خطاب الضمان البنكي
الفصل الثاني: تنفيذ خطاب الضمان ودعوى الرجوع
تمهيد وتقسيم:
تعد مرحلة وضع خطاب الضمان موضع التنفيذ أكثر المراحل إثارة للجدل سواء على المستوى الفقهي أو القضائي. ولعل ذلك يرجع إلى خصوصية هذه التقنية.
فخطاب الضمان باعتباره تقنية يتوخى منها الأمر الحصول على ثقة المستفيد ليبرهن له من جديته في تنفيذ التزاماته التعاقدية الواردة في عقد الأساس، لا يتم اللجوء إلى تنفيذها عن قبل المستفيد وبالتالي تقديم مطالبة بالوفاء إلا في حال إخلال العميل بالتزاماته الأصلية، وذلك لكونه –خطاب الضمان- جزءا ماليا لا ينفذ إلا في حالات استثنائية وإلا كان سببا للإثراء اللامشروع.
واذا حصل وتقدم المستفيد بطلب تنفيذ الضمانة فينبغي على الضامن مراعاة ما تم الاتفاق عليه كأساس لصحة قبول المطالبة بالوفاء بما في ذلك الشكلية التي قد يتطلبها خطاب الضمان لصحة هذه المطالبة ومدة صلاحية الضمانة.
لهذا يمكن حصر الشروط الأساسية لقبول المطالبة بالوفاء في:
-أن تقدم المطالبة تعبا لشروط ومقتضيات خطاب الضمان وحدها.
-أن تقدم هذه المطالبة داخل المدة المحددة في خطاب الضمان إذا كانت هذه المدة محددة.
-أن لا يتم الوفاء للمستفيد في حال قيام المطالبة على غش أو تعسف ظاهر فهذه الاجراءات أساسية ويتعين على الضامن مراعاتها لصحة المطالبة بالوفاء، وعلى أي حال فإن قيام الضامن بالوفاء بقيمة الضمان يؤدي إلى قيام عدة حالات للرجوع سواء من قبل الضامن أو العميل (الآمر).
لهذا وبناءا على ما سبق ارتأينا أن نعالج هذا الفصل في مبحثين رئيسيين على الشكل التالي:
-المبحث الأول: تنفيذ خطاب الضمان.
-المبحث الثاني: دعوى الرجوع.
المبحث الأول: تنفيذ خطاب الضمان
ينقضي خطاب الضمان بالوفاء بمجرد تقديم المستفيد لمطالبة مستوفية للتعليمات والشروط المتفق عليها في عقد فتح الاعتماد بالضمان (المطلب الأول)، غير أن خطاب الضمان قد ينقضي دون أن يلجأ المستفيد لطلب تنفيذه (المطلب الثاني)، كما يمكن للعميل وتجنبا لأي غش أو تعسف من قبل المستفيد عرقلة تنفيذ الضمان (المطلب الثالث) فضلا عن ذلك قد تنشأ ظروف خارجية تؤثر على تنفيذ خطاب الضمان كما هو الحال بالنسبة للحصار أو المقاطعة الاقتصادية (المطلب الرابع).
المطلب الأول: إنقضاء خطاب الضمان بالوفاء:
يعتبر انقضاء خطاب الضمان بالوفاء حالة استثنائية، يتم اللجوء إليها من قبل المستفيد في حالة عدم تنفيذ الآمر للالتزاماته التعاقدية المنصوص عليها في عقد الأساس.
وحتى يتمكن المستفيد من طلب تنفيذ الضمانة لابد من أن تقدم المطالبة خلال مدة سريان خطاب الضمان وفق الاجراءات والشكليات المقرر لذلك (الفترة الاولى). حينئذ لا يبقى للبنك الضامن سوى تنفيذ تعهده والتزامه بالوفاء للمستفيد بقيمة هذا الخطاب (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: إجراءات تقديم المطالبة بالوفاء:
لكي تكون المطالبة بتنفيذ خطاب الضمان صحية ومستوفية للشروط المتطلبة لوضعها موضع التنفيذ، لابد من التزام البنك الضامن بضرورة التأكد من صفة الأشخاص الذين يتقدمون للمطالبة بالوفاء. (أولا) واحترامه للمقتضيات والشكليات التي قد تستلزمها نظامية وصحة تقديم المطالبة بالوفاء، مراعاة لما نص عليه خطاب الضمان (ثانيا).
أولا: الأطراف التي لها صفة تقديم المطالبة بالوفاء
تتفق معظم الآراء الفقهية على أن خطاب الضمان يقوم على الإعتبار الشخصي، ومن نتائج ذلك أنه لصحة المطالبة بالوفاء لابد من صدور هذه الأخيرة من المستفيد نفسه، أو من أحد الأشخاص اللذين يملكون وكالة خاصة بذلك، ويلتزم البنك في هذا الإطار بضرورة التأكد من السلطة التمثيلية للأشخاص الذين يعملون لحساب المستفيد سواء تعلق الأمر بممثل قانوني إذا كان المستفيد شخصا معنويا، أو وكالة خاصة إذا كان شخصا طبيعيا.
وفي هذا الصدد ذهبت محكمة النقض الفرنسية إلى أن محامي المستفيد لا يمكنه تقديم مطالبة بتنفيذ الضمانة أو تصحيحها، وذلك في غياب أية وكالة خاصة بذلك “فالمحامي لا تصح له المطالبة بالوفاء بقيمة الضمانة المقابلة في غياب توكيل خاص”.
وفي مقابل ذلك فقد كرس قرار صادر عن استئناف باريس بتاريخ 08 نونبر 1988. مفهوما معقولا وبسيطا للشكلية اللازمة في هذا الإطار حيث ذهبت إلى “صحة نظامية المطالبة بالرغم من صدورها من أحد الهيئات الوصية على المستفيد فقط. في حين أن المستفيد من الضمانة هو الشركة الإيرانية للغاز فإن توصل البنك الضامن بمطالبة من وزارة النفط على اعتبارها الهيئة الوصية على المستفيد وليس من المستفيد نفسه، ليس من شأنه إبطال صحة المطالبة وأن هذه الأخيرة قد قدمت صحيحة مستوفية للشرائط اللازمة” .
وقد بينت المادة 357 من قانون التجارة المصري رقم 17 لسنة 1999 حالة تنازل المستفيد عن حقه الوارد بخطاب الضمان حيث تضمنت على أنه لا يجوز للمستفيد التنازل عن حقه الوارد في خطاب الضمان إلا بموافقة البنك. ويشترط أن يكون البنك مأذونا من قبل الآمر بإعطاء هذه الموافقة، وحيث أن البنك يصدر خطاب الضمان لشخص معين هو المستفيد يترتب على ذلك أن المستفيد لا يستطيع التنازل عن خطاب الضمان حتى ولو تنازل العميل على المشروع الذي صدر الخطاب بشأنه، وعلى ذلك فإن المستفيد لا يمكنه تظهير خطاب الضمان فهو لا يتضمن شرط الإذن والأمر لا يعدو ورقة تجارية، ولما كان الضمان مرتبطا بالاعتبار الشخصي لذلك جاءت هذه المادة بعدم جواز النزول عنه إلا بموافقة أطرافه الثلاثة:
1-البنك الضامن.
2-المستفيد الذي صدر لصالحه.
3-الأمر الذي صدر الضمان بناء على طلبه .
ثانيا: شكلية المطالبة بالوفاء
لقد سبق القول في معرض حديثنا عن أنواع خطابات الضمان على أن هذه الأخير تنقسم من حيث التنفيذ إلى ثلاثة أنواع رئيسية، وتبعا لذلك فإن شكلية المطالبة بالوفاء تختلف باختلاف هذه الأنواع.
أ-المطالبة البسيطة:
تأخذ المطالبة البسيطة شكل طلب كتابي يقدمه المستفيد إلى البنك “داخل أجل سريان خطان الضمان، ويترتب على عاتق البنك التزام بالدفع بصورة فورية ولدى أول طلب دون أن يكون من حقه إبداء أي اعتراض أو دفع من شأنه تعقيد وعرقلة الوفاء، وهذه المطالبة البسيطة تنطوي على عدة مخاطر بالنسبة للامر مادام المستفيد لا يتقيد في مطالبته بتقديم ما قد يتبث أو يؤكد إخلال الآمر بالتزاماته، وإذا كان المبدأ في هذه المطالبة يقتضي التزام البنك بالآداء فورا دون ممارسة أية رقابة، فإن القضاء الفرنسي يعطي للبنك الحق في ممارسة حد لأدنى من الرقابة وحق رفض الوفاء بمبلغ الضمان إذا اتضح أن طلب المستفيد غير متعلق بالمدين الأصلي والعملية الأصلية .
لذا يتوجب على النبك الضامن – عندما يتلقى المطالبة بالوفاء – معرفة قراءة نص الضمانة فتنفيذ إلتزامه يرتبط بمقتضيات واشتراطات خطابات الضمان، وهو ما يستدعي من البنك التريث قبل الوفاء، حيث يتعين عليه الأخذ بعين الاعتبار ما تستدعيه صحة المطالبة من شروط خاصة، فمن جهة قد تتضمن بعض خطابات الضمان كشرط لتنفيذها تقديم المستفيد لتصريح المكتوب على أن الأمر قد اخل بالتزاماته التعاقدية.
وفي هذا الإطار يلتزم البنك بضرورة التأكد من تحقق هذا الشرط قبل الوفاء وذلك ولو لم يكن من شأن ذلك دفع البنك في البحث في مدى صحة وثبوت المطالبة بالوفاء .
ب-المطالبة المقيدة:
تنقسم المطالبة المقيدة إلى نوعين، فبالاضافة إلى المطالبة المقيدة بتقديم مستندات نجد المطالبة المقيدة بتقديم تبريرات.
1-المطالبة المقيدة بتقديم مستندات:
تتمثل في تقديم طلب كتابي مصحوب بمستندات معينة، قد تكون شهادة ممنوحة من طرف خبير أو مهندس، وقد تكون قرار تحكيمي أو قرار قضائي وقد تكون موافقة كتابية صادرة عن الأمر… ففي هذه الحالة يكون على المستفيد ضرورة تقديم المستندات المذكورة إذا أراد الحصول على مبلغ الضمان، كذلك البنك عليه التقيد بهذه الشكلية حيث أنه إذا أدى مبلغ الضمان دون تقديم مستندات محددة في خطاب الضمان فقد حقه في الرجوع على الأمر، ويلتزم البنك بفحص المستندات المقدمة بعناية معقولة لتأكد من مدى مطابقتها لما هو منصوص عليه في خطاب الضمان .
وفي هذا السياق نصت القواعد الموحدة المتعلقة بالضمانات التعاقدية (منشور رقم 325 يونيو 1978) على أنه “لا يمكن الاستجابة لأية مطالبة …
ب) إذا لم تكن مدعمة بالمستندات المحددة في الضمان في هذه القواعد.
ج) أو إذا لم يتم تقديم هذه المستندات خلال الفترة المنصوص عليها في الضمان التي تلي استلام أو –في حالة غياب أي نص- في أقرب وقت” .
2-المطالبة المقيدة بتقديم تبريرات:
تقتضي المطالبة المقيدة بتقديم تبريرات ضرورة تقديم طلب كتابي يصرح فيه المستفيد بأن شروط وضع الضمان موضع التنفيذ قد تحققت، وهذه المطالبة لا تختلف عن المطالبة البسيطة فهي بدورها لا تحمي الآمر من التعسف، وتبدو الإيجابية الوحيدة لهذه المطالبة بالنسبة للآمر في تسهيل رجوعه على المستفيد بأن يثبت عكس التصريحات التي أدلى بها .
الفقرة الثانية: إلتزام البنك بالوفاء
يلتزم البنك الضامن بالوفاء مباشرة بعد تقدم المستفيد بمطالبة بالتنفيذ بطريقة نظامية، وما دام العقد لا يترك له أجلا محددا قبل الوفاء فلا يمكن أن يطالب المستفيد بأي تبرير او تفسير عن مدى صحة هذه المطالبة.
وذلك ما لم تكن مقتضيات بعض أنواع الضمانات تفرض عليه ذلك “كالضمانات القابلة للتخفيض التلقائي” فلا يتعين عليه وليس من واجبه إجراء أي فحص أو تحقيق للتأكد من صحة تنفيد الأمر للالتزامات التعاقدية، فلا يمكنه أن يدفع بأي دفع مستمد من هذه العلاقة كيفما كان نوعها.
لهذا لا يمكن للبنك أن يتذرع مثلا بعدم تنفيد العقد الأصلي لقوة قاهرة، ويلتزم البنك بالوفاء كذلك حتى في الحالة التي يكون فيها المستفيد هو السبب والمسؤول عن سوء تشغيل المعمل الذي تولى المقاول (الآمر) إنشائه، فيلتزم بالوفاء حتى في هذه الحالة التي تكون فيها استحالة تنفيذ العقد قائمة مادام الأطراف لم تكن على علم عند إبرام هذا العقد بهذه الاستحالة.
المطلب الثاني: انقضاء خطاب الضمان بغير وفاء
كما ينقضي خطاب الضمان بوفاء البنك بالتزامه تجاه المستفيد، قد ينتهي أيضا بدون الوفاء وذلك في حالة ما إذا انتهت المدة المحددة في الخطاب دون تقديم المطالبة بالوفاء، (الفقرة الاولى). أو بتقادم الخطاب إذا لم يكن هذا الأخير محدد المدة (الفقرة الثانية). أو باستحالة تنفيد الخطاب إذا لم يكن مشروطا (الفقرة الثالثة) وأخيرا بالإبراء الصادر من المستفيد إلى العميل داخل الأجل المحدد في الخطاب (الفقرة الرابعة).
الفقرة الأولى: انتهاء مدة خطاب الضمان
ينقضي خطاب الضمان إذا انقضى الأجل المحدد دون أن يستعمل المستفيد حقه في المطالبة بالمبالغ المحددة في الخطاب، وذلك لأن خطاب الضمان يتضمن دائما تعهد بدفع مبلغ معين خلال فترة معينة، فإذا لم يطلب المستفيد دفع هذه المبالغ خلال الفترة المحددة في الخطاب أصبح البنك في حل من التزامه بالدفع وبالتالي ينقضي خطاب الضمان .
فقد نصت المادة 459 من قانون التجارة المصري رقم 17 لسنة 1999 على أنه “تبرأ ذمة البنك قبل المستفيد إذا لم يصله خلال مدة سريان خطاب الضمان من المستفيد إلا إذا اتفقا صراحة على تجديد تلك المدة تلقائيا أو وافق البنك على مدها”.
كما نصت المادة 5 من القواعد الموحدة المتعلقة بالضمانات التعاقدية (منشور 325 يونيو 1978) على:
1-“إذا لم يتلقى الضامن أية مطالبة حتى تاريخ انتهاء الصلاحية، أو إذا كانت أية مطالبة بمقتضى الضمان قد تم تنفيذها بشكل لم يعد يقوم فيها للمستفيد أي حق بهذا الصدد. فإن الضمان يفقد صلاحية.
2-بصرف النظر عن مقتضيات المادة 4 ففي حالة ضمانات العطاء:
(أ) يفقد ضمان العطاء صلاحيته بمجرد ما يقبل المستفيد العطاء – برسو الصفقة على الأمر، إذا نص عليه في العقد المكتوب أو إذا لم يوقع عقد وكان منصوصا عليه في العطاء- بتقديم الأمر لضمان حسن تنفيد أو- إذا لم يكن الضمان النهائي مطلوبا-بتوقيع الأمر على العقد.
(ب) يفقد ضمان العطاء صلاحيته كذلك عندما ترسو الصفقة المتعلقة به على صاحب عطاء آخر سواء كان هذا الأخير قد استوفى المقتضيات التي تحددها الفقرة الثانية (أ) من هذه المادة أم لا.
(ج) يفقد ضمان العطاء أيضا صلاحيته في حالة ما إذا أعلن المستفيد صراحة أنه لا ينوي إرساء الصفقة”.
الفقرة الثانية: تقادم خطاب الضمان
ينقضي خطاب الضمان غير محدد المدة بالتقادم حيث يبدأ سريان التقادم في خطاب الضمان غير محدد المدة وغير المشروط من تاريخ بدأ التزام البنك، أما إذا كان الخطاب غير محدد المدة مشروطا فإن سريان التقادم لا يبدأ إلا من وقت تحقق الشرط، أما إذا تخلف الشرط أو استحال تحققه فإن التزام البنك ينقضي .
الفقرة الثالثة: استحالة تنفيذ العميل لالتزاماته
ينتهي خطاب الضمان أيضا باستحالة تنفيذ العميل لالتزاماته نحو المستفيد، شرط ان تكون هذه الاستحالة راجعة إلى قوة قاهرة، أو حادث فجائي لا يد للمدين فيها، أو كانت راجعة إلى فعل الدائن نفسه.
ويفرق الفقه ، بصدد هذه الإستحالة وأثرها على التزام البنك في خطاب الضمان بحسب ما إذا كان هذا الخطاب مشروطا وهذا هو حال خطاب الضمان لدى أول طلب مبرر أو مستندي، أو كان غير مشروط وهو حال خطاب ضمان لدى أول طلب، ففي الحالة الأولى ينقضي خطاب الضمان باستحالة تنفيد الزبون لالتزامه لأن الشرط المعلق عليه تنفيد الخطاب يصبح غير ممكن لسبب أجنبي أو بفعل الدائن، أما في الحالة الثانية فلا يتأثير التزام البنك باستحالة التنفيد سواء كانت راجعة إلى السبب الاجنبي أو إلى فعل الدائن.
الفقرة الرابعة: الابراء
وأخيرا ينتهي خطاب الضمان بالإبراء، على أن الابراء الصادر من المستفيد إلى العميل على التزام البنك في صدد خطاب الضمان يختلف أثره بحسب ما إذا كان هذا الخطاب مشروطا أو غير مشروط، فإذا كان الخطاب مشروطا في حصول إخلال من العميل بالتزامه تجاه المستفيد، كان للإبراء أثره على إلتزام البنك بصدد خطاب الضمان، لأن الشرط يستحيل تحققه بعد حصول الإبراء إذ لا يتصور أن يقع من العميل إخلال بالتزامه نحو المستفيد بعد أن أبرأه هذا الأخير منه. فلذلك ينقضي التزام البنك بانقضاء التزام العميل قبل المستفيد بالابراء، أما إذا كان الخطاب غير مشروط فلا يكون للإبراء أثر على التزام البنك قبل المستفيد إذ يظل هذا الالتزام قائما ومع ذلك يكون لهذا الإبراء أثر إذا نص فيه على تنازل المستفيد عن حقه في خطاب الضمان كما يعتبر من قبيل الإبراء تسليم المستفيد صك الخطاب إلى العميل لإعادته إلى البنك بعد أن قام العميل بتنفيذ إلتزامه تجاه المستفيد، بهذا تبرأ ذمة البنك قبل المستفيد وتبرأ ذمة العميل قبل البنك فيكون له أن يسترد غطاء خطاء الضمان .
المطلب الثالث: بعض الوسائل المتاحة لعرقلة تنفيذ خطاب الضمان
لقد سبق القول بأن التزام العميل بعدم الاعتراض على الدفع يعد من الالتزامات الأساسية التي تقع على عاتقه، وذلك تجسيدا لمبدأ الإستقلال الذي يمييز خطاب الضمان، غير أن المستفيد قد يستغل من جانبه هذا المبدأ لغرض آخر غير الذي وجد من أجله، كالمطالبة بالوفاء رغم وفاء العميل بالتزاماته التعاقدية مما قد يؤدي إلى إهدار مصلحة العميل الآمر.
لهذا استقر الفقه والقضاء على أن التزام البنك بالوفاء ليس مطلقا بل قد يتعطل في حالة الغش أو التعسف الظاهر (الفقرة الاولى). على أن الإشكال الذي يبقى مطروحا، هو مدى أحقية العميل في اللجوء إلى الوسائل الشكلية لعرقلة تنفيذ خطاب الضمان (الفقرة الثانية).
الفقرة الاولى: حالة الغش والتعسف الظاهر
إن مبدأ استقلال التزام البنك عن العلاقة التي تجمع الأمر بالمستفيد وما يترتب عنها من عدم إمكانية إثارة، دفوع أو اعتراضات مستمدة من العلاقة الأصلية، لم يمنع من إدخال استثناءات على هذا المبدأ، عندما يتعلق الأمر بمطالبة مشوبة بغش أو تعسف ظاهر إذ تذهب أغلب الاجتهادات القضائية المقارنة إلى أن المطالبة بالوفاء بمبلغ الضمان والتي تكتسي طابعا أو صبغة تعسفية او التي تكون مبنية على الغش تلزم البنك الضامن بالامتناع عن الوفاء وإلا فقد صلاحيته في الرجوع على الآمر . وذلك اعتمادا على المبدأ القائل بأن “الغش يفسد كل شيء”.
وفي هذا السياق ذهبت محكمة النقض الفرنسية في قرار لها بتاريخ 11 دجنبر 1985 إلى أن “الغش والتعسف الظاهر يبطلان مبدأ استقلال الضمانة المقابلة” .
وقد حاول الكثير من الفقهاء التفرقة بين الغش والتعسف الظاهر فأشار البعض إلى أن الغش يفترض حيل صادرة من المستفيد للحصول على مبالغ ليس له الحق فيها. أما التعسف فلا يفترض صدور حيل تدليسية من جانب المستفيد بل يعتمد آلية الضمانات والدفع الفوري وعدم وجود إشراف ورقابة على طلب الضمان وبالتالي يقوم بطلب الضمان تعسفيا.
بينما ذهب البعض الآخر إلى أن الغش يفترض حيلا مخصصة لتجنب قاعدة قانونية والفرار منها أي الغش نحو القانون، أما التعسف فيعبر عن فكرة تعدي حدود القانون .
هذا وقد حاولت بعض المحاكم أيضا إعطاء تفرقة بين الغش والتعسف الظاهر، ومنها محكمة الاستئناف بباريس التي ذهبت في حكم لها بتاريخ 12 يونيو 1985 إلى أن الغش ” يفترض سلوكا معينا وإتباع وسائل احتيالية تهدف إلى خداع المتعاقد الآخر، في حين أن التعسف الظاهر يثبت بمجرد ما يتضح بشكل جلي بأن الأمر قد نفد جميع التزاماته التعاقدية بحيث لم يعد للمستفيد أي حق لتقديم المطالبة بالوفاء”.
والحقيقة أن محاولة التفرقة بين الفكرتين لم ينجح أي منها لوضع معيار محدد وفاصل لكل فكرة عن الأخرى بأسلوب مطلق يمنع من اختلاطهما، وذلك لتداخلها في العمل من ناحية ولوحدة الأثر المترتب عن كليهما وهو عدم الدفع والإبراء من جانب الضامن من ناحية أخرى.
ويشترط في الغش والتعسف الظاهر حتى يعتد بهما أن يكونا ظاهرين بشكل لا يدع مجالا للشك ويفقأ العين على حد تعبير Vasseur.
وقد أوردت المادة 19 من نصوص اتفاقية الأمم المتحدة بشأن الضمانات المستقلة وخطابات الاعتماد الضامنة مجموعة من الحالات التي يمنع فيها تنفيذ الضمان:
أ-حيث لا يكون هناك شك في عدم وقوع الحدث أو الخطر الإحتمالي الذي أريد له بالتعهد أن يؤمن المستفيد من وقوعه.
ب-حيث يكون الالتزام الأصلي الواقع على الأصيل قد اعلنت بطلانه المحكمة أو هيئة التحكيم ما لم يبين التعهد أن هذا الحدث احتمالي يندرج ضمن المخاطر التي يغطيها التعهد.
ج-حيث لا يكون هناك شك في أن الالتزام الأصلي قد تم أداؤه على نحو يرضي المستفيد.
د-حيث يكون من الواضح أن الذي حال دون أداء الالتزام الأصلي هو تصرف معيب متعمد من المستفيد.
هـ-في حالة المطالبة بمقتضى ضمان مقابل، حيث يكون المستفيد من الضمان المقابل قد قام بالسداد بسوء نية باعتباره الضامن للتعهد الذي يتعلق به الضمان المقابل.
الفقرة الثانية: مدى إمكانية اللجوء إلى الوسائل الشكلية لمنع التنفيذ
رغم أنه يمكن للأمر طبقا للقواعد العامة الرجوع على المستفيد لاسترداد ما أخذه دون وجه حق إلا أن هذا الحق قد لا يسعفه نظرا لطول إجراءات التقاضي، ونظرا أيضا لما قد يلحق ذمته المالية من اختلال، لذلك تبقى الاجراءات الشكلية التي تهدف إلى وقف تنفيد خطاب الضمان ذات فائدة عملية مهمة بالنسبة للأمر ما دامت تمنح له إمكانية منع الوفاء أو على الأقل تجميده.
هذا ويبقى الوضع تحت الحراسة القضائية (أولا) والأمر القضائي بالامتناع عن الوفاء (ثانيا) من أهم هذه الوسائل.
أولا: الوضع تحت الحراسة القضائية
قد يقوم الأمر بتقديم طلب إلى رئيس المحكمة الابتدائية بصفته قاضي المستعجلات من أجل وضع مبلغ خطاب الضمان تحت الحراسة القضائية طبقا للفصل 149 من قانون المسطرة المدنية المغربي مستندا في ذلك إلى الضرر أو الخطر المحدق والمتمثل في النتائج المالية الخطيرة التي قد تلحق به إذا ما تم الوفاء بمبلغ الضمانة، وهنا يثور التساؤل حول إمكانية الأمر بهذا الإجراء.
الواقع أن العديد من الاجتهادات القضائية الفرنسية قد امرت بوضع مبلغ الضمانة بسبب قيام خطر محدق يهدد الأمر والذي يتمثل بالخصوص في الصعوبات التي تعترض هذا الأخير حين يود الرجوع على المستفيد بمبلغ الضمانة الذي تلقاه من الضامن.
غير أن الغالبية العظمى من الاجتهادات القضائية الفرنسية لم تساير هذا الاتجاه وترفض بالتالي الاستجابة لمثل هذا الاجراء لما فيه من اخلال بمقتضيات خطاب الضمان، وإهدار خصوصيته المتمثلة في الطابع المستقل للالتزام بالضمان، وقاعدة عدم جواز التمسك بالدفوع، طالما أن مطالبة المستفيد بالوفاء بقيمة الضمان لم تكن مقترنة بالغش أو التعسف الظاهر .
ثانيا: الأمر القضائي بالامتناع عن الوفاء
قد يلجأ العميل (الآمر) إلى قاضي المستعجلات لاستصدار أمر قضائي يمنع البنك من الوفاء بمبلغ خطاب الضمان، ويتبين من مختلف الاجتهادات القضائية المقارنة أن هناك تضاربا في هذا الإطار فقد ذهبت العديد من الأحكام القضائية إلى الاعتداد بإدعاءات الأمر وأمرت في العديد من المناسبات الأبناك الضامنة بالامتناع عن الوفاء إما كإجراء تحفظي أو عندما يتعلق الأمر بقرار صادر في الموضوع كإجراء تنفيذي.
ويذهب محمد الأطرش في هذا الصدد إلى أن “الإجراء الذي بمقتضاه يهدف الأمر مباشرة أو عن طريق القضاء منع الضامن من الوفاء بمبلغ الضمان إلى المستفيد، لا يؤدي حتما إلى انتاج وترتيب الآثار المتوخاة منه، مادام أن البنك الضامن تتوفر لديه قناعة بأن الامتناع عن الوفاء للمستفيد طبقا لمقتضيات خطاب الضمان. مادام أن هذا الأخير قد قدم مطالبة بهذا الشأن ولا يستثني من ذلك سوى الحالات التي يصبح فيها قرار الامتناع عن الوفاء واجبا يقع على عاتق البنك الضامن” . وفي هذا الشأن نجد القرار الصادر عن الغرفة التجارية بمحكمة النقض الفرنسية بتاريخ 5 ماي 1988 الذي أقرت فيه بعدم اختصاص قاضي أمور المستعجلات في إصدار أمر قضائي يمنع الضامن من الوفاء بمبلغ الضمان مالم تكن المطالبة قائمة على تعسف ظاهر أو غش موصوف.
هذا وقد ذهبت أغلب الاجتهادات القضائية إلى أن الأمر بمنع الضامن من الوفاء بمبلغ الضمان لا يكون مقبولا إلا إذا كانت المطالبة مبنية على غش أو تعسف ظاهر وفي حالة عدم احترام البنك لهذا الأمر فإنه يفقد حقه في الرجوع على الآمر.
المطلب الرابع: أثر الحصار أو المقاطعة الاقتصادية على تنفيذ خطاب الضمان
التزام البنك الضامن بالدفع والوفاء بقيمة الضمان وعدم جواز الاحتجاج بدفوع مستمدة من علاقة أخرى لا يمنع من احتمال نشوء بعض الظروف الطارئة أو قوة قاهرة قد تحول دون تنفيذ هذا الالتزام، وذلك متى نشأت ظروف لا دخل لإرادة الضامن أو المتعاقدين بها. وأدت إلى استحالة تنفيذ الإلتزام، ومن ضمن هذه الظروف نجد ما يعرف بالحصار أو المقاطعة الاقتصادية.
وقد عرف البعض الحصار أو المقاطعة بأنه “إجراء تحريم أو منع –كليا أو جزئيا- يتم اتخاده من قبل الدولة سواء اختياريا أو إجباريا أو من قبل منظمة دولية لمنع تصدير منتجات ما… .
وقد ثار السؤال حول آثار المقاطعة أو الحصار الاقتصادي على تنفيد الضمانات المستقلة، وهل تعد ذات أثر واقف خلال فترة المقاطعة أم تسقط الضمانات وتنقضي بسبب هذا الإجراء؟
في هذا الصدد قطع القضاء الإيطالي بحكم المحكمة – Padoue- بتاريخ 01 أكتوبر 1993 بسقوط الضمانات الصادرة قبل حرب الخليج وليس وقفها أثناء فترة الحصار.
وقد تدخل المشرع الإيطالي لتأكيد هذا الأثر الإنقضائي للضمانات بموجب قانون وذلك في 27 يوليوز 1994، فنصت الفقرة الثانية من المادة الثانية على انقضاء الضمانات والضمانات المقابلة التي تربطها مع ليبيا والعراق.
أما المحاكم الفرنسية فسلكت مسلكا آخر ألا وهو تعليق الضمانات وعدم تنفيدها خلال فترة الحصار وليس انقضائها، وقد تأكد هذا الاتجاه بحكم لمحكمة باريس بتاريخ 23-06-1995 .
أما بالنسبة للقضاء الانجليزي فموقفه غير واضح، ففي قضية –State Trading corporation Ed Man suger-and state bank- رفضت المحكمة منع الدفع ولاحظت أن إجراء الحصار المأخوذ بواسطة الحكومة الهندية لا يمنع من استمرار الصفقة. بينما في قضية –Wahda bank (v) Arab Bank Plc 1993- رفضت المحكمة الطلب المقدم من المستفيدين الليبيين بقبض قيمة الضمان وقالت أن تنفيد الضمان والضمان المقابل ممنوع بسبب القرار الصادر بفرض الحصار.
يستخلص مما تقدم أن هناك اختلاف وسط القضاء المقارن حول أثر الحصار على تنفيد خطاب الضمان. فبينما ذهب البعض إلى القول بانتقضاء خطاب الضمان، ذهب البعض الآخر إلى القول بمجرد وقف تنفيد هذا الضمان.