تقييم دور التدابير الوقائية

بحث حول دور التدابير الوقائية في مكافحة الظاهرة الإجرامية
الفصل الثاني : أسباب إنقضاء التدابير الوقائية وتقييم دورها في مكافحة الظاهرة الإجرامية
الفرع الثالث : تقييم دور التدابير الوقائية في مكافحة الظاهرة الإجرامية وتوجهات السياسة الجنائية الجديدة
رأينا فيما سبق من خلال الفروع السابقة وكذا أنواعها وأسباب انقضائها والإعفاء منها وإيقافها. وجاء الدور لنتكلم عن تقييم دور التدابير الوقائية في مكافحة الظاهرة الإجرامية. فهل استطاعت هذه الأخيرة من أن تلعب دورا إيجابيا إلى جانب العقوبة في مجال مكافحة الظاهرة الإجرامية ؟ أم أنها عجزت عن ذلك ؟ كما سنتطرق في هذا الفصل إلى توجهات السياسة الجنائية الجديدة ومفهوم هذه الأخيرة وذلك من خلال دور كل من المؤسسات العقابية وكذا دور المؤسسات الاجتماعية في مجال مكافحة الظاهرة الإجرامية والمتمثلة في كل من الأسرة، الشرطة، السجن، المجتمع المدني (الجمعيات)، الإعلام، المدرسة وإلى غير ذلك من المؤسسات الأخرى. من خلال هذا كله سوف نعمل على دراسة هذا الفصل حسب الشكل التالي:
المبحث الأول : تقييم دور التدابير الوقائية.
المبحث الثاني : توجهات السياسة الجنائية الجديدة في مكافحة الظاهرة الإجرامية.

المبحث الأول : تقييم دور التدابير الوقائية
يحظى تقييم دور التدابير الوقائية في مجال مكافحة الظاهرة الإجرامية بأهمية كبرى، ذلك أنه من خلال هذا التقييم سنرى هل التدابير الوقائية تمكنت من أن تقضي على الظاهرة الإجرامية أم أنها ساهمت في التخفيف منها أم أنها لم تستطع أن تلعب أي دور في مكافحة الظاهرة الإجرامية. بناء على هذا سنقسم هذا المبحث إلى مطلبين، المطلب الأول سنتناول فيه تقييم دور التدابير الوقائية الشخصية، وفي المطلب الثاني سيتم التطرق فيه إلى تقييم دور التدابير الوقائية العينية. كما سيتخلل هذا التقييم مقارنة التدابير الوقائية بالمغرب بالقوانين الأجنبية.
المطلب الأول : تقييم دور التدابير الوقائية الشخصية
لتقييم دور التدابير الوقائية الشخصية يجب أن يتم ذلك من ناحيتين أي من الناحية النظرية (أولا) ومن الناحية الواقعية (ثانيا).
أولا : من الناحية النظرية
يلاحظ أن التدابير الوقائية الشخصية تلعب دورا مهما في مجال مكافحة الظاهرة الإجرامية وخاصة عندما كشفت العقوبة كطريق ثاني من طرق القضاء على الجريمة في المجتمع، ومن ثم الحد من خطر المجرمين عن قصورها في مجال هذه المكافحة. فمثلا عندما يرتكب شخص مجنون فعل يعد مخالف لنصوص القانون الجنائي ومعاقب عليه طبق هذا القانون فإن هذا الشخص لا يمكن أن يخضع للعقوبة نظرا لانعدام مسؤوليته الجنائية والتي هي أساس العقاب مما يبقي على خطر هذا الشخص قائما. لكن عندما تكون هناك تدابير وقائية من قبل إيداع الشخص في مؤسسة لعلاج الأمراض العقلية وهو التدبير المطبق في هذه الحالة أي حالة الشخص المجنون فإن الأمر يختلف حيث أن هذا التدبير يقي المجتمع من خطر هذا الشخص كما أنه يحمل على علاج هذا الشخص المجنون ومن ثم مساعدته على إعادة إدماجه في المجتمع كشخص عادي لا يخافه الناس، ومن ثم سيتم تخليص المجتمع من أمثال هذا الشخص عند تعميم هذا التدبير الوقائي. وكذلك الشأن بالنسبة للمدمنين على المخدرات عندما يطبق عليهم إما تدبير الوضع القضائي داخل مؤسسة للعلاج أو الوضع القضائي داخل مؤسسة فلاحية فإن ذلك يساعدهم على تخليص أنفسهم من شر الإدمان ومن ثم القضاء على الخطر الذي كانوا يمثلونه بالنسبة للمواطنين. وبالتالي جعلهم مواطنين صالحين يساهمون في تطوير بلادهم بدل المساعدة على تخريبها. وكذلك الشأن لباقي التدابير الوقائية الشخصية الأخرى مثل الإقصاء، والمنع من الإقامة إلى غير ذلك. كما أن التدابير الوقائية تعتبر أخف من العقوبة قسوة ومن حيث التأثير الذي يمكن أن يمارس على المجرم في حالة تطبيق إما العقوبة أو التدابير الوقائية فهذه الأخيرة تعامل المجرم برأفة وليونة مما يساعده على الاندماج في حظيرة المجتمع بسرعة وذلك عبر تحسيسه بأنه شخص صالح ومهم وإيجابي وليس سلبي في المجتمع على عكس العقوبة التي تعامله بقسوة وبأنه شخص غير مرغوب فيه وأنه شخص منحرف عن المجتمع مما يجعله عند خروجه من السجن يرتكب جرائم ابشع من الجرائم التي ارتكبها سابقا وذلك بسبب الانطباع الذي ساهمت العقوبة في ترسيخه في عقله بأنه مواطن غير صالح، كما أن التدابير الوقائية تجسد المبدأ القائل “الوقاية خير من العلاج” في مجال الإجرام.
ثانيا : من الناحية الواقعية
إن تطبيق التدابير الوقائية الشخصية ضئيل جدا إن لم تكن منعدمة من طرف المحاكم المغربية وكأن التدابير الوقائية لا توجد إلى جانب العقوبة في الفصل الأول من القانون الجنائي والذي يجعل من العقوبة والتدابير الوقائية الجزاءات الجنائية التي تطبق على المجرم في حالة ارتكابه إحدى الجرائم، على عكس الدول الغربية التي تعطي اهتماما كبيرا للتدابير الوقائية في مجال مكافحة الظاهرة الإجرامية لأنها أدركت قيمتها بالمقارنة مع العقوبة ومن هذه الدول نذكر الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وغيرهما من البلدان الغربية الأخرى. كما أن هناك أيضا دول عربية من الشرق الأوسط تعطي أهمية كبرى للتدابير الوقائية في مجال مكافحة الظاهرة الإجرامية وذلك إلى جانب العقوبة طبعا ومن هذه الدول مصر، تونس، وغيرها. كما نلاحظ أن عدد التدابير الوقائية المنصوص عليها في القانون الجنائي المغربي قليل بالمقارنة بعدد من الدول الأخرى وخاصة التدابير الوقائية الشخصية، فهناك دول يصل فيها عدد التدابير الوقائية الشخصية إلى أربعين تدبيرا( ). بينما المغرب لم ينص سوى على تسعة من التدابير الشخصية. كما نلاحظ أن هناك انعدام شبه كلي للتدابير الخاصة بالأحداث. فإلى ماذا يرجع هذا الإهمال الذي تعرفه التدابير الوقائية ؟ فهل إلى انعدام الإمكانيات أم أن السادة القضاة المغاربة لم يقتنعوا بعد بأهمية وقيمة دور التدابير الوقائية في مجال التحدي ومكافحة الجريمة أم يرجع ذلك إلى أنواع الجرائم المرتكبة في المغرب والظروف المحيطة بها والتي لا تحتاج إلى مثل هذه التدابير. نعتقد في رأينا أنه لو طبقت التدابير الوقائية بالشكل المطلوب وبالكيفية التي تطبق بها في الدول الغربية لكان هناك تغير ملحوظ في نسبة الجرائم المرتكبة وبالتالي وضع حد لاستفحال الظاهرة الإجرامية خاصة وأن المرصد المغربي للسجون نبه في آخر تقرير سنوي أصدره إلى أن هناك تردي في الأوضاع داخل مختلف المؤسسات السجنية، وغياب احترام فعلي لحقوق السجناء التي يقرها ويضمنها القانون. فقد أشار التقرير إلى أن عدد الساكنة السجنية تضاعف خلال عقد ونصف من الزمن رغم أن الطاقة الإيوائية لا تساير هذا الارتفاع ولا تغطيه إلا بنسبة لا تجاوز 10 %، كما اشار التقرير إلى أن عدد الأطباء في المؤسسات السجنية 145 طبيبا بينهم 66 طبيبا قارا و79 طبيبا متعاقدا أغلبهم يرفض الالتحاق بالمؤسسات السجنية النائية، أو يلتحق بطريقة مؤقتة إلى حين الحصول على وظيفة أخرى توفر له ظروف عمل أحسن مما يدل على قلة الأطر الطبية في هذه المؤسسات( ).
فلو تم تغيير نظرة المجتمع للسجن من كونه وسيلة انتقام إلى اعتباره مؤسسة عمومية تقوم بإعادة تربية السجناء وإعادة تأهيلهم وتم تطبيق التدابير الوقائية لكان هناك نوع من الإحساس من طرف السجناء بأن هناك اهتمام بهم مما يجعلهم يكفون من الإجرام أو التخفيف منه بدل الزيادة فيه، لهذا نطلب من المشرع المغربي ومن قضاتنا أن يعملا على تفعيل دور التدابير وذلك من خلال تطبيقها إلى جانب العقوبة في مجال مكافحة الظاهرة الإجرامية.
المطلب الثاني : تقييم دور التدابير العينية
تشمل التدابير العينية نوعين من التدابير الوقائية وهي المصادرة وهناك الإغلاق، ولتقييم هذين النوعين فإن ذلك سيتم من خلال الجانب النظري (أولا) والجانب الواقعي أو العملي (ثانيا).
أولا : من الناحية النظرية
يلاحظ أن المصادرة والإغلاق باعتبارهما من التدابير العينية واللذين يطبقان بصفة خاصة على الأشخاص الاعتباريين (المعنوية) مثل الشركات … في غالب الأحيان، اللهم بعض الحالات التي يطبقان فيها على الأشخاص الطبيعيين، فإنهما يقومان بالحد من الظاهرة الإجرامية وذلك من خلال مصادرة الأشياء التي يتم عادة استعمالها في مختلف الجرائم مثال جرائم الاتجار في المواد المخدرة والكحولية وأيضا في مجال السرقة مثل الأشياء التي تتم مصادرتها هناك الشاحنات والسفن (القوارب) … وتتم مصادرة هذه الأشياء لفائدة الدولة. وكذلك بالنسبة للإغلاق فعندما يتم إغلاق شركة تقوم بصنع المواد المخدرة أو الكحولية أو عندما يتم إغلاق محل للدعارة وممارسة الفساد فإن ذلك يضع حدا لمثل هذه الجرائم. فمن الناحية النظرية نلاحظ أن التدابير الوقائية العينية مثلها في ذلك مثل التدابير الشخصية تقوم بدور إيجابي في مجال مكافحة الظاهرة الإجرامية وتخليص المجتمع من شر الإجرام.
ثانيا : من الناحية العملية
يمكن القول إن التدابير العينية وذلك خلافا للتدابير الشخصية تعرف بعض التطبيق من طرف المحاكم المغربية وخاصة تدبير المصادرة التي تطبق بكثرة وذلك راجع إلى نوعية الجرائم المرتكبة. وهذا ما لاحظناه عندما قمنا بزيارة لبعض المحاكم وذلك في كل من مدينة مكناس ومدينة الرشيدية وهو ما يلاحظ في باقي المحاكم الأخرى الموجودة على التراب المغربي بأكمله وهذا ما أفادنا به السادة القضاة بتلك المحاكم التي قمنا بزيارتها. ولكن هناك ما يثير الانتباه وهو هل المصادرة تطبق كتدبير وقائي أم تطبق كعقوبة إضافية، نعتقد أن المصادرة تطبق كعقوبة وليس كتدبير، ولكن هذا لا يهم، المهم هو أن المصادرة سواء كانت تدبيرا وقائيا أو كانت عقوبة فهي تأخذ نفس المعنى وترمي إلى نفس الهدف. أما بالنسبة للإغلاق نلاحظ أنه لا يطبق بشكل ملحوظ من طرف المحاكم المغربية فنادرا ما نجد أن شركة قد أغلقت بسبب اقترافها جريمة ما. لكن هناك حانات تم إغلاقها وأيضا منازل تم إغلاقها لممارسة الفساد فيها هذا ما نجده في الممارسة العملية للجهاز القضائي بالمغرب. أما فيما يتعلق بمقارنة التدابير العينية بالمغرب والتدابير العينية في الدول الأخرى نلاحظ أن هناك نفس التدابير في كل الدول التي تأخذ بالعقوبة والتدابير الوقائية معا في مجال محاربة الظاهرة الإجرامية.
وعموما يمكن القول إن التدابير الوقائية سواء الشخصية منها أو العينية لا تحظى بمكانة هامة في المحاكم المغربية وأيضا من طرف الحكومة المغربية ممثلة في وزارة العدل حيث نجد من خلال الندوة الوطنية حول السياسة الجنائية في المغرب والتي تمت بمدينة مكناس بتاريخ 9 و10 و11 دجنبر 2004 أن هناك إغفال تام لدور التدابير الوقائية والتركيز على العقوبة فقط. وفي الأخير نرجو من المشرع المغربي بصفة عامة والسادة القضاة بصفة خاصة أن يعطوا للتدابير الوقائية نسبة موازية إن لم نقل نسبة أكبر من نسبة العقوبة في التطبيق لأن التدابير الوقائية كما سلف الذكر تساعد على إدماج المجرمين بسرعة في المجتمع وأن يعملوا ما بوسعهم على تطبيق الفصل الأول من القانون الجنائي بكل حذافره. كما لا ننسى أنه يجب على المجتمع بصفة عامة من أسرة ومدرسة وشرطة وإعلام ومجتمع مدني في شخص الجمعيات وكذلك الأمر بالنسبة للمؤسسات العقابية وإلى غير ذلك من المؤسسات الأخرى أن تلعب دورا في مجال محاربة الظاهرة الإجرامية بصفة عامة، وبالتالي مساعدة الدولة في هذا المجال. وهذا ما سنعمل على إبرازه في المبحث القادم المتعلق بتوجهات السياسة الجنائية الجديدة في مكافحة الظاهرة الإجرامية وذلك من خلال التطرق إلى مفهوم السياسة الجنائية وإلى دور المؤسسات العقابية ودور المؤسسات الاجتماعية في مجال مكافحة الظاهرة الإجرامية.

_______________________
( ) عبد السلام بنحدو : الوجيز في القانون الجنائي المغربي، ط. 2000، ص. 311.
( ) جريدة الصحيفة، العدد 191، 29 دجنبر 2004، 4 يناير 2005، ص. 21.

قرأوا أيضا...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.