تتناول المذكرة دراسة دور القاضي والخصوم في توزيع عبء الإثبات في المسائل المدنية، مع مقارنة بين القانون والشريعة الإسلامية، وتوضح أهمية تحديد المكلف بعبء الإثبات وشروط محله.
المعهد الوطني للقضاء
مجلس قضاة معسكر
مذكرة نهاية التدريب
دراسة مقارنة بين القانون والشريعة الإسلامية
دور القاضي والخصوم في توزيع عبء الإثبات في المسائل المدنية
الطلبة القضاة
تحت إشراف السيد المشرف: بوزياني محمد
السنة الجامعية
مر الإثبات القضائي في تاريخ الإنسانية بمراحل يضيق المقام عن الخوض فيها فقد كانت الإنسانية في طفولتها تلجأ في الإثبات القضائي إلى ضروب من السحر والشعوذة ثم لجأت إلى الدين. وكان القتال بل الانتحار من الأدلة القضائية عند بعض الأمم في فجر التاريخ.
ولقد تطورت أساليب الإثبات القضائي فأصبح هناك تعاونا وثيقا في الإثبات بين القانون والقاضي والخصوم. فالقانون يبين طرق الإثبات ويحدد قيمة كل منها، والقاضي يطبق القواعد التي يقررها القانون في ذلك ويتمتع في تطبيقها بشيء من حرية التقدير. والخصوم هم الذين عليهم أن يقدموا الأدلة على صحة دعواهم وذلك على الوجه الذي رسمه القانون. ولكل خصم الحق في مناقشة الأدلة التي يقدمها خصمه وفي تفنيدها وفي إثبات عكسها.
ولما كان الإثبات القضائي محدود في وسائله فالحقيقة القضائية يكون حظها من مطابقة الوقائع بقدر ما يكون للقاضي من سلطة في البحث والتحري، فلا يجوز للقاضي أن يبني حكمه إلا على وسائل الإثبات التي أجازها القانون ولا يقبل منه القضاء بعلمه الشخصي. لأن المشرع عدد طرق وحصرها في ذلك فلا تقبل وسيلة أخرى.فالأصل أن دور القاضي سلبي في إثبات المواد المدنية، فإذا كان القانون يفرض إثبات الديون كتابة ولم يتوفر الدليل الكتابي لدى الدائن فلا يملك القاضي سوى رفض دعواه حتى ولو كان مقتنعا بصحتها. كأن يكون شهد بنفسه الواقعة التي أنشأت الدين. لذلك فإن الطرق التي يحددها القانون للإثبات تلزم المتقاضين من جهة.حيث أن دليلهم لا يستقيم إلا إذا وافق هذه الطرق، والقاضي من جهة أخرى حيث أنه مقيد بقبول الوسيلة الواجبة دون غيرها.والحكم طبقا لما يقتضيه القانون في تلك الحالة.
ووسائل الإثبات في القانون على خلاف الشريعة الإسلامية لا تؤدي غالبا إلا إلى حقيقة ظنية لا قطعية. ويحتمل أن تكون الحقيقة القضائية التي تثبت أمام القضاء تختلف عن الحقيقة الواقعية. ولذلك كانت الحقيقة القضائية نسبية ولكن المشرع يضحي بالحقيقة الواقعية ويضفي على الحقيقة القضائية حجية الأمر المقضي.
وجميع وسائل الإثبات في القانون تفيد الظن إلا أن المشرع أعطى بعض الوسائل حجية ملزمة للقاضي وأعتبر الثابت بها ثابتا في الواقع.
وأوجب على القاضي الحكم بموجبها وهي الكتابة والقرائن القانونية القاطعة واليمين الحاسمة والإقرار بينما ترك بقية الوسائل في تصويرها الحقيقة إلى قناعة القاضي وتقديره وهي الشهادة والقرائن القضائية والخبرة والمعاينة. والقانون في تمسكه بالحقيقة القضائية دون الحقيقة الواقعية إنما يوازن بين اعتبارين. اعتبار العدالة في ذاتها ويدفعه إلى تلمس الحقيقة الواقعية بكل السبل ومن جميع الوجوه حتى تتفق معها الحقيقة القضائية.
واعتبار استقرار التعامل ويدفعه إلى تقييد القاضي في الأدلة التي يأخذ بها في تقدير كل دليل فيحدد له طرق الإثبات وقيمة كل طريق منها. حتى يأمن جوره إذا مال إلى الجور أو حتى على الأقل حتى يحد من تحكمه فلا يختلف القضاة فيما يقبلون من دليل وفي تقدير قيم الأدلة في القضايا المماثلة.
ونظرا للموازنة بين اعتبار العدالة واعتبار استقرار التعامل قامت ثلاثة مذاهب في الإثبات: مذهب يميل إلى اعتبار العدالة ولو بالتضحية باستقرار التعامل وهذا هو المذهب الحر أو المطلق (libre système) ومذهب يتمسك باستقرار التعامل ولو على حساب العدالة فيقيد الإثبات أشر التقيد حتى يستقر التعامل. وهذا هو المذهب القانوني أو المذهب المقيد (système légal).
ومذهب ثالث يزن ما بين الاعتبارين فيعتد بكل منهما. ولا يضحي بأحدهما لحساب آخر وهذا هو المذهب المختلط (mixte systeme). وهذا المذهب الثالث هو خير المذاهب جميعا. فهو يجمع بين ثبات تعامل بما احتوى عليه من قيود وبين اقتراب الحقيقة الواقعية من الحقيقة القضائية بما أفسح فيه للقاضي من حرية التقدير. وقد أخذ المشرع الجزائري بهذا المذهب مقتفيا في ذلك أثر الشرائع اللاتينية كالقانون الفرنسي والقانون الإيطالي والقانون البلجيكي ومعظم التشريعات العربية.
ويقف أمام القاضي خصمان كل منهما يدعي الحق وينسبه إلى نفسه وينازع في ادعاء الآخر فيه. والقاضي يفتقر إلى ما يرجع به جانبا على الآخر ويظهر أثر ذلك خاصة إذا كان الحق المتنازع فيه غير مستقر وإنما في وضع مؤرجح بينهم. أو كان الحق غير ثابت لأحدهما أو كان محل إثبات صعب المنال فإن تكليف أحد طرفين بإثبات حقه هو تهديد له فيه بحيث إذا عجز عن إقامة البينة أو قصر في تهيئة الدليل المقنع أو فشل في الإثبات الكافي، حكم عليه القاضي وسلب الحق منه، ولذلك اقتضت الضرورة توزيع عبء الإثبات بينهم.
والقاعدة العامة في عبء الإثبات هي البينة على المدعي واليمين على من أنكر.1
ووفقا لهذه القاعدة التي تعتمد على التمييز بين المدعي والمدعى عليه، يقع عبء الإثبات على الطرفين ويتوزع على المدعي والمدعى عليه بطريقة عادلة فتوجب الحجة القوية على صاحب الجانب الضعيف وهو المدعي وتفرض الحجة الضعيفة على صاحب الجانب القوي، وهنا يتفق القانون مع ما جاء في الشريعة الإسلامية في أنهما لا يكتفيان بإلقاء عبء الإثبات على المدعي فقط، بحيث يقف المدعى عليه موقفا سلبيا متذرعا بمجرد الإنكار وملتزما بالصمت والسكوت، وإنما وجب عليه عبء من الإثبات يتناسب مع قوة جانبه فيعزز إنكاره باليمين.
فالإثبات يقع على عاتق الطرفين، إذا أثار المدعي النزاع وجب عليه أن يثبت دعواه، وإذا فشل في الإثبات وعجز عن تقديم الدليل ولجأ إلى ذمة الطرف الآخر وجب على المدعى عليه اليمين، وذلك حتى يصدر الحكم القضائي برد الدعوى وبقاء الحق مع المدعى عليه مبنيا على حجة ودليل لقطع الشبهات ولإزالة القلق الذي نشأ بالدعوى وللاستقرار الحق لصاحبه.
والمدعى عليه لا يكلف باليمين إلا في حالة إخفاق المدعي في القيام بما هو مكلف به من إقامة الدليل على ما ادعاه، أما إذا استطاع المدعي إقامة الحجة وتقديم الدليل على صحة ما ادعاه فإن الأمر يختلف لأن المدعى عليه حينئذ يصبح في مركز ضعيف يحتاج منه إلى بذل جهد مضاعف لكي يحرج من هذا الموقف الذي وضعه فيه المدعي، فإما أن يقر بصحة ما أثبته المدعي وإما أن يقيم الدليل على براءة ذمته مما قام المدعي بإثباته، ومن ثم فإن وصف المدعى عليه ينقلب في الدفع ليصبح مدعيا يقع عليه عبء إثبات ما ادعاه في دفعه، وهكذا يتناوب طرفي الدعوى القيام بعبء الإثبات إلى أن يخفق أحدهما فيخسر دعواه.
فلما كانت مهمة المدعي بعبء الإثبات مهمة عسيرة وشاقة اقتضى الأمر العمل على إيجاد الوسائل التي تخفف من وطأة هذا العبء بحيث لا يترك تحمله للمدعي وحده، فكان الاتجاه إلى توزيع عبء الإثبات بين الخصوم عن طريق تحليل الواقعة محل الإثبات إلى عناصر يتكفل كل من الخصمين بإثبات ما يخصه منها.
والتوزيع معناه التخفيف من مطالبة المدعي بإثبات كافة عناصر الحق المدعى به، فيكتفي منه بإثبات ما يرجح وجود الحق في جانبه ليلقى على خصمه عبء دفع ما قام بإثباته1
ولعل القاضي رغم دوره السلبي في المسائل المدنية إلا أنه يقوم بدور هام في توزيع وتخفيف عبء الإثبات بين الخصوم ويبرز ذلك بقوة في مجال القرائن القضائية واليمين المتممة.
وما دام الخصوم يملكون الدعوى المدنية فما من شك أنهم كذلك يلعبون دورهم في توزيع وتخفيف عبء الإثبات، ومن هذا المنطلق يبرز بحثنا للوجود وهو: “دور القاضي والخصوم في توزيع عبء الإثبات في المسائل المدنية.”
وأساس الإشكالية التي وضعناها هي: ما مدى دور القاضي في توزيع وتخفيف ثقل عبء الإثبات المكلف به المدعي وذلك بتكليف المدعى عليه بجزء مما كان مكلفا به المدعي؟
وما هو دور الخصوم في توزيع عبء الإثبات؟ وهل يمكنهم الاتفاق على تعديل قواعد عبء الإثبات؟ وما مدى تعلق ذلك بالنظام العام؟
1 وفي ذلك نص المشرع الجزائري في المادة 323 من القانون المدني على ما يلي: “على الدائن إثبات الالتزام وعلى الندين إثبات التخلص منه.”
وللإجابة على هذه التساؤلات وضعنا خطة واسعة تشمل كل الجوانب التي يمكن أن يكون للقاضي أو الخصوم أن يكون لهم دورا فيها، ونرجوا أن نكون قد وفقنا في ذلك،
الخطة المقترحة:
الفصل التمهيدي: الأحكام المتعلقة بعبء الإثبات
المبحث الأول: ماهية عبء الإثبات والمكلف به
مفهوم عبء الإثبات
أهمية تحديد المكلف بعبء الإثبات
المطلب الأول: المطلب الثاني:
المبحث الثاني: القواعد المتعلقة بعبء الإثبات
البينة على من ادعى واليمين على من أنكر
عبء الإثبات على من يدعي خلاف الظاهر
المطلب الأول: المطلب الثاني:
المبحث الثالث: محل عبء الإثبات
تحديد محل عبء الإثبات
شروط محل عبء الإثبات
المطلب الأول: المطلب الثاني:
في توزيع عبء الإثبات
دور القاضي
الفصل الأول:
المبحث الأول: طبيعة دور القاضي في توزيع عبء الإثبات
الدور السلبي للقاضي
الدور الإيجابي للقاضي
المطلب الأول: المطلب الثاني:
المبحث الثاني: دور القاضي في توزيع عبء الإثبات بموجب القرائن
دور القاضي في توزيع عبء الإثبات بموجب القرائن
دور القاضي في توزيع عبء الإثبات بموجب القرائن
المطلب الأول: القانونية
المطلب الثاني: القضائية
المبحث الثالث: دور القاضي في توزيع عبء الإثبات بموجب اليمين
دور القاضي في توزيع عبء الإثبات بموجب اليمين
دور القاضي في توزيع عبء الإثبات بموجب اليمين
المطلب الأول: الحاسمة
المطلب الثاني: المتممة
الفصل الثاني: دور الخصوم في توزيع عبء الإثبات
المبحث الأول: مبدأ الدور الإيجابي للخصوم
المطلب الأول: حق الخصوم في الإثبات
المطلب الثاني: حق الخصوم في مناقشة الدليل وإثبات عكسه
المبحث الثاني: دور الخصوم في توزيع عبء الإثبات بموجب الإقرار واليمين الحاسمة
المطلب الأول: دور الخصوم في توزيع عبء الإثبات بموجب الإقرار
المطلب الثاني: دور الخصوم في توزيع عبء الإثبات بموجب اليمين الحاسمة
المبحث الثالث: دور الخصوم في توزيع عبء الإثبات بموجب الاتفاق
المطلب الأول: التعديل الاتفاقي لقواعد عبء الإثبات
المطلب الثاني: مدى جواز الاتفاق على مخالفة قواعد عبء الإثبات.