بحث حول دور التدابير الوقائية في مكافحة الظاهرة الإجرامية
الفصل الأول : المبادئ العامة للتدابير الوقائية
الفرع الثاني : خصائص وشروط التدابير الوقائية والضمانات والقواعد التي تخضع لها
المبحث الثاني : ضمانات التدابير الوقائية والقواعد القانونية التي تخضع لها
التدابير الوقائية أيا كان مضمونها، تنطوي على مساس بحقوق الأفراد وحرياتهم لذا وجب أن يحاط تطبيقها بمجموعة من الضمانات التي تكفل احترام هذه الحقوق والحريات، من جهة ثانية يخضع الجزاء الجنائي باعتباره الأثر المترتب على ارتكاب الجريمة لمجموعة من القواعد والأحكام الموضوعية والإجرائية التي تكفل تطبيقه وتوجيهه إلى تحقيق أغراضه وعليه فما هي الضمانات التي تحظى بها التدابير الوقائية ؟ وهذا ما سنشير إليه في المطلب الأول، ثم ما هي القواعد والأحكام الموضوعية والإجرامية التي يخضع لها تطبيق هذه التدابير، وهذا هو موضوع المطلب الثاني.
المطلب الأول : ضمانات التدابير الوقائية
تتمثل أهم هذه الضمانات في شرعية التدابير الوقائية وضرورة تدخل السلطة القضائية ثم احترام كرامة المحكوم عليه ونعالج هذه الضمانات في النقط الثلاث التالية.
أولا : شرعية التدابير الوقائية
على الرغم من أن التدابير الوقائية تهدف إلى القضاء على الحالة الخطرة أو على الأقل تحييدها، ولا تنطوي على إيلام أو لوم أخلاقي إلا أنه يجب إنذار الفرد بها، لكي يعلم ابتداء أن ارتكاب جريمة معينة أو وجوده في حالات محددة سوف يستتبع تطبيق تدبير معين، بحيث لا يترك تحديد التدبير لمطلق إرادة القاضي أو السلطة التنفيذية.
كذلك فإن الحالة الخطرة باعتبارها أساس تطبيق التدابير الوقائية يجب تحديدها بدقة بحيث تعتمد على وقائع محددة، سواء باشتراط ارتكاب جريمة سابقة أو وجود الفرد في ظروف محددة كحالة الإدمان على تعاطي المخدرات وهذه العناصر يجب النص عليها في القانون، إذ لا يجوز تركها لمحض تقدير السلطات القائمة على تطبيق التدابير أو تنفيذها.
ولكن مبدأ شرعية التدابير الوقائية قد ترد عليه بعض التحفظات خاصة مجال التدابير السابقة على ارتكاب جريمة أو التي لا ترتبط بارتكابها، فهذه التدابير قد يستوجب تطبيقها ترك قدر من التقدير لجهة الإدارة، باعتبارها تتجسد في مجموعة من الإجراءات العلاجية التي يصعب النص عليها في القانون، مع ملاحظة أن مبدأ الشريعة يستوجب أن تكون هذه الإجراءات تحت رقابة القاضي وإشرافه على الأقل( ).
ونجد القانون الجنائي المغربي قد حرص على هذه الضمانة إذ نص في المادة 8 منه على أنه “لا يجوز الحكم بأي تدبير وقائي إلا في الأحوال وطبق الشروط المقررة في القانون.
ولا يحكم إلا بالتدابير المنصوص عليها في القانون النافذ وقت صدور الحكم”.
يبدو واضحا أن هذا النص قد كرس مبدأ شريعة التدابير الوقائية.
ثانيا : تدخل السلطة القضائية
ذهبت بعض الآراء إلى القول بأن التدابير الوقائية تتميز بطابع إداري، وبالتالي وجب ترك الاختصاص بها إلى الإدارة وليس السلطة القضائية ولكن الرأي الراجح يذهب إلى عكس ذلك، فالتدابير الوقائية تدخل من حيث المبدأ في اختصاص القضاء وسند هذا الرأي أن التدابير الوقائية أيا كان نوعها تعرض الحرية الفردية للخطر والضمانة الأساسية لعدم الحيف بهذه الأخيرة تستوجب ترك الاختصاص بتطبيق التدابير إلى السلطة القضائية ويضاف إلى ذلك أن تطبيق التدابير الوقائية يستلزم توافر شرطين اساسيين : الجريمة السابقة، والخطورة الإجرامية وإثبات توافر هذين الشرطين يدخلان تماما في اختصاص القضاء، ولا يعقل القول بترك تحديد هذين الشرطين للسلطة القضائية، وجعل تحديد التدبير الواجب التطبيق إلى الإدارة، فهي تجزئة غير منطقية وليس لها ما يبررها.
على الرغم من عدم وجود نص يقرر قاعدة قضائية التدابير الوقائية في التشريع الجنائي المغربي إلا أنه يمكن استنتاج ذلك مما يلي :
ففي تدبير الإقصاء ينص الفصل 64 على “لا يحكم بالإقصاء إلا المحاكم العادية …” وفي تدبير الإجبار على الإقامة ينص الفصل 70 على أن “إذا تبين من الأحداث أن المتهم بارتكاب إحدى جرائم المس بسلامة الدولة له نشاط عادي فيه خطر على النظام الاجتماعي، جاز للمحكمة …” ثم نجد أيضا في تدبير الإيداع داخل مؤسسة لعلاج الأمراض العقلية ينص الفصل 76 على “إذا تبين لمحكمة الموضوع بعد إجراء خبرة طبية …”. من كل ما سبق نستنتج قاعدة عامة ألا وهي أن التدابير الوقائية في التشريع الجنائي المغربي لا تنفذ إلا من طرف السلطة القضائية. إلا أن هناك استثناء يرد على هذه القاعدة كما هو الشأن بالنسبة لتدبير المنع من الإقامة الذي يترك تنفيذه للسلطة الإدارية ممثلة في شخص المدير العام للأمن الوطني حيث ينص الفصل 74 على “يتولى المدير العام للأمن الوطني تحرير القرار بالمنع من الإقامة ويحتوي هذا القرار على قائمة الأماكن أو الدوائر التي يمنع على المحكوم عليه أن يحل بها …”.
ثالثا :إحترام كرامة المحكوم عليه
السمة الأساسية للجزاء الجنائي بصفة عامة والتدابير الوقائية بصفة خاصة هي عدم انتهاكها لكرامة الإنسان، فتوافر الخطورة الإجرامية أو الاجتماعية لدى شخص لا يعني أبدا إهدار كرامته والحط من إنسانيته وتحرص التشريعات المعاصرة على تأكيد هذه الضمانة وحمايتها.
لقد حرص القانون الجنائي المغربي على الأفكار السابقة، فالتدابير التي نص عليها لا تنطوي على مساس بكرامة الإنسان وإنما تتجه فقط إلى محاولة استئصال خطورته الإجرامية، وإذا كان يترتب على بعضها مساس بسلامة الجسد المادية والمعنوية كما هو الحال بالنسبة لتدبير الوضع داخل مؤسسة لعلاج الأمراض العقلية، الوضع القضائي في مؤسسة فلاحية، المنع من الإقامة … إلخ. فإن ذلك ليس مقصورا في ذاته وإنما بالقدر اللازم لتحقيق أغراض هذه التدابير.
خلاصة القول خضوع التدابير الوقائية لمبدأ الشرعية، وتطبيقها عن طريق القضاء واحترامها لكرامة الإنسان ضمانات أساسية لا يمكن الحيف بها أو التنازل عنها، وقد حرصت مختلف التشريعات الجنائية عليها وإن كان ذلك بنسب متفاوتة، وهذا التفاوت يرجع إلى المنهج المتبع في كل تشريع وليس إلى مقدار جدارة هذه الضمانات بالاحترام من قبل السلطات المختلفة. وإذا كانت هذه هي الضمانات التي تخضع لها التدابير الوقائية فماذا عن القواعد والأحكام الموضوعية والإجرائية التي تخضع لها ؟
المطلب الثاني : القواعد القانونية التي تخضع لها التدابير الوقائية
يخضع الجزاء الجنائي باعتباره الأثر المترتب على ارتكاب الجريمة، لمجموعة من القواعد والأحكام الموضوعية والإجرائية التي تكفل تطبيقه وتوجيهه إلى تحقيق أغراضه وعلى الرغم من أن التدابير الوقائية تمثل إحدى صور هذا الجزاء، إلا أنها تخضع كقاعدة عامة لمجموعة من القواعد التي قد تختلف عن تلك المطبقة على العقوبة، ويرجع ذلك بصفة أساسية إلى طبيعة التدابير والغرض المحدد الذي تسعى إلى تحقيقه.
وسوف نحاول في هذا المطلب إبراز هذه القواعد بحيث نبدأ بدراسة القواعد الموضوعية (أولا) ثم نتلوها بالقواعد الإجرائية (ثانيا).
أولا : القواعد الموضوعية التي تخضع لها التدابير الوقائية
لعل من أهم هذه القواعد ما يتعلق بتطبيق القانون الجنائي من حيث الزمان، ومدى جواز تنفيذها وتعددها ومدى اعتبارها سابقة في العود، وفي النهاية مدى خضوعها لنظرية الظروف المخففة، ونفصل هذه القواعد عبر النقط التالية.
أ. مدى خضوع التدابير الوقائية لقاعدة عدم رجعية النصوص الجنائية
تستلزم اعتبارات حماية الحرية الفردية وتحقيق الأمن القانوني وعدم رجعية النصوص الجنائية الموضوعية، أي تلك التي تتعلق بقواعد التجريم والعقاب. ومؤدى ذلك ضرورة التزام القاضي بتطبيق الجزاء الجنائي الذي كان منصوصا عليه لحظة ارتكاب الجريمة، ولكن التشريعات المختلفة خففت من هذه القاعدة بنصها على رجعية النصوص الأصلح للمتهم.
والسؤال الذي يثور هو : هل تخضع التدابير الوقائية باعتبارها إحدى الجزاء الجنائي لهذه الأحكام ؟ أم نظرا لطبيعتها تخضع لمبدأ الأثر الفوري للقانون بحيث يطبق القاضي النصوص الجديدة التي تقرر تدابير جديدة على المتهم الماثل أمامه أو الذي يجري التنفيذ عليه بغض النظر عن مدى جسامة هذه التدابير بالمقارنة بما يسبقها ؟
للإجابة عن هذا التساؤل نجد المشرع المغربي من خلال الفصل الثاني من القانون الجنائي قد مدد قاعدة شرعية التجريم والعقاب إلى التدابير الوقائية، وقد نص في الفقرة الثانية من نفس الفصل على إمكانية تطبيق التدابير الوقائية بأثر فوري، وهذا يعني ضرورة تطبيق القاضي الجنائي للتدابير الوقائية السارية المفعول وقت إصدار الحكم لا تلك التي كانت سارية وقت ارتكاب الجريمة، حتى ولو كانت تلك التدابير الوقائية أكثر قسوة في طبيعتها من سابقتها، ولكن يمكن القول بصفة عامة، أن الهدف من التدابير الوقائية الجديدة يكون في غالب الأحيان أصلح للمتهم من التدابير الوقائية القديمة( ).
ب. مدى جواز وقف تنفيذ التدابير الوقائية
يقصد بوقف تنفيذ العقوبة وقف تنفيذها على شرط موقف خلال فترة تجربة يحددها القانون، فهو يفترض ارتكاب الجريمة، ونسبتها على مرتكبها، ومسؤوليته عنها، ولكن القاضي يرى أن المصلحة في وقف تنفيذ العقاب وليس في تنفيذه، وتتمثل علة وقف تنفيذ العقوبة في محاولة تجنب العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة والتي ثبت أن ضررها يفوق نفعها سواء بالنسبة للمحكوم عليه أو المجتمع، ويضاف إلى ذلك أن وقف التنفيذ يعد وسيلة فعالة لمنع المحكوم عليه من ارتكاب جريمة لاحقة. فالحكم الصادر بالأدانة تحقق الردع العام، ووقف تنفيذ يعد أسلوبا للمعاملة العقابية في الوسط المفتوح، ويحول بين المحكوم عليه والاختلاط الآثم بينه وبين غيره من المجرمين خاصة المعتادين منهم.
والسؤال الذي يثور هو هل يجوز وقف تنفيذ التدابير الوقائية على ذات النحو الذي يتم به وقف تنفيذ العقوبة ؟ يمكن الإجابة على هذا التساؤل بالرجوع إلى الفصل 93 الذي ينص في خاتمته على أن “وقف تنفيذ العقوبة لا أثر له في تدابير الوقاية” ثم نجد كذلك الفصل 97 ينص على أن “العفو الخاص بالعقوبة الأصلية لا يسري على تدبير الوقاية إلا إذا ورد نص صريح في قرار العفو على خلاف ذلك” ثم يعود وينص في الفصل 98 على أن “تقادم العقوبة الأصلية لا ينتج عنه تقادم تدابير الوقاية”.
على الرغم من صراحة هذه النصوص في هذا الشأن إلا أن هناك نصوص أخرى ذهبت عكس ذلك فنصت على إمكانية وقف تنفيذ التدابير الوقائية على غرار العقوبة، من ذلك مثلا ما نصت عليه الفصول 95، 96، 99، 102 إلى 104، فالفصل 96 ينص على أن “إلغاء القانون الجنائي يضع حدا لتنفيذ التدابير الوقائية بالشروط المنصوص عليها في الفصل 9″، قبل هذا الفصل ينص الفصل 95 على أن “القانون المتعلق بالعفو الشامل عن الجريمة أو عن العقوبة الأصلية يوقف تنفيذ التدابير الوقائية الشخصية، دون التدابير العينية ما لم يوجد نص صريح على خلاف ذلك” ومؤدى هذا الفصل أن العفو الشامل بمقتضى طبيعته ينصرف إلى التدابير الوقائية الشخصية السالبة للحرية والسالبة للحقوق دون التدابير الوقائية العينية التي يستمر تنفيذها رغم صدور العفو.
ج. مدى جواز تعدد التدابير الوقائية
قد يرتكب أحد الأشخاص جرائم متعددة دون أن يفصل في إحداها بحكم بات، ويتضح للقاضي أن كل جريمة من هذه الجرائم تكشف عن صورة من صور الخطورة الإجرامية، وبالتالي تستوجب توقيع تدبير وقائي معين، فهل يجوز تعدد التدابير الوقائية بتعدد الجرائم ؟
يبدو ولأول وهلة أن الإجابة على هذا السؤال لابد وأن تكون بالإيجاب، ذلك أن التدابير الوقائية تعد وسائل علاجية للحالة الخطرة بكافة صورها وأشكالها، لذا فإن الأصل هو تعدد التدابير بتعدد أسبابها، ومما يؤكد ذلك أنه يصعب إجراء تدرج للتدابير الوقائية لتحديد اشدها وتطبيقه دون غيره.
لكن ما هو موقف القانون الجنائي المغربي من ذاك ؟
لتحديد موقف المشرع المغربي من تعدد التدابير الوقائية نستحضر نص الفصل 122 الذي ينص على أن “في حالة تعدد الجنايات أو الجنح، تضم العقوبات الإضافية والتدابير الوقائية ما لم يقرر الحكم خلاف ذلك بنص معلل.
إلا أن التدابير الوقائية التي لا تقبل بطبيعتها أن تنفذ معا في نفس الوقت يراعى في ترتيب تنفيذها مقتضيات الفصل 91″، وبالرجوع إلى الفصل 91 نجده ينص على أن “إذا صدرت على نفس الشخص عدة تدابير وقائية غير قابلة للتنفيذ في آن واحد، فإنه يتعين على المحكمة التي أصدرت آخر تدبير أن تحدد الترتيب الذي يتبع في التنفيذ إلا أن الإيداع القضائي في مؤسسة لمعالجة الأمراض العقلية، أو الوضع القضائي في مؤسسة للعلاج ينفذان حتما قبل غيرهما”.
من خلال الفصلين السابقين نجد المشرع المغربي قد أوجد الحل لمشكل تعدد التدابير الوقائية، فإذا كانت هذه التدابير قابلة للتنفيذ في آن واحد فهذا لا يطرح أي إشكال في تنفيذها كلها على المحكوم عليه في نفس الوقت، كعدم الأهلية لمزاولة الوظائف والخدمات، والمنع من مزاولة مهنة أو نشاط أو فن، وسقوط الولاية على الأبناء والمصادرة ثم الإغلاق، فهذه التدابير يمكن تنفيذها في وقت واحد لأنها لا تتعارض فيما بينها.
أما إذا كانت غير قابلة للتنفيذ في وقت واحد وذلك بحسب طبيعتها كاجتماع التدابير الوقائية السالبة للحرية فإن الذي ينفذ أولا هو الإيداع القضائي في مؤسسة لعلاج الأمراض العقلية أو الوضع القضائي في مؤسسة للعلاج وفقا للمادة 91 من القانون الجنائي، وذلك لأن هذين التدبيرين يهدفان إلى معالجة الجاني من الخلل العقلي أو التسمم المزمن، والمعالجة تقتضي الاستعجال، ولذلك قرر المشرع تنفيذهما قبل تنفيذ العقوبة السالبة للحرية (المادتان 78، فقرة الرابعة والمادة 81، الفقرة الأخيرة).
أما باقي التدابير التي لا تقبل بطبيعتها التنفيذ في وقت واحد، فيتبع في تنفيذها الترتيب الذي تحدده المحكمة (الفصل 91) وإذا أغفلت المحكمة تحديد الترتيب الذي يتبع في التنفيذ لسهو أو لعدم علم بالأحكام السابقة الصادرة بالتدابير الأخرى استدرك ذلك بالرجوع إلى المحكمة التي أغفلت التحديد طبقا للمادتين 146 و147 من المسطرة الجنائية المتعلقتين بالمسائل المعارضة في التنفيذ( ).
د. عدم صلاحية التدابير الوقائية لأن تكون سابقة في العود
ينص المشرع المغربي في الفصل 154 من القانون الجنائي على أن المجرم يعتبر في حالة عود إذا ارتكب جريمة جديدة بعد أن تعرض للحكم بالإدانة حائز لقوة الشيء المقضي به بسبب ارتكابه جريمة سابقة، وهو يعتبر من قبيل الظروف المشددة للعقاب، ومرجع التشديد افتراض أن المحكوم عليه لم يرتدع من الحكم السابق، لذا كان من المهم تشديد العقاب عليه حتى يدرك سوء عاقبة الإجرام، ومما سبق يتضح لنا أن الأحكام الصادرة بالتدابير الوقائية لا تصلح أن تكون سابقة في العود، فالتدابير الوقائية لا تنطوي على معنى الإنذار وتتجرد ـ كقاعدة عامة ـ من الإيلام المقصود، لذا لا يصح معها القول بأن الجاني لم يرتدع، ومن ثم حق تشديد العقاب عليه.
لكن ما هو موقف التشريع الجنائي المغربي من هذه الأفكار ؟
بالرجوع إلى نصوص القانون الجنائي نلاحظ أن المشرع الجنائي المغربي لم يعتد بالحكم السابق الصادر بتدبير وقائي كسابقة في العود، فالنصوص الخاصة بهذا الظرف المشدد واضحة الدلالة في اشتراط أن يكون الحكم السابق صادرا بعقوبة وليس بتدبير وقائي (الفصول من 155 إلى 160).
هـ. عدم خضوع التدابير الوقائية للظروف المخففـة
الظروف المخففة هي حالات يجوز فيها للقاضي وفقا للضوابط التي حددها القانون تخفيف العقوبة الواجب تطبيقها على المتهم هنا وتبدو علتها في الرغبة في الملاءمة بين عمومية نصوص التجريم وتجريدها، وبين الحالة الواقعية التي تطبق عليها هذه النصوص، بحيث تؤدي في النهاية إلى جعل العقوبة أكثر واقعية وأكثر تحقيقا للعدالة. ويستمد القاضي ظروف التخفيف من كافة العناصر المحيطة بالجريمة سواء أكانت عناصر شخصية أو موضوعية والتشريع الجنائي المغربي مثلما لم يخضع التدابير الوقائية لأن تكون سابقة في العود مثل العقوبة لم يخضعها كذلك للظروف المخففة الذي ربطها فقط بالعقوبة بنوعيها الأصلية (الإعدام، السجن المؤقت، الفصل 147) والإضافية (التجريد من الحقوق الوطنية، الفقرة الثانية من الفصل 148).
يتضح من الدراسة السابقة أن التدابير الوقائية تأبى في كثير من الأحيان لخضوع لذات القواعد الموضوعية التي تخضع لها العقوبة، فهي وإن اقتربت من هذه الأخيرة بنسب متفاوتة فيما يتعلق بالتعدد إلا أنها تبتعد عنها تماما في حالات وقف التنفيذ، والعود، والظروف المخففة. ثم أخيرا تطبيق القانون الجنائي من حيث الزمان. لكن هذا التمييز الموضوعي يستوجب بالضرورة تمييزا إجرائيا ؟ هذا ما سنراه في النقطة الثانية من هذا المطلب.
ثانيا : الأحكام الإجرائية التي تخضع لها التدابير الوقائية
يستلزم تحقيق التدابير الوقائية لأغراضها ضرورة إحاطتها بمجموعة من القواعد الإجرائية والتي قد يختلف من تلك المطبقة على العقوبة، ويمكن إجمال هذه القواعد في عدم نهاية الحكم الصادر بالتدبير، والتنفيذ الفوري لهذه الأحكام، وفي النهاية عدم تطبيق قاعد خصم مدة الحبس الاحتياطي من التدبير، ونفصل تباعا هذه القواعد في النقط التالية.
أ. عدم نهاية الحكم الصادر بالتدبير الوقائي
من القواعد الأساسية في قوانين الإجراءات الجنائية نهائية الحكم الصادر بالإدانة أو البراءة، وهذا يعني أنه إذا حاز الحكم قوة الشيء المقضي به فلا يجوز مراجعته من جديد، وذلك لكفالة استقرار المراكز القانونية.
فإذا كان الحكم صادرا بالإدانة، فلا يجوز إعادة النظر فيه من جديد لتخفيف العقاب أو تشديده، وإذا كان صادر بالبراءة لا يجوز مراجعته لتحديد مدى جدارة المحكوم عليه بها.
لكن ما مدى تطبيق هذه القاعدة على التدابير الوقائية ؟ وهل أخذ المشرع الجنائي المغربي بهذه القاعدة ؟
يقتصر نطاق هذه القاعدة على الجزء من الحكم المثبت لارتكاب الفعل ونسبته إلى المتهم، ولكنه لا يمتد إلى التدبير المحكوم به، فهذا الأخير يجوز أن يمتد له التعديل سواء بتقصير أمده أو إطالته أو إنهائه كلية، وذلك تبعا للتطور الذي يطرأ على الخطورة الإجرامية، ونجد القانون الجنائي المغربي لم يتضمن قاعدة عامة تنص على عدم نهائية الأحكام الصادر بالتدابير الوقائية، وإنما وجدت هذه القاعدة تطبيقات في مواضع متفرقة نذكر منها الفصل 82 المتعلق بتدبير الوضع القضائي في مؤسسة للعلاج والذي ينص على “يلغى التدبير الصادر بالوضع القضائي في مؤسسة للعلاج عندما يتبين أن الأسباب التي استوجبته قد انتفت.
إذا قرر الطبيب، رئيس مؤسسة للعلاج، على أن يجعل حدا لهذا التدبير فإنه يعلم بذلك رئيس النيابة العمومية، بمحكمة الاستئناف الذي يمكن له، داخل العشرة أيام الموالية لتوصله بالإعلام المذكور، أن يطعن في قرار الطبيب وفقا لمقتضيات الفصل 77”. كما نجد المشرع المغربي قد طبق هذه القاعدة على تدبير الوضع القضائي في مؤسسة فلاحية حينما نص في الفصل 85 على “يلغى التدبير الصادر بالوضع القضائي المنصوص عليه في الفصل 83 عندما ينم سلوك المحكوم عليه عن صلاح حاله.
ويصدر القرار بهذا الإلغاء، بناء على اقتراح من مدير المؤسسة الفلاحية، عن المحكمة التي كانت أمرت بالوضع القضائي” إذ يمكن أن يتم الإفراج عن المحكوم عليه الذي تبث إصلاح سلوكه بناء على قرار المحكمة التي كانت أمرت بالوضع القضائي وذلك طبعا بعد اقتراح من مدير المؤسسة الفلاحية التي أذيع فيها المحكوم عليه.
ب. التنفيذ الفوري للأحكام الصادرة بالتدابير الوقائية
تقتضي قرينة الأصل في المتهم البراءة أن يكون لطرق الطعن ـ كقاعدة عامة ـ أثر موقف لتنفيذ الجزاء الجنائي، ولكن من الملائم أن تخرج التدابير الوقائية عن هذا المنطق، فاتجاهها إلى معالجة الخطورة الإجرامية يستوجب تنفيذها تنفيذا معجلا ولو كان من الجائز استئنافها، فتأخير التنفيذ قد يزيد من هذه الخطورة وهو ما لا يتفق مع مصلحة المحكوم عليه بعد ذلك، إذ قد يترتب على تأخير التنفيذ تطبيق تدابير أطول أمد مما لو بدئ بالتنفيذ بمجرد ثبوتها بالحكم الابتدائي. ومما يؤكد ذلك، أن التدابير الوقائية لا تنطوي على إيلام مقصود، وبالتالي لن يضار المحكوم عليه من تنفيذ التدبير تنفيذا معجلا.
لم يتضمن القانون الجنائي المغربي نصا صريحا يقرر التنفيذ المعجل للأحكام الصادرة بالتدابير الوقائية، إلا أنه من الناحية العملية نجد المشرع المغربي من خلال الفقرة الثانية من الفصل 91 “… إلا أن الإيداع القضائي في مؤسسة لمعالجة الأمراض العقلية أو الوضع القضائي في مؤسسة للعلاج، ينفذان حتما قبل غيرهما” وكذا الفصل 92 “إذا صدر على شخص خلال تنفيذه لتدبير سالب للحرية، أو مقيد لها، حكم بعقوبة سالبة للحرية، من أجل جناية أو جنحة أخرى فإنه يوقف تنفيذ التدبير الوقائي كيفما كان، ما عدا الوضع القضائي في مؤسسة للعلاج، وتنفذ على المحكوم عليه العقوبة الجديدة” قد خص تدبير الوضع القضائي في مؤسسة للعلاج وتدبير الإيداع القضائي في مؤسسة لمعالجة الأمراض العقلية بالنفاذ المعجل قبل غيرهما من العقوبات والتدابير.
فهذا الترتيب والذي يترتب عليه ـ كقاعدة عامة ـ تنفيذ التدابير بعد تنفيذ العقوبة يقود من الناحية العملية إلى تأجيل تنفيذها، ولكن هذا القول يرد عليه تحفظين : أولهما أن الترتيب الذي يتحدث عنه الفصل 92 يفترض بالطبع أننا بصدد عقوبة وتدبير وقائي، ففي هذه الحالة يبدأ تنفيذ العقوبة أولا إلا إذا كنا بصدد تدبير الوضع القضائي في مؤسسة للعلاج. ثانيا أن تأخر تنفيذ التدبير لا يرجع إلى انتظار الطعن في الحكم، فالحكم الصادر بالتدبير يصلح سندا تنفيذيا حتى ولو كان قابلا للطعن فيه، ولكن الاعتبارات العملية وخلاصة دراسات المختصين في علم العقاب تستوجب البدء ـ كقاعدة عامة ـ في تنفيذ العقوبة لكي يتحقق من ورائها الأثر الرادع، ثم يتلوها تنفيذ التدابير للقضاء على الخطورة الإجرامية( ).
ج. عدم خصم مدة الحبس الاحتياطي من التدابير الوقائية
يمكن تعريف الحبس الاحتياطي بأنه سلب حرية المتهم فترة من الزمن لاعتبارات تقتضيها المصلحة العامة، ووفقا للضوابط والشروط التي يحددها القانون.
وعلى الرغم من أن الحبس الاحتياطي ليس عقوبة، إلا أن اعتبارات العدالة تستلزم استنزاله من هذه الأخيرة فقد تحمله المتهم تحقيقا للمصلحة العامة، وعلى الرغم من عدم صدور حكم بالإدانة ضده، فيجب الإيضار من هذا المسلك، لذا حرصت التشريعات المختلفة على تقرير قاعدة الخصم.
والسؤال الذي يثور هو : هل يمكن استنزال مدة الحبس الاحتياطي من التدبير الوقائي ؟
الإجابة على هذا السؤال لابد وأن تكون بالنفي، ومرد ذلك أن التدابير يغلب عليها العلاج أو التحفظ، ولا تنطوي على إيلام مقصود حتى يمكن القول باستنزال مدة الحبس الاحتياطي منها، خاصة أن هذا الأخير لا يقلل أبدا من درجة خطورة المحكوم عليه، وفي كل الأحوال، فطالما أن التدابير تكون عادة غير محددة المدة، ويستطيع القاضي أن يطيل في مدتها وفقا للتطور الذي يطرأ على الخطورة الإجرامية أو الاجتماعية، فلن تكون هناك أهمية عملية لإجراء هذا الخصم. وغني عن البيان أن هذا التساؤل لا يثور إلا في حالة الحكم بالتدبير الوقائي بمفرده دون العقوبة، إذ لو حكم به مع هذه الأخيرة فإن الحبس الاحتياطي يتم خصمه من مدة العقوبة.
بعد هذه اللمحة البسيطة عن القواعد الموضوعية والأحكام الإجرائية التي تخضع لها التدابير الوقائية يبقى علينا تبيان أنواع هذه التدابير، والتقسيم الذي أخذ به المشرع المغربي في هذا المجال. إلا أن ما تجدر الإشارة إليه قبل سرد أنواع التدابير الوقائية في التشريع المغربي هو أن المشرع المغربي حينما تبنى نظام التدابير الوقائية إنما نص على إحدى عشر تدبيرا وقائيا (الفصل 61 و62) من القانون الجنائي إلا أنه يلاحظ أن التدابير الوقائية المغربية قليلة إذا ما قورنت بالتشريعات الجنائية المقارنة التي تصل في بعضها إلى 40 تدبيرا. مما يدعو في هذه الحالة إلى التكثير منها حتى تقوم بدورها العلاجي والوقائي في المجتمع. هذا مع لفت النظر إلى أن هذه التدابير لم تشتمل على التدابير الخاصة بالقاصرين التي وضعها المشرع المغربي في مكان خاص هو قانون المسطرة الجنائية (الفصول 514 ـ 518)، كما تجب الإشارة إلى أن التدابير الوقائية فيها ما هو سالب للحرية كالإقصاء والإجبار على الإقامة والمنع منها … وفيها ما هو سالب للحقوق كالمنع من مزاولة مهنة أو نشاط أو فن، وسقوط الحق في الولاية على الأبناء( ).
وهذا ما سنحاول تناوله بالتحليل والدراسة الدقيقين في هذا الفصل.
______________________________
( ) سالم عمر : النظام القانوني للتدابير الاحترازية، المرجع السابق، ص. 22.
( ) د. محمد بن جلون : شرح القانون الجنائي العام وتطبيقاته، المرجع السابق، ص. 70.
( ) العلمي عبد الواحد : شرح القانون الجنائي العام، ط. 1999، المرجع السابق، ص. 167.
( ) سالم عمر : النظام القانوني للتدابير الاحترازية، المرجع السابق، ص. 74.
( ) عبد السلام بنحدو : الوجيز في القانون الجنائي المغربي، ط. 2000، ص. 311.