بحث جامعي حول نظام الخسارة البحرية المشتركة

نظام الخسارة البحرية المشتركة
الخاتمة :

لقد كان اهتمامنا على مر فصول بحثنا المتواضع منصبا على مؤسسة كانت تعتبر من أعتق المؤسسات القانونية، وبذلنا في ما وسع الجهد لإيضاح أحكام هذه المؤسسة، مؤسسة الخسارة المشتركة، التي تعود جذورها إلى ما يقارب ثلاثة آلاف عام والتي تطورت بشكل ملازم لتطور الملاحة البحرية حتى استقرت في التشريعات البحرية أحكاما قانونية تعتبر من خصائص القانون البحري التي تميزت هذه المؤسسة بذاتية خاصة.
بعد أن تطرقنا إلى التطور التاريخي لقواعد المساهمة في الخسارات المشتركة في القوانين البحرية وقواعد يورك وأنفرس. وبعد أن أوضحنا صور الخسارات المشتركة وشروط تحققها، عرضنا بعد ذلك لتسوية الخسارة المشتركة فحددنا القواعد التي تحكم تسويتها. ارتأينا إلى أن ننهي هذا البحث بكلمة حول تقدير نظام الخسارات المشتركة، إذ تتردد بين حين وآخر فكرة تدعو إلى ضرورة بقاء هذا النظام ووجوب إلغائه استنادا إلى ما يشوبه من تعقيد وصعوبات عملية خاصة فيما يتعلق بتسوية الخسارات المشتركة وما تتطلبه من جهد ونفقات خاصة وأن السفينة تحمل في العصر الحاضر كميات هائلة من البضائع تشحن بمقتضى آلاف من سندات الشحن في أغلب الأحوال، الأمر الذي يرفع عدد أصحاب المصالح المشاركة في الرحلة البحرية، ويؤدي بالتالي إلى زيادة تعقيد تسوية ما قد يقع من خسارات مشتركة.
كما يستند أصحاب دعوى الإلغاء إلى أن نظام الخسارات المشتركة كان له ما يبرره في الملاحة البحرية القديمة حيث كانت التضحية في سبيل السلامة العامة تقع غالبا عن طريق إلقاء الحمولة أو بعضها في البحر ومن ثم كان الشاحنون هم أصحاب الحق في مطالبة المجهز بالمساهمة في الخسارة المشتركة. أما الآن وفي ظل الملاحة الحديثة فإن الخسارة المشتركة تتحقق في صورة خسارات نقدية، أي مصروفات ينفقها المجهز في سبيل السلامة العامة الامر الذي يفسح المجال لحالات من الغش حين يدعي المجهز إنفاق مبالغ لهذه الغاية وكذلك حين يبالغ في تقديرها لو أنه أنفقها فعلا.
كما يسوق أصحاب فكرة الإلغاء حجة مضمونها أن تطور نظم التامين البحري وانتشاره جعل منه وسيلة يمكن الاكتفاء بها عن نظام والمساهمة في الخسارات المشتركة،. إذ أن التأمين يؤدي الى نفس النتيجة، وذلك بحصول من تلحقه الخسارة نتيجة التضحية على تعويض عن تلك الخسارة من المؤمن. ويندر اليوم أن تكون السفينة أو البضائع غير مؤمن عليها بحيث يتحمل أصحابها مخاطر الرحلة البحرية، وهم يستندون أيضا إلى الصعوبات التي يثيرها اختلاف القوانين البحرية في تنظيمها للخسارة المشتركة، وحتى بعد محاولات التوحيد الناجحة فقد بقيت اختلافات بين أحكام قواعد يورك وأنفرس، وبعض التشريعات البحرية، الأمر الذي يوضح أن نظام الخسارات البحرية المشتركة في مجموعه مشوب بالتعقيد ومن ثم فهو جدير بالإلغاء. ويبقى في رأيهم بعد إلغاء النظام أن يتحمل كل صاحب مصلحة في الرسالة البحرية ما يلحقه من خسارة تنشأ عن التضحية في سبيل السلامة العامة كما يتحمل وحدة الخسارة الخاصة، ويمكن أن يعوضه المؤمن عن تلك الخسارات كلها.
غير أن هناك من الباحثين من يسير في اتجاه نقض الفكرة السابقة. ويعتبرون أن نظام الخسارة المشتركة له من المبررات ما يجعل بقاءه خيرا من إلغائه، فهو نظام يتخذ من العدالة قاعدة يستند إليها، كما أن الضرورات العملية تستوجب بقائه، والتأمين لا يمكن الاكتفاء به عن نظام المساهمة في الخسارات المشتركة إذ قد تكون السفينة أو البضائع غير مؤمن عليها، كما أن التأمين قد لا يغطى كل الأضرار التي تلحق المؤمن له، خاصة أن الصورة الغالبة للخسارات المشتركة صورة الخسارات المصروفات وهي خسارات لا يضمنها المؤمن في أغلب الأحوال لصعوبة تحديد مبلغ التأمين وبالتالي قسط التأمين، ومن ثم لا يمكن الاستعاضة بالتأمين عن نظام توزيع هذه الخسارات المصروفات على من يستفيدون من التضحية.
وواقع الأمر أن الصعوبات التي تترتب عنها إلغاء نظام الخسارات المشتركة تزيد عن الصعوبات التي تلازم بقاءه إذ يتعين لهذا الإلغاء إجماع تام من جميع المشرعين، واتفاق جماعي من المجهزين والشاحنين، وهو أمر ليس باليسير تحققه، بدليل أن الإجماع على تنظيم قانوني واحد لنظام الخسارات المشتركة لم يتحقق بعد، وهو أمل نرجو أن يتحقق قريبا.
وأهم سبب يبرر بقاء نظام الخسارات المشتركة يتمثل فيما يحققه من حفاظ على الأرواح حينما تتعرض الرسالة البحرية لخطر يهددها بالهلاك، ففي ظل هذا النظام يتخذ الربان قراره بالتضحية من غير تردد ولا يضع في اعتباره ترجيح مصلحة المجهز على مصالح الشاحنين طالما أن المستفيدين من الخسارة التي تترتب على التضحية يلتزمون بالمساهمة فيها، ويتوقف على اتخاذ الربان قراره بالتضحية في أناءة وشجاعة وبمطلق اختياره إنقاذ الأرواح والاموال.
وفي رأينا-وسيرا على راي اغلب الفقهاء- أنه مما يخفف من الصعوبات العملية التي تعترض تسوية الخسارات المشتركة تحديد مبلغ معين كخسارة تقع على عاتق من تصيبه حتى لو توفر لها وصف الخسارة المشتركة، وما زاد عن هذا الحد يساهم فيه من يستفيدون من التضحية، ومن ثم تستبعد الحالات التي تكون فيها الخسارة المشتركة ضئيلة القيمة، على أن يرد بذلك شرط صريح في سند الشحن أو مشارطة تأجير السفينة أو وثيقة التأمين. ويكفى دليلا على أهمية نظام الخسارة المشتركة وما يحققه من مزايا انه بقى على مر العصور منذ نشأته، وتدرج حتى استقر في جميع التشريعات البحرية كنظام متميز يعتبر من خصائص القانون البحري وشواهد ذاتية الخاصة، وخلال المؤتمرات التي عقدت مرارا للنظر في صياغة قواعد يورك وأنفرس لم ينادي أحد من ممثلي المجهزين والمؤمنين بإلغاء نظام الخسارات المشتركة مما يدل على رغبة الغالبية العظمى ممن يهمهم أمر هذا النظام في بقائه كما هو، مرتكزا على عدالة قواعده.
ونلفت النظر إلى أن فقهاء الشريعة الاسلامية عرضوا لحكم التضحيات التي تقع عندما تتعرض الرحلة البحرية لخطر يهددها، من ذلك ما جاء بكشاف القناع منه أنه ” لو أشرفت السفينة على الغرق فالواجب على الربان إلقاء بعض الأمتعة حسب الحاجة دفعا لأعظم المستفيدين بأحقهما، لأن حرمة الحيوان أعظم من حرمة المتاع ويحرم إلقاء الدواب المحترمة حيث أمكن التخفيف بالأمتعة، وإن ألجأت الضرورة إلى إلقاء الدواب جاز إلقاءها، صونا للآدميين لأنهم أعظم حرمة، والعبيد كالأحرار، لاستوائهم في الحرمة، وإن تقاعد الربان حال الإشراف على الغرق عن إلقاء المتاع أو مع الدواب مع الإمكان ودعاء الضرورة إليه أثموا، لقول الله تعالى: ” ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة “. ولا يجب الضمان فيما يلقيه الراكب من متعاه عند الإشراف على الغرق، فلا يضمنه أحد. وإن امتنع إنسان من إلقاء متاعه فللغير إلقاؤه من غير رضاه، لأنه قام عنه بواجب ويضمن المتاع الملقى مع امتناع صاحبه، لأنه أتلف مالا لغيره بدون رضاه “.

تـم بـعـون الله

قرأوا أيضا...

فكرتين عن“بحث جامعي حول نظام الخسارة البحرية المشتركة”

  1. السلام عليكم جزاكم الله كل خير عن الموضوع بجد كنت محتاج ليهو شديد
    الرجاء……….
    ارسال اسم الدكتور ضررررررررورى

    عمار ابنعوف,,,,,

    شكرأ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.