتوسيع وتدقيق اختصاصات الجماعات الترابية – الجماعات الحضارية والقروية والعمالات والأقاليم – خاصة بعد إصلاح سنة 2002 إلى إعطاء هذه الأخيرة صلاحيات واختصاصات لا يقابلها تحويل في الموارد ورصد الاعتمادات.
إن أهم المداخل نحو تحديث الإدارة الترابية والرفع من تنافسيتها المالية هو إعادة النظر في طرق إعداد ميزانيات الجماعات الترابية وتنفيذها ونظام الجبايات المحلية، فالمداخيل الذاتية لهذه الأخيرة حسب المعطيات لا تغطي في أحسن الأحوال 60 في المائة من نفقاتها، فإذا إذا كانت المداخيل الذاتية لا تستطيع حتى تغطية نفقات المجال المنتخبة والموظفين وباقي النفقات الاستهلاكية فكيف يمكنها أن تمول المشاريع وبرامج تنموية.
فالمداخيل الذاتية الجماعات الترابية حققت سنة 2005 ما يفوق 7.2 مليار درهم وأغلبها مداخيل جبائية، في حين تتعدى تحملات هذه الأخيرة 12 مليار درهم، وتوضح لنا بجلاء هذه المؤشرات ضعف التمويل الذاتي والاتكال على الاعتمادات المحولة من الدولة.
إضافة إلى مجموعة من الأسباب الأخرى التي أدت إلى فشل اللامركزية الكلاسيكية: التقسيم الجماعي. القانون الانتخابي. التقطيع الانتخابي. نمط الاقتراع.
وفي ختام هذا المطلب، جاز لنا طرح الفرضية التالي: هل فعلا أن فشل المقاربة الكلاسيكية للامركزية كانت السبب الرئيسي في تبني الجهوية ذات بعد اقتصادي واجتماعي، وهذا ما سوف نحاول الإجابة عنه في المبحث الثاني.
________________________
1 ﻣﻦ أﺑﺮز ھﺬه اﻟﺘﺤﺪﯾﺎت ﻧﺠﺪ: – ﺑﺮوز اﻟﺜﻮرة اﻟﺤﻀﺮﯾﺔ. – ﻋﻮاﻣﻞ اﺟﺘﻤﺎﻋﯿﺔ. ↑
2 ﻋﺰﯾﺰي ﻣﻔﺘﺎح، أطﺮوﺣﺔ ﻟﻨﯿﻞ اﻟﺪﻛﺘﻮراه ﻓﻲ اﻟﻘﺎﻧﻮن اﻟﻌﺎم، “اﻟﻼﻣﺮﻛﺰﯾﺔ ﻣﻦ اﻟﺘﺴﯿﯿﺮ اﻹداري إﻟﻰ ﺗﺪﺑﯿﺮ اﻟﺘﻨﻤﯿﺔ”، ﺟﺎﻣﻌﺔ ﻣﺤﻤﺪ اﻟﺨﺎﻣﺲ، ﻛﻠﯿﺔ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﻘﺎﻧﻮﻧﯿﺔ واﻻﻗﺘﺼﺎدﯾﺔ واﻻﺟﺘﻤﺎﻋﯿﺔ – أﻛﺪال، اﻟﺮﺑﺎط – اﻟﺴﻨﺔ اﻟﺠﺎﻣﻌﯿﺔ 2001-2000، ص.130 ↑
3 أﺣﻤﺪ ﺑﺮداري، أطﺮوﺣﺔ ﻟﻨﯿﻞ اﻟﺪﻛﺘﻮراه ﻓﻲ اﻟﻘﺎﻧﻮن اﻟﻌﺎم، ” اﻷﺑﻌﺎد اﻟﺴﯿﺎﺳﯿﺔ واﻻﺟﺘﻤﺎﻋﯿﺔ ﻟﻨﻈﺎم اﻟﺠﮭﺔ ﺑﺎﻟﻤﻐﺮب”، ﺟﺎﻣﻌﺔ ﻣﺤﻤﺪ اﻟﺨﺎﻣﺲ، ﻛﻠﯿﺔ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﻘﺎﻧﻮﻧﯿﺔ واﻻﻗﺘﺼﺎدﯾﺔ واﻻﺟﺘﻤﺎﻋﯿﺔ – أﻛﺪال، اﻟﺮﺑﺎط – اﻟﺴﻨﺔ اﻟﺠﺎﻣﻌﯿﺔ 2001-2000، ص .82 ↑
4 ﻋﺰﯾﺰي ﻣﻔﺘﺎح، أطﺮوﺣﺔ ﻟﻨﯿﻞ اﻟﺪﻛﺘﻮراه ﻓﻲ اﻟﻘﺎﻧﻮن اﻟﻌﺎم، “اﻟﻼﻣﺮﻛﺰﯾﺔ ﻣﻦ اﻟﺘﺴﯿﯿﺮ اﻹداري إﻟﻰ ﺗﺪﺑﯿﺮ اﻟﺘﻨﻤﯿﺔ”، ﻣﺮﺟﻊ ﺳﺎﺑﻖ، ص .134 ↑
5 اﻟﻤﺼﻄﻔﻰ اﻟﻘﺮﯾﺸﻲ، ” اﻟﻘﺎﻧﻮن اﻟﺘﻨﻈﯿﻤﻲ ﻟﻠﻌﻤﺎﻻت واﻷﻗﺎﻟﯿﻢ ﻣﺴﺘﺠﺪات ﻣﺤﺪودة وآﻓﺎق ﻣﺒﮭﻤﺔ”، اﻟﺘﺪﺑﯿﺮ اﻟﻤﺤﻠﻲ واﻟﺤﻜﺎﻣﺔ اﻟﺘﺮاﺑﯿﺔ ﻋﻠﻰ ﺿﻮء اﻟﻘﻮاﻧﯿﻦ اﻟﺘﻨﻈﯿﻤﯿﺔ اﻟﺠﺪﯾﺪة، ﻣﻨﺸﻮرات ﻣﺠﻠﺔ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﻘﺎﻧﻮﻧﯿﺔ، ص.241: ↑
6 ﻧﻔﺴﮫ، ص .153 ↑
7 ﻓﺎطﻤﺔ اﻋﻠﯿﻠﻮش، اﻟﺪﯾﻤﻘﺮاطﯿﺔ اﻟﻤﺤﻠﯿﺔ ﻓﻲ ظﻞ اﻟﻌﮭﺪ اﻟﺠﺪﯾﺪ، رﺳﺎﻟﺔ ﻟﻨﯿﻞ اﻟﻤﺎﺳﺘﺮ ﻓﻲ اﻟﻘﺎﻧﻮن واﻟﻌﻠﻮم اﻹدارﯾﺔ ﻟﻠﺘﻨﻤﯿﺔ، ﻛﻠﯿﺔ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﻘﺎﻧﻮﻧﯿﺔ واﻻﻗﺘﺼﺎدﯾﺔ واﻻﺟﺘﻤﺎﻋﯿﺔ طﻨﺠﺔ، 2009-2010، ص.117: ↑
8 ﻣﻮﻻي ﻣﺤﻤﺪ اﻟﺒﻮﻋﺰاوي، ﻣﺮﺟﻊ ﺳﺎﺑﻖ، ص: 43 ↑
9 ﻧﻔﺲ اﻟﻤﺮﺟﻊ، ص: .44 ↑