الأسس القانونية لنظام الخسارة البحرية المشتركة

نظام الخسارة البحرية المشتركة
الفصل الأول : التطورات التاريخية لنظام الخسارة المشتركة وأسسها القانونية
الفـرع الثـانـي: الأسس القانونية لنظام الخسارة البحرية المشتركة

أخفق القانونيون في رد نظام العوارية العامة إلى أي من أنظمة القانون المد ني. فرغم المناقشات العديدة,فقد استقر الرأي على أن نظام العوارية العامة هو نظام بحري أصيل يستمد أصله من ضرورات الملا حة البحرية و الميل نحو تفادي الأخطار و التقليل من الآثار المالية لها. و ا رجع العد يد من القانونيين نظام العوارية العامة- و هذا هو الرأي الراجح – إلى وجود ما يشبه الرابطة القانونية mutual بين المخاطرة البحرية المشتركة تؤسس إلى اتحاد مصالحهم في نجاح الرحلة و اشتراكهم في المخاطر و الظروف التي يتعرضون إليها و التي تتعلق بالسلا مة البحرية التي يعود نفعها الضمني على جميع الأطراف .
و قد شكل موضوع الأساس القانوني لنظام الخسارة المشتركة مادة د سمة للعد يد من المناقشات اخذ ت في مجموعها شكل نظريات قانونية. هذا في الوقت الذي عرف فيه النصف الثاني من القرن العشرين ثورة تقنية همت المجال البحريي، ترجمت بظهور تكنولوجيا جديدة في مجال بناء السفن وتسييرها. و يعود مصد ر هذه الثروة إلى ظهور جسد ين من القواعد و التي ما تزال تطبق مبد ئيا في مادة الخسارة المشتركة إلى يومنا الحاضر. و يتعلق الأمر ب القانون الفرنسي ل7 يوليوز 1967 مصحوبا بمرسوم 19 يناير1968. و قواعد يورك و انفرس لسنتي 1994 و 2004 .
و في هذا الفرع سنقوم بدراسة مختلف النظريات القانونية التي حاولت التأسيس لمنطق المشاركة في الخسارة. و يتعلق الأمر بالنظريات الثلاثة التالية :
 نظرية العقد أو المشاركة
 نظرية الإثراء بلا سبب
 نظرية اتحاد المصالح
و ذلك في مبحث أول. ثم نعالج مختلف الأنساق القانونية الجديدة التي تحكم تطبيق الخسارات المشتركة في مبحث ثاني، و خصوصا النسق القانوني الفرنسي,و النسق القانوني الدولي.

المـبحـث الأول: النظريات القانونية المؤسسة لنظام الخسارة البحرية المشتركة.
تأسس الخسارة البحرية المشتركة على فكرة مفادها ضرورة مشاركة مجموعة من الأشخاص غير المسؤولين عن الأضرار الناتجة عن حوادث مفاجئة في أداء قيمة هذه الأضرار, بد ون أن تكون استشارتهم ضرورية. هؤلاء الأشخاص ملزمون بدفع قيمة الضرر أو النفقة كلما كانت لهم منفعة أو مصلحة في إحداث ذلك الضرر أو تلك النفقة.
غير أن السؤال الذي أثير بهذا الخصوص يتعلق بمعرفة الأساس القانوني الذي يقوم عليه الالتزام أو الإلزام بالمشاركة في الخسارة. و كان ذلك سبب لظهور عدة نظريات قانونية حاولت إيجاد جواب لهذا السؤال.
الـمطـلب الأول: نظـرية الـعـقـد أو المشـاركـة
يفترض بعض الباحثين أن منشأ نظام الخسارة المشتركة هوعقد النقل و المشاركة المؤسسة عليه. فنظرية الخسارة المشتركة ليست تطبيقا للقواعد العامة بل هي نظام بحري أصيل يتضمن خروجا عن هذه القواعد, و يقوم على اتفاق ضمني بين المجهز و الشاحنين يشتركون بمقتضاه في تحمل المخاطر التي تتعرض لها الرسالة البحرية .
فعندما تكون السفينة- طبقا للتحليل السابق- مهددة بخطر حقيقي وجرت عملية إنقاذها فان المالك أو المجهز، إذا كان هذا الأخير ليس هو مالك السفينة يلتزم بأداء النفقات الملائمة لعملية الإنقاذ. ومن المفيد للمجهز أو المالك أن تكون نسبة هامة من هذه النفقات التي دفعت، قد دفعت من طرف الأشخاص المستفيدين من تلك العملية.
وبالتالي فان المشاركة في تحمل النفقات حسب هذه النظرية هي مشاركة مبررة، ذلك أن الربان يتصرف في موقع المجهز Un negotiorumgestor.
ومما يؤكد هذا الرأي – حسب الدكتور كمال طه – التطور التاريخي الذي مر به نظام الخسارات المشتركة. فقد رأينا انه كان يجب على الربان وفقا لقنصلية البحر و أحكام اوليرون أن يستشير الشاحنين و ممثليهم قبل القيام بأية تضحية في سبيل السلامة العامة. مما يجرم أساس المساهمة في الخسارة المشتركة هو عقد ضمني بين المجهز و الشاحنين.
وقد تعرضت نظرية العقد أو المشاركة للعديد من الانتقادات حيث لوحظ أنها مخالفة تماما للتطبيق الذي تعرفه الخسارة المشتركة. ويتجلى ذلك من جهة أولى في أن هذه النظرية تتطلب تشكيل اتفاق ضمني بين الملزم بالأداء و المستفيد من التضحية لفائدة شخص ثالث هو المطالب بالمشاركة. ومن جهة ثانية فان هذه النظرية تفرض مشاركة البضاعة السرية(المنافستو) في تحمل الخسارة بالرغم من غياب أي اتفاق مبرم لفائدة هذه البضاعة. ومن جهة ثالثة فان هذه النظرية إذا كانت صالحة لتفسير العلاقة بين الشاحن و الناقل فإنها لا تصلح لتفسير العلاقة بين الشاحنين بعضهم البعض.
وهذا ما يدل عن عجز نظرية العقد أو المشاركة عن تفسير الأساس الذي يقوم عليه الانضمام للخسارة المشتركة .
إن نظرية العقد لم تكن النظرية الوحيدة التي حاولت تبرير الأساس الذي تقوم عليه الخسارة المشتركة.بالنسبة لرأي آخر فان الخسارة المشتركة تتأسس على نظرية الإثراء بلا سبب.
المطـلب الثـانـي: نظـرية الإثـراء بـلا سـبـب.
يؤسس نظام العوارية العامة في جوهره على أساس فلسفي رصين، هو أن من ينشد العدالة عليه الخضوع لمبادئها Who claimequity must render equity . وفي هذا الصدد نسوق هذا القول عن الأستاذ رشدي عبد العزيز…” فما العوارية العامة إلا مدينة بنشأتها إلى المبدأ الذي أرسته الشرائع السماوية و هو: عدم شروع الإثراء على حساب الغير. بل تقتضي أن يشترك جميع من استفادوا من مصاريف أو تضحيات أجريت لصالح المجموعة في تحمل مثل هذه المصاريف أو التضحيات بدلا من أن ينوء تحت عبئها من قام بإجرائها فيفتقر هو ليغتني الآخرين” .
إن نظرية الإثراء بلا سبب- بناء على قول الأستاذ رشدي عبد العزيز- تتأسس على مبدأ أخلاقي يمنع الإثراء على حساب تضرر الغير. فعندما يقوم الربان و بشكل إرادي و من اجل السلامة العامة بإلحاق ضرر بالسفينة أو البضاعة، أو بإحداث نفقة غير عادية فانه يجب ألا تكون هذه الخسارة مصدر إثراء بالنسبة لأشخاص على حساب اخزين تم التقليل من مصالحهم. فبالاعتماد على هذا المبدأ يحق لهؤلاء أن يطالبوا بانضمام مالكي الأموال التي تم إنقاذها في تحمل الخسائر.
و رغم ذلك فقد حاول بعض الباحثين استبعاد نظرية الإثراء بلا سبب كأساس قانوني مقبول لتفسير نظام العوارية العامة لعدة اعتبارات. فقد ذهب جانب من الفقه إلى القول أن مجرد تفادي الضرر لا يعتبر اغتناء و لا يبرر رجوع من لحقه الضرر على من لم يصبه ضرر. و لو أن الأمر يتعلق بتطبيق” قاعدة عامة” لكان لزاما تطبيقها على النقل البري و النهري و السكك الحديدية. و ذهب جانب آخر من الفقه في اتجاه تدعيم الفكرة السابقة، حيث اعتبر انه إذا كان هناك افتقار و خسارة في جانب فليس ثمة إثراء في الجانب الآخر لان عدم التعرض للهلاك لا يعد من قبيل الإثراء.
و إذا كانت نظرية الخسارة المشتركة محل تطبيق للإثراء بلا سبب لكان من الواجب أن يؤخذ بها في النقل البري أسوة بالنقل البحري، ، مع أن الواقع غير ذلك إذ رفضت محكمة النقض الفرنسية تطبيق نظرية تطبيق نظرية الخسارات المشتركة على النقل البري لأنها- كما قالت- خاصة بالنقل البحري. أما رود يير Rodiére فذهب إلى القول أن ” تفسيرا عصريا لا يناسب مؤسسة تقليدية “. و يستنتج من هذا القول أن مجموع القواعد التقنية التي تحكم المساهمة في الخسارة المشتركة تختلف تماما عن تلك التي تبنتها نظرية الإثراء بلا سبب. ففي حين أن حساب نسبة المساهمة يتم بطريقة مركبة في القواعد المنظمة للخسارة المشتركة، نجد أن حساب هذه النسبة طبقا لنظرية الإثراء بلا سبب يتم بطريقة بسيطة دون الاستناد إلى حسابات علمية. و هذا ما يدل عن عدم نجاعة هذه النظرية كأساس لتفسير مؤسسة الخسارة المشتركة.
هذا في حين أن بعض الفقه يرى انه يمكن إعمال هذه النظرية في حالة افتراض غياب تصريح بالخسارة المشتركة. ففي هذه الحالة سيكون هناك بدون شك – حسب هذا الرأي – إثراء بلا سبب بالنسبة للمصالح التي لم تتعرض لأي ضرر.
ومن وجهة رأينا الشخصية نرى انه بالرغم من رفض القانونيين اعتبار الإثراء بلا سبب أساسا قانونيا مقبولا لنظام الخسارة المشتركة- وهذا لحساب أسس معينة أخرى – فان هذا لا يمنع اعتباره أساسا أخلاقيا مناسبا نابعا من الشرائع السماوية، حيث انه يعكس العدالة في اظهر معانيها.
الـمطـلب الثـالـث : نظريـة إتحـاد المصالـح .
تعود الجذور الأولى لنظرية إتحاد المصالح إلى السنوات الأولى التي عرفت ميلاد مؤسسة الخسرات المشتركة. فقد بنيت المساهمة أساسا حسب هذه النظرية على إتحاد مؤقت بين مالك السفينة أي المجهز و الشاحنين في مواجهة مخاطر الرحلة البحرية .
وتأسيسا على هذه النظرية فان الربان عندما يقرر القيام بالتضحية بهدف ضمان المصلحة المشتركة للسفينة و للبضاعة، فانه يجب على كل من يهمه الأمر أن يساهم في هذه التضحية. ففي النقل البري يعتبر الناقل مجرد مقاول يتحمل كل مخاطر النقل أما في الملاحة البحرية فان مخاطر النقل أكثر وقوعا و اشد جسامة و من الممكن تفاديها و إنقاذ السفينة و الحمولة إذا قام الربان تضحية اختيارية في سبيل السلامة العامة. لحث الربان على القيام بهذه التضحية تقرر أن هذه الأخيرة إنما يقوم بها الربان لمصلحة جميع ذوي الشأن في الرسالة البحرية بوصفه ممتلا للمجهز و الشاحنين على السواء نظرا لإتحاد المصالح الذي ينشأ بينهم منذ شحن البضاعة على السفينة .
وفي هذا الصدد يقول روديير Rodiér إن الخسارة المشتركة بإيجاز هي التضحية المؤقتة المفروضة على أحد المتضامنين من طرف رئيس مؤسسة السفينة من أجل مصلحة الكل.
« L’avarie commune est en bref le sacrifice provision imposé à l’un des associés par le chef de la société du bord dans l’intérêt de tous »
فروديير يتحدث هنا عن التضحية المؤقتة سعيا وراء القول بوجوب مساهمة كل المتضامنين للرحلة البحرية في تعويض ما ثم إفدائه في سبيل مصلحة الكل.
إن هذا الإتحاد بين المجهز و الشاحنين، و أيضا بين الشاحنين أنفسهم ليس وليد اتفاقية معينة، بل هو نتاج للقانون الذي يطبق في العلاقات بين كل المنضمين للرحلة البحرية بشكل إرادي. حيث يشكل هؤلاء في مجموعهم إتحاد يتمتع بقوة قانونية في مواجهة أي واحد من هذه المجموعة . بالإضافة إلى أن هذا الإتحاد يشمل كل البضائع المحملة بما فيها تلك البضائع غير المدرجة في المنافستو.*
و لقد ووجهت نظرية اتحاد المصالح بالعديد من الانتقادات جعلت منها نظرية لم يعد لها اليوم أي أساس منطقي في التطبيق. فالأستاذ بوكالي Bokalli يرى أن الاعتماد على نظرية اتحاد المصالح لتفسير الخسارات المشتركة أصبح متجاوزا بدليل أن ” الرحلة البحرية لم تعد مغامرة مشكوك في خلاصها كما كانت في السابق “. وأضاف نفس المصدر تدعيما لموقفه : ” لا جدال في أن الملاحة العصرية أصبحت مؤمنة أكثر من السابق، فعلى سبيل المقارنة، نجد أن مخاطر الملاحة البحرية أصبحت قليلة بالنظر إلى حجم المخاطر التي تتعرض لها الملاحة النهرية و أيضا النقل البري ” .
و من وجهة نظرنا الشخصية، يبدو لنا أن مقترحات الأستاذ بوكالي Bokalli لا تتطابق مع واقع الملاحة البحرية في يومنا الحاضر.فبالرغم من التطورات التقنية الضخمة التي شهدتها الملاحة البحرية بالمقارنة مع الفترة التي شهدت ميلاد نظام الخسارة المشتركة، فإن العديد من السفن لاتزال مهددة بالمخاطرإلى يومنا هذا . وهدا بالتحديد ما كشف عنه الأستاذ يفس تاسل Tassel Yves لدحض فكرة الأستاذBokall حيث شبه السفينة “بشيئ يتحرك داخل بيئة عدائية”.
و إلى جانب هذه النظريات الثلاثة الرئيسية توجد أفكار أخرى حاول بعض الفقه الإعتماد عليها كأساس قانوني لتفسير الخسارة المشتركة. ومن بينها : فكرة الفضالة. فحسب هذه الفكرة فإن الربان يتدخل كفضولي ليراعي مصالح الشاحنين. غير أن هذه الفكرة إنتقدت إذ لا تتوفر شروط الفضالة في العوارية العامة . كما أن نظام العوارية العامة سابق تاريخيا لنظام الفضالة .

الـمبـحـث الثـانـي : الأنساق القانونية التي تحكم تطبيق الخسـارة المشتركـة.
إعتبارا إلى أن قواعد يورك وانفرس ليس لها طابع الإلزام في التطبيق, إذ تستمد قوتها من إتفاق ذوي الشأن عليها وفقا للطريقة التي إلتزمتها جمعية القانون الدولي في توحيد القانون البحري, فإن التفكير أصبح ينصب حول إخضاع مؤسسة الخسارات المشتركة للقانون الداخلي لكل دولة لإضفاء صفة الإلزامية على هذه القواعد، وقد ترجم ذلك بظهور أول قانون داخلي منظم لمؤسسة العوارية العامة بفرنسا و يتعلق الأمر بقانون 17 يوليوز لسنة 1967 مصحوبا بمرسوم 19 يناير 1968 . غير أن ما يلاحظ في التطبيق هو محاولة الدول البحرية الإبتعاد ما أمكن عن تطبيق قوانينها الداخلية المتعلقة بالخسارة المشتركة لفائدة تطبيق قواعد يورك وانفرس بعد أن شهدت مجموعة من التعديلات إنتهت بميلاد قواعد 1994 والتي خضعت بدورها للمراجعة من طرف اللجنة البحرية الدولية (C.M.I) أسست لبزوغ قواعد يورك وانفرس 2004.
و ستنقسم الدراسة في هذا المبحث إلى ثلاث مطالب: نتناول في المطلب الأول قانون 7يوليوز 1967 و مرسوم 19 يناير 1968 الفرنسي بإعتباره أول تقنين داخلي لمؤسسة العوارية العامة, و ستناول بعد ذلك في المطلب الثاني, قواعد يورك وانفرس لسنة 1994 لتنتهي في الأخير بدراسة قواعد يورك وانفرس 2004 في مطلب ثالث .
المـطـلـب الأول: قـانـون 7 يـوليـوز 1967 و مـرسـوم 19 ينـأيـر 1968 الفرنسـي .
بالإستلهام وبشكل ضيق من الممارسة الدولية المكرسة بواسطة قواعد يورك وانفرس لاحظ القانون الفرنسي ضرورة وضع تنظيم داخلي للخسارة المشتركة، إنتهى بصياغة قانون رقم 545 ل 17 يوليوز 1967 والذي ثم تطعيمه بمرسوم رقم 65 ل 19 يناير 1968. و تجدر الاشارة الى ان القواعد التي وضعها قانون رقم 545 ومرسوم رقم 65 الفرنسي الخاصين بالخسارة المشتركة، ليست من النظام العام، بل يمكن الإتفاق على مخالفتها بإرادة الأطراف، هذا بإستثناء الفصل 22 في فقرته الثالثة والذي يعتبر بمثابة إجراء قانوني إلزامي، حيث جاء في مضمون الفقرة الثالثة من هذا الفصل أنه في حالة تحقق الخسارة المشتركة فإن المجهزين الفرنسيين يتوجب عليهم تطبيق المقتضيات التي قاموا بالتنصيص عليها مسبقا في مواثيقهم و مشارطات الإيجار دون أن يكون لهم الخيار سواء في إعمال القانون الفرنسي،
أو في إعمال قواعد يورك وانفرس فالموزع مثلا إذا قام بتعيين طريقة مفيدة لإصلاح الأضرار فإن المجهز لا يسعه إلا أن يتبع هذا الإجراء.
أما في المغرب, فإن الضرورة في عهد الحماية لم تكن ملحة لإصدار القانون التجاري البحري، كما كانت بالنسبة لمجموعة ظهائر 12غشت 1913 واكتفى بإصدار عدة ظهائر- بحسب ما تدعو إليه الحاجة- كانت تنظم الملاحة والموانئ و التجارة البحرية , منها ظهير 5 يناير 1916 المتعلق بتنظيم الصحة البحرية, و ظهير 23 مارس 1916 المتعلق بتنظيم الحطام البحرية، إلى أن إستقر الأمر بصدور القانون البحري الحالي بتاريخ 19 مارس 1919 والذي يتكون من ثلاثة ظهائر, من بينها الظهير المنظم للتجارة البحرية المؤرخ في 31 مارس 1919 ويضم ثلاث كتب. وقد خصص الكتاب الثالث منها للحديث عن أحكام النقل البحري والأخطار البحرية والتأمينات البحرية ،وخص الباب الثالث منه للعواريات، حيث أورد لها اثنا و عشرين فصلا .
ويتضح لنا من خلال تصفحنا لفصول القانون البحري المغربي الخاصة بالخسارة المشتركة أنها لا تخالف من حيث مضمونها و أحكامها تلك المنصوص عليها في القانون البحري الفرنسي من خلال قانون 7 يوليوز 1967. و إن كان هناك اختلاف بينهما من حيث الشكل. حيث نجد قانون 7 يوليوز 1967 الفرنسي يتبنى تقسيما منطقيا، حيث عالج في جزئه الأول”ترتيب الخسارات المشتركة” لكل التضحيات و النفقات التي تدخل ضمن الخسارة المشتركة، ثم عالج في جزئه الثاني “المساهمة في الخسارة المشتركة” و في الجزء الثالث عالج مسالة “نظام الخسارات المشتركة “. هذا التقسيم الشكلي نجده غائبا في القانون البحري المغربي.
تجدر الإشارة في الأخير، انه إذا كان القانون الفرنسي رقم 545 والذي تم تدعيمه بمرسوم رقم 65 المتعلقين بتنظيم مؤسسة الخسارة المشتركة يختلف تماما عن قانون التجارة من حيث الشكل فان هذا لا ينفي حضور قواعد يورك و انفرس في جسم هذا القانون الداخلي و يتجلى ذلك في تضمنه للقاعدة التفسيرية بالإضافة إلى بعض القواعد المرقمة.
يتضح لنا جليا في نهاية هذا التحليل, و من خلال تضارب النظريات و الأفكار التي حاولت تفسير الأساس القانوني لنظام الخسارة المشتركة و بناء على ما ذهبت إليه التيارات الفكرية الكبيرة مثل التيار الإيطالي و البريطاني, و الأمريكي أن نظرية اتحاد المصالح و التي تقوم على مبدأ الرابطة التعاونية بين المجهر والشاحنين هي أفضل التفسيرات المقدمة .
الـمـطـلب الثـانـي: قـواعـد يـورك و انـفـرس1994
منذ سنة 1864 التي شهدت لأول مرة ميلاد قواعد يورك و انفرس، عرفت هذه الأخيرة و بشكل تدريجي جملة من التغييرات تراوحت بين الاضافة و الحذف، و التعديل بهدف جعلها قادرة على مسايرة الثورة التقنية و القانونية التي ميزت الميدان البحري. ففي سنة 1990 قررت اللجنة البحرية الدولية(C.M.I) عقد مؤتمر في باريس بهدف اقرار اهمية مراجعة وضع قواعد يورك و انفرس1974 ، و تم لهذا الغرض، تشكيل لجنة برئاسة سكرتير الاتحاد الدولي لمسوي الخسائر و عضوية عدد من المهتمين.
وبدأت هذه اللجنة أعمالها في سنة 1991 برفع تقرير الى اللجنة لبحرية الدولية، بعد تصميم استطلاع رأي Questionnaire لكافة اطراف صناعة النقل البحري. وقد تضمن التقرير جزئين أساسين:
 الجزء الاول من التقرير :
ويتعلق بالمعلومات التي تم جمعها عن التطورات القانونية لنظام العوارية العامة، و كذلك التصورات الفنية التي يمكن أن يكون لها تأثير على هذا النظام و القواعد المعنية به مستقبلا.
 الجزء الثاني من التقرير:
أورد نتائج استطلاع آراء المنظمات الدولية و المحلية المتعلقة بالقانون البحري فيما يتعلق بقواعد يورك و انفرس. و قدد حددت صحيفة الاستقصاء عدد من الأسئلة و الاستطلاعات التي تركزت في مادة العوارية العامة حول النقط التالية:
 مشكلات الإنقاذ و الحطام البحري.
 إشكال المستندات المستخدمة في تسوية العوارية العامة.
 شروط سندات الشحن و مشارطات الإيجار المتعلقة بالعوارية العامة.
وقد حدد هذا الاستقصاء نتائج هامة جدا، تمثلت في إقرار كافة الجهات بأهمية و فعالية نظام الخسارات المشتركة، مما دل على أهمية مراجعة بعض البنود و القواعد في مجموعة قواعد يورك و انفرس1974.
و تزامن مع نشاط اللجنة البحرية الدولية أن قام مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة و التنمية(U.N.C.T.A) ببحث مسالة العوارية العامة على نطاق واسع. كما تم تأسيس لجنة مشتركة بين الجهتين كان من نتائجها الأساسية ضرورة إعادة تقييم دور التامين البحري في تبسيط و فعالية نظام العوارية العامة. و استمرت الجهود و المناقشات بين كل من اللجنة البحرية و الاتحاد الدولي للتامين البحري حتى توجت بعقد المؤتمر الخامس و الثلاثين ما بين الثاني و الثامن من اكتوبر1994،كان بمثابة ميلاد قواعد يورك و انفرس1994.
و سيرا على النهج القديم لقواعد يورك و انفرس فقد تم استهلال قواعد 1994 بقواعد أبجدية و هي مجموعة قواعد لها رموز من A إلى G تشكل مبادئ عامة لتسوية العوارية العامة ، ما لم يرد حكم خاص مخالف لها في القواعد الرقمية. و بالتالي فان هذه القواعد تمثل في مجموعها مبادئ عامة لتسوية العوارية. و قد تم إتباع هذه القواعد بقواعد أخرى رقمية لها رموز رومانية من I إلى XXII بمعنى أنها اثنا وعشرين قاعدة تشكل تطبيقات خاصة .
و قد تجلت أهم التعديلات التي جاءت بها قواعد1994، من جهة أولى، في إضافة فقرة ثانية للقاعدة C و التي تنص على تحميل المشاركين في الرحلة البحرية مسؤولية الأفعال التي من شانها أن تسيء للبيئة البحرية، و من جهة ثانية عرفت المادة E إضافة مقتضيين : الاول ينص على انه ليس للأطراف المشاركة في الرحلة البحرية الا مدة اثنا عشر (12) شهرا ابتداءا من تاريخ الرحلة لاعلام الموزعين Les distributeurs بحالة الخسارة المشتركة . اما المقتضى الثاني فينص على انه في حالة مرور الأجل المذكور في المقتضى الأول دون قيام الإعلان عن الخسارة المشتركة فانه يجوز للموزع أن يقدر قيمة المساهمة في الخسارة المشتركة .
و من هذا المنطلق، يبدو أن الهدف من التعديلات التي عرفتها قواعد 1994، يتجلى في محاولة تجاوز الانتقادات التي أثارها طول مدة المسطرة التي تحكم تحديد قيمة المساهمة في الخسارة .
تجدر الإشارة في الأخير أن قواعد يورك و انفرس1994 قد نجحت و لو جزئيا في تجاوز العديد من الانتقادات التي وجهت لقواعد 1974، و التي يبقى استبعادها للأضرار المتعلقة بالبيئة البحرية ضمن الخسارات المشتركة من أهم هذه الانتقادات .
المـطـلب الثـالـث: قـواعـد يـورك و انـفـرس الجـديـدة (2004).
ابتداءا من مارس 1999، قام الاتحاد الدولي للتامين البحري بتوجيه طلب لرئيس اللجنة البحرية الدولية يحمل في طياته نصا لمراجعة جديدة لقواعد يورك و انفرس.
و في مؤتمرها السادس و الثلاثين الذي انعقد في فبراير 2001، أخذت اللجنة الدولية البحرية على عاتقها مسؤولية الإجابة عن مجموعة من الأسئلة التي طرحها الاتحاد الدولي للتامين البحري حول عدة مواضيع همت بشكل أساسي بعض القواعد نظرا لأهميتها العملية في مجال الخسارة المشتركة. و في هذا الإطار أقدمت اللجنة الدولية البحرية خلال مؤتمرها الثامن و الثلاثين الذي عقدته في “فانكوفير” vanconver من 04 إلى 31 يونيو 2004، على طرح مقترحاتها لتعديل قواعد يورك انفرس لسنة 1994. و قد شمل هذا التعديل بشكل أساسي ست (6) قواعد مرقمة، بدءا من القاعدة رقم VI و انتهاءا بالقاعدة رقم XXIII.
و يمكن إيجاز أهم هذه التعديلات في أربع نقط رئيسية :
* إقصاء مكافأة الإنقاذ من النفقات المقبولة كخسارة مشتركة، إلا في حالة ما إذا قام احد الأطراف المندرجة ضمن عملية الإنقاذ بأداء كل أو جزء من هذه المكافأة حيث في هذه الحالة تندرج مكافاة الإنقاذ ضمن الخسارة المشتركة (القاعدة رقم XI).
لم تعد أجور و مصاريف الربان، و كذا مصاريف الطاقم مقبولة كخسارة مشتركة، و ذلك في الحالات التي نصت عليها صراحة القاعدة رقم XI في شقها الثاني، مثل حالة المكوث في ميناء الملجأ.
وضع سقف أعلى لقيمة الإصلاحات المؤقتة التي يمكن أن تدرج ضمن الخسارة المشتركة حيث أصبحت قيمة هذه الإصلاحات حسب المادة XIV لا تتجاوز في معدلها كحد أقصى مجموع تكاليف الإصلاحات المؤقتة و الإصلاحات النهائية داخل ميناء الالتجاء.
إلى جانب هذه التعديلات التي استهدف واضعوها من خلالها تخفيض قيمة النفقات المندرجة ضمن الخسارات المشتركة، و أيضا تفادي أية مراجعة محتملة أخرى قد تمس نظام الخسارة المشتركة، فقد اتسمت قواعد 2004 باستحداث قاعدة جديدة لم تكن معروفة في السابق في إطار قواعد 1994 . و يتعلق الأمر بالقاعدة رقم XXIII و التي تنص على أن الحقوق و الضمانات المرتبطة بالمساهمة في الخسارة المشتركة تسقط بمرور سنة بعد دخول نظام الخسارة المشتركة حيز التنفيذ، أو بعد مرور ست سنوات ابتدءا من تاريخ نهاية المغامرة البحرية المشتركة و مامنيهم، و تحديدا في شقها الأول.
و استنتاجا مما سبق تحليله طيلة هذا الفصل، نخلص إلى نتيجة مفادها أن قواعد يورك انقرس بمختلف تطوراتها التاريخية بإخفاقاتها و نجاحاتها شكلت في نهاية المطاف العمود الفقري للعديد من القوانين البحرية لعدد من الدول السائرة في طريف النمو، كقواعد بكين 1975 الخاصة بالخسارة المشتركة لدولة الصين الشعبية، و القانون البحري الجزائري الصادر في 23 نونبر 1976 الخاص بالخسارة المشتركة ، و القانون البحري المغربي.

قرأوا أيضا...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.