الخسارة البحرية المشتركة

نظام الخسارة البحرية المشتركة
مـقـدمـة
بالرغم من كل العلاجات والتحسينات التي شهدها ميدان النقل عموما، والنقل البحري خصوصا، فإن هذا الأخير لا زال محفوفا بعدة مخاطر تكتسي طابع الجدية. هذه المخاطر تترجم قبل كل شيء إلى خسائر مادية ناتجة عن فعل السفينة والحمولة عبر الرحلة البحرية.
وقد درج الكتاب القدماء على تسمية هذه الأعطاب المادية بالخسائر- الأضرار أو الخسائر بمثابة أضرار. وفي القانون البحري تأخذ كلمة ” خسارة ” مفهوما واسعا بالمقارنة مع مفهومها في المعجم المتداول.
ذلك أنها تشمل ليس فقط الأضرار المادية التي تصيب السفينة، والحمولة على السواء بل تمتد أيضا لتشمل بعض النفقات الطارئة المفرزة خلال الرحلة البحرية سواء من جانب السفينة أو من جانب الحمولة أو من جانبهما معا.
إننا نصادف إذن إلى جانب الخسارات بمثابة أضرار نوعا آخر من الخسارة يختلف تماما عن النوع الأول درج الفقهاء على تسميتها الخسارات بمثابة نفقات.
نجد مصدرها في التكاليف التي يتطلبها السفر والتي يجب أن توزع بين السفينة والحمولة.
إن هذه التفرقة بين الخسارات هي التي يجسدها القانون البحري بكل معالمها في إطار ما يسمى بمؤسسة الخسارة البحرية المشتركة. حيث أنه عكس ما هو عليه الحال في قانون النقل البري، فإنه في إطار قانون النقل البحري، إذا كان هناك وجود الأضرار يتحملها مالك الشيء لمفرده فإنه توجد أيضا أضرار أخرى يتحملها مجموع أشخاص الملاحة البحرية بالاشتراك، تعرف باسم الخسائر الكبرى أو الخسارات المشتركة.
والخسارات البحرية المشتركة تعني ببساطة أن ما يضحى به وقت الخطر لصالح جميع المستفيدين من الرحلة البحرية يتم تعويضه بمساهمة الجميع، ذلك أن السفينة تتعرض في رحلتها إلى مصاعب كثيرة تؤدي أحيانا إلى قربها من حالة الغرق، فيعمل الربان إلى عمل كل ما يمكن لإنقاذ السفينة وما عليها من أموال وأرواح، يتمثل ذلك بإلقاء جزء من الحمولة في البحر لتحقيق عملها أو التضحية بحبالها أو بصواريها، كما يتمثل عمل الربان بالاستعانة بسفن أخرى لمساعدة سفينته في محنتها إما بقطرها أو بتعويمها في حالة الجنوح، أو بمساعدتها في إخماد حريق شب عليها. ومن تم فإن المصالح التي استفادت من هذه التضحية أو من المصاريف التي أنفقت في سبيل إنقاذ الأموال الأخرى التي وصلت سالمة إلى ميناء الوصول، عليها أن تساهم بتعويض أصحاب المصالح التي تمت التضحية بها.
ونظام المساهمة في الخسارات البحرية المشتركة نظام قديم قدم الملاحة البحرية نفسها، وأول إشارة إلى هذا النظام وجدت في القانون الرودسي منذ عام 900 قبل الميلاد في جزيرة رودس في البحر المتوسط حيث كانت ضمن الإمبراطورية الفينيقية التي سادت البحار في تلك الأيام. ثم انتقلت الفكرة للرومان الذين أدخلوها في كتاب الدابجست Digest رقم 385 زمن الإمبراطور جستنيان. وقد احتوى هذا الكتاب على قاعدة مفادها ” أن الخسارة التي تتم لمنفعة الجميع يجب التعويض عنها بمساهمة الجميع “. وقد طور فقهاء الرومان هذه القاعدة فلم تعد تقتصر على رمي البضاعة في البحر بل تشمل كذلك قطع صاري السفينة وإلقائه في البحر. كما قصروا المساهمة في الخسارات التي تترتب على تضحية اختيارية في سبيل السلامة العامة للرحلة البحرية. ثم انتقلت هذه القاعدة أو المبدأ إلى قنصلية البحر في القرن الرابع عشر الميلادي، ويطبق على الملاحة في الساحل الغربي للبحر المتوسط، ثم أصبحت هذه القاعدة جزء من قواعد أوليرون التي دخلت القوانين البحرية الأوربية القديمة، إلى أن ظهرت هذه القواعد المتعلقة بالخسارات المشتركة في الأمر الملكي الفرنسي سنة 1681، والذي اقتدت به جميع البلدان الأوربية ومنها التقنيين التجاري الفرنسي عام 1807.
وقد تعرض فقهاء الشريعة الإسلامية لحكم التضحيات التي تقع عندما تتعرض الرحلة البحرية لخطر يهددها ومنهم مالك بن أنس رضي الله عنه، غير أنه إذا كان مبدأ المساهمة في الخسارة المشتركة قديم وعادل ويسير في ظاهره، فإن تطبيقاته في التشريعات البحرية أخذت صورا مختلفة ليس في التفصيلات فحسب، بل إن هذه التشريعات تتباين فيها الخسارات التي تعتبر خسارات بحرية مشتركة، كما تختلف فيها حكم تقدير هذه الخسارات وكيفية المساهمة فيها. مما دفع أصحاب السفن أو التجار ورجال التأمين لمحاولة إيجاد قواعد موحدة في هذا الشأن. فكانت أولى هذه المحاولات عقد مؤتمر دولي ملاحي في ” جلا سجو ” ببريطانيا عام 1860 إلا أن المعارضة التي واجهت هذا المشروع دعا إلى مؤتمر آخر في يورك ببريطانيا عام 1864 أسفرت وضع إحدى عشر قاعدة عرفت باسم قواعد يورك 1964، ومع ذلك لم تلقى هذه القواعد قبولا دوليا مما حتم عقد مؤتمر آخر في أنفرس ببلجيكا عام 1877 تبنى قواعد يورك مع إضافة مادة جديدة تتعلق بتقدير قيمة البضاعة التي تمت التضحية بها. تم توالت التعديلات عليها، فكان مؤتمر لينربول عام 1890، ثم مؤتمر ستوكهولم عام 1924 أسفر عن وضع قواعد يورك وأنفرس 1924 حمل تعديلا هاما تجلى في إدخال قواعد مرقمة بالأحرف والتي تعالج المبادئ العامة.
ومع ذلك ثم الاتفاق بين أصحاب السفن وشركاء التأمين والشاحنين على إعادة النظر في هذه القواعد عام 1650 أضيفت إليها قاعدة تتعلق بالتفسير. لكن أمام الخلافات التي أثارتها أولوية التطبيق بين القواعد المرقمة بالأحرف والقواعد المرقمة بالأرقام تحتم على اللجنة البحرية الدولية إدخال تعديلات عليها مما أدى إلى انعقاد مؤتمر دولي في مدينة هامبورج 1974 تركز التعديل فيع على مبادئ تسوية الخسارات المشتركة. ومع توالي الإشكاليات والتعديلات استقر الأمر بالدول العارفة بشؤون الملاحة البحرية إلى وضع قواعد يورك وأنفرس 1990 ويليها قواعد 2004 ومع توالي الإشكاليات بذلت الدول البحرية العديد من المحاولات منذ منتصف القرن الماضي للتوصل إلى اتفاق دولي فعال بشأن توحيد أحكام الخسارات المشتركة، لما لهذه الأخيرة من أهمية كبيرة خاصة أنها تتصل بمصالح المشغلين بالتجارة البحرية والتي تتضاعف أهميتها بازدياد النشاط التجاري على النطاق الدولي، كما أن هذا الاتفاق سيساعد على حل مشكلة تنازع القوانين إذ كثيرا ما ينتمي أصحاب المصالح التي تشترك في الإرسالية البحرية بجنسياتهم إلى دول مختلفة. وقد تجسدت هذه التعديلات عمليا في إرساء قواعد يورك وأنفرس 1990 إلى أن استقر الأمر بوضع قواعد يورك وأنفرس 2004.
أما الأساس القانوني للاشتراك المصالح في الخسارات التي لحقت أصحاب الأموال التي رميت في البحر أو تلك التي لحقت بأصحاب السفينة جراء إصلاحها فيكمن في قواعد العدالة المستمدة من القانون الطبيعي وليس نتيجة عقد، ولا حاجة بنا إلى العقد لتأسيس هذه المساهمة على أساس مبدأ الإثراء بلا سبب أو على أساس المذهب الاتفاقي الذي كان مطبقا عندما كان الشاحن يصاحب بضاعته على السفينة أو على أساس وجود اتفاق ضمني بين المشتركين في الإرسالية البحرية بشكل تفويض ضمني للربان بالتصرف وقت الخطر كما يتصرف الموكل وقت الخطر لو كان موجودا.
وبعيدا عن الأصل التاريخي للنظام فإن للخسارة البحرية المشتركة شروطا محددة وصورا مختلفة اتفقت جل التشريعات على إدراجها في قوانينها البحرية، ومنها القانون البحري المغربي الذي خصص الباب الثالث للعواريات وحدد لها 22 فصلا. حيث نص في الفصل 313 ” تعتبر عواريات عمومية، الأضرار التي تحصل اختياريا والمصاريف الفائقة العادة التي تنفق من أجل سلامة السفينة والحمولة معا بشرط أن تترتب على تلك الأضرار والمصاريف نتيجة مفيدة “.
فالخسارة المشتركة تتطلب شرطين أساسيين: الخطر، ثم التضحية مع اشتراط تحقق النتيجة المفيدة خارج أي جدال فقهي وتشريعي حول هذا الموضوع.
أما بخصوص هذه الخسارات فتأخذ شكل خسارات بمثابة أضرار سواء ألحقت بالبضاعة أو بالسفينة وإما أن تأخذ شكل خسارات بمثابة نفقات والتي قد تكون استثنائية بطبيعتها أو نتيجة حادث استثنائي.
وإذا كان بحثنا هذا يتضمن تحليلا تفصيليا لأحكام قواعد يورك وانفرس فإن ذلك يجد أساسه في إيماننا بما لهذه القواعد بشأن الخسارات المشتركة من أهمية عملية كبيرة خاصة وأن جميع سندات الشحن البحري تتضمن إحالة إلى قواعد يورك وأنفرس فيما يخص تسوية الخسارة حين وقوع خسارة مشتركة خلال الرحلة البحرية وتتم تسوية الخسارات المشتركة عادة بواسطة ما يسمى بمصفي الخسائر البحرية أو ما يطلق عليه أيضا بخبير التسوية، وذلك باتفاق أطراف الإرسالية البحرية.
وفي هذا الإطار نجذ مجموعتان من القيم: المجموعة الدائنة والمجموعة المدينة والتي يتم حصرهما ثم إجراء التسوية بينهما، فإذا تعذر الاتفاق على القيام بتسوية الخسارات المشتركة وديا بين أطراف الرسالة ثم اللجوء للقضاء بالنسبة للطرف الذي يدعي حقه بالاشتراك في الخسارة المشتركة.
وعلى ذلك فإننا سنقوم باعتماد خطة للبحث تقوم على ثلاث فصول:
الفصل الأول: تطـورات التـاريخية لنظـام الخسـارة المشتـركة وأسسهـا القـانونيـة:
الفصل الثاني: شـروط وصـور الـخسـارات البحـريـة المشـتـركـة
الفصل الثالث: تسـوية الخسـارة البحـرية المشتـركة ودعـوى المسـاهمـة فيهـا

قرأوا أيضا...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.