معايير أهداف الوقف

الوقف ودوره في تنمية المجتمع
الفصل الثالث: تنمية الوقف وتمويله
المبحث الثاني: معايير أهداف الوقف

إن الأفراد كمنتجين يحملون على تحقيق أكبر قدر من الربح، لأن هذا يتيح لهم تعظيم منافعهم، كل ذلك أيضا ضمن حدود المعتقدات والأفكار والتأثيرات الاجتماعية الأخرى بما فيها القوانين والنظم والأعراف، التي يعمل المنتج أو المنشأة في حدود إطارها.
أما الأموال الوقفية فتهدف، كما قلنا- إلى تقديم منافع تدخل في وجوه الخير والبر بصورة عامة، من دينية أو اجتماعية أو أهلية أو ذرية، ثم إن أموال الوقف إما أن تستغل مباشرة لتحقيق هدفها فيكون الانتفاع بالمال الموقوف نفسه مع بقاء أصله ولو لأمد معلوم، أو أنها تستغل فيما هي معدة له من استغلال تجاري أو زراعي أو صناعي، أو خدمي، وتستعمل إيراداتها وعائدها وغلاتها في وجه البر الذي حبست عليه.
وعند الحديث عن أهداف أموال الأوقاف لنا أن نتساءل عن مدى انطباق هدف تعظيم المنفعة أو الربح على استعمال الأوقاف في مطلب أول وعلى قياس كفاءة تحقيق أهداف الوقف على أن نتناول في مطلب ثالث مدى إمكانية تحويل وقف مباشر إلى وقف مباشر واستثماري معا

المطلب الأول: هل ينطبق مبدأ تعظيم الربح أو المنفعة على الأوقاف؟

إن الكتابات الفقهية مليئة بالتوجيهات بأن على المتولي أن ينظر دائما إلى مصلحة الوقف فيسعى إلى تحقيقها، و إذا كان عليه أن يختار بين أكثر من بديل استثماري فإن مفاضلته ينبغي أن تكون على أساس أيهما أنفع للوقف، وهم يعنون عادة، بمنفعة الوقف منفعة الغرض الذي وضع له المال الموقوف.
وإذا نظرنا إلى كتابات المعاصرين نجد أن الدكتور أنس الزرقاء كان من أوائل من طرح هذا التساؤل، وقد أجاب عليه بان أموال الأوقاف يجب أن يتم استثمارها على أساس مبدأ تعظيم الربح، بحيث: “تبحث في دائرة مشرعات الحلال عن تلك المشرعات التي تولد لها أكبر عائد مالي” ( ) وهو يحتاج لذلك بفقر معظم وزارات وإدارات الأوقاف، وحاجتها للأموال للإنفاق على أنشطتها الدينية( ). ويضيف أيضا بأن ناظر الوقف، بصفته وكيله، ينبغي له بل يجب عليه أن يراعي مصلحة الموقوف عليهم، ولا يكون ذلك إلا بتعظيم إيراد الوقف.
وإذا أمعنا النظر في كلام الزرقاء نجد أنه ينصرف –دون شك- إلى الأوقاف الاستثمارية، ولنا أن نتساءل: أولا: هل ينسجم مبدأ تعظيم العائد الصافي للأوقاف الاستثمارية، دائما مع إرادة الواقف؟ وثانيا: هل يندرج تحت هدف تعظيم الربح وتعظيم المنفعة أيضا للمنتفعين من الوقف عندما يكون الوقف مباشرا نحو دار الأيتام مثلا؟ بحيث نستنتج أن على متولي أو ناظر الوقف المباشر أن يسعى دائما إلى تعظيم المنافع المتحصلة للموقوف عليهم من الوقف.
وعند مناقشة ما ساقه الزرقاء من حجج لذلك، فإننا لا نشك في أن السبب الثاني الذي استدل به الزرقاء على الالتزام بتعظيم العائد الصافي للأوقاف الاستثمارية، وهـ أن مدير الوقف وكيـل ليس له إلا أن يعظم عائد الموكل، وهم الموقوف عليهم بالنسبة لمال الـوقف، يشكل مبـدأ فقهيا معروفا له سـوابق فقهية كثيرة، فالوصي على اليتيم، والوكيل بالنسبة للموكل والحاكم بالنسبة للمحكومين، والأجير بالنسبة لرب العمل، كل أولئك مطلوب منهم تعظيم منفعة أصحاب المال عند قيامهم على أموال الأطراف الثانية في كل ثنائي مذكور، وليس لهم أن يتبرعوا من أموال من يقومون بإدارة أموالهم إلا بإذنهم، فكلهم أمناء، ومن أداء أمـانتهم النصح لصاحب المـال، والنصح له لا يكـون إلا بتعظيم منفعته، فإنما جعل المال للانتفـاع به( ).
وبالتالي فإننا نتفق، من حيث المبدأ مع الزرقاء في أن هدف الناظر في إدارته للأوقاف الاستثمارية ينبغي أن ينحصر في تعظيم الربح، وليس له أن يتجه عن ذلك إلى وجهات أخرى كتعظيم الاستخدام، أو تحسين البيئة، أو إنتاج السلع الأساسية التي تلي الضروريات في المجتمع، أو غير ذلك.
إن مثل هذه الأهداف قد تصح للدولة التي تمولها من موارد متوفرة لديها، كانت حصلت عليها بأي أسلوب مشروع، ولكنها لا تصلح لمتولي الوقف الذي يمثل منفعة مال الوقف التي تتمثل في تحقيق غرض الوقف لا غيره.
على أنه ينبغي أن نلاحظ أنه إذا أمكن الجمع بين الأهداف الاجتماعية و الاقتصادية والبيئية الأخرى وبين تعظيم الربح، فإن ذلك يحسن بالناظر، كما يحسن بالمستثمر الخاص بنفس المنطق، لأنه عندئذ تعظيم وإحسان معا، وإنما مثل ذلك مثل من يعطي صدقة لذوي قربة فتكون له صلة وصدقة معا.
ولكن لا ينبغي للأهداف الأخرى هذه أن تصرف الناظر عن هدفه الأول و الأساسي، وهو تعظيم الربح أو العائد الذي يرد إلى الموقوف عليهم أو إلى غرض الوقف ومن الواضح أن لا يكون هذا التعظيم إلا من خلال المسموحات شرعا وقانونا، لأن مخالفة الشرع والقانون تعرضه لعقوبة المعصية في الآخرة، أو لعقوبة الحكومة في الدنيا أو للعقوبتين معا، فليس للناظر أن يخالف الشرع أو أن يخالف القانون، بزعم أنه إنما يعمل ذلك من اجل تعظيم ربح أو منفعة الوقف( ) شأنه في ذلك شأن الوكيل وشأن من يستثر ماله بنفسه.
أما إذا نظرنا إلى السبب الأول الذي أورده الدكتور الزرقاء للتعظيم وهو حاجة وزارات الأوقاف فإننا لا يمكن أن نوافقه عليه. ذلك لأن فقر وغنى وزارات الأوقاف ووجود عجز أو وفر في ميزانيتها وقلة أو كثرة ما لديها من أوقاف، أمور لها أسبابها ونتائجها الأخرى، وتختلف من بلد لآخر بحسب ظروف كل بلد، الأمر الذي لا يجعل اعتبار هذه الميزانيات سببا لانطباق هدف تعظيم العائد أو عدمه على أموال الأوقاف، فنبغي –في نظرنا- تعظيم العائد بغض النظر عما هو موجود لدى بعض وزارات الأوقاف من أموال موقوفة، أو إيرادات من استثمار الأوقاف أو من غيرها، وبغض النظر عن عجز ميزانيتها واحتياجاتها المالية.
يضاف إلى ذلك أنه ينذر، أو يستحيل أن نجد أي دليل شرعي يوحي بأنه كان من أغراض الواقفين للأموال التي تديرها وزارات الأوقاف ! يضاف إلى ذلك أن المعروف في الفقه، أنه لسداد العجز في ميزانيات وزارات الأوقاف! يضاف إلى ذلك أن المعروف في الفقه أنه إذا لم يحدد الواقف غرضا أو جهل غرضه الذي حدده أن ينصرف الوقف إلى الفقراء والمساكين لا إلى موظفي وزارة الأوقاف حيث تشكل الرواتب أكبر بند في ميزانيتها في العادة!
ولكننا نرى أن تطبيق هدف تعظيم الربح على استثمار مال الوقف ينبغي أن يطور بما يناسب طبيعة الوقف الخيرية، إذ ينبغي أن ننظر إلى مبدأ تعظيم العائد الصافي للأوقاف نظرة واقعية، في ظل كون المال الوقفي يهدف دائما إلى البر.
فالأوقاف نفسها إنما هي أنواع الصدقات، لم يقصد منها إلا البر، فهي تتضمن دائما معاني الإحسان والتبرع والعطف والرحمة، والشريعة الغراء تنظر إلى التبرعات نظرة التسامح واليسر، ولا ينبغي –من أجل ذلك- النظر إليها نظرة مادية بحثة لا تعرف إلا لغة الأرقام والمعادلات والمنحنيات البيانية كما هو معروف من مقتضى المفهوم الاقتصادي لتعظيم الربح أو المنفعة.
خذ مثلا وقف عمر في خيبر، ونص وثيقته معروف، فهو وقف للمساكين وابن السبيل، الخ، ولكن عمر رضي الله عنه، وضع عليه ناظرا غنيا، كان هو عمر نفسه في حياته، وحفصة أم المؤمنين من بعده، ومن بعد ذلك غيرها من آل عمر، وآدن عمر للناظر أن يأكل بالمعروف، فهل يعقل لناظر ذلك الوقف أن لا يقري ضيفا بالمعروف مثلا بحجة أن عمر لم يذكر قرى الضيف وإنما ذكر أكل الناظر !
وإننا لنرى في الوقف صفة الإحسان موجودة قائمة دائما إلى جانب صفة تعظيم العائد، فالوقف كله إحسان، وكثير من أشكال الإحسان الجانبية في الوقف قد نجدها في نص شروط الواقف، كإذن عمر لناظر الوقف أن يأكل فيه بالمعروف، وقد نجدها متضمنة أحيانا في روح الوقف، وبين سطور تلك الشروط فلا ينبغي أن نغفل عنها، فالآمر إذن هو تعظيم للعائد مقيد بالإحسان والتسامح، مشروطا كان ذلك القيد أم ضمنيا.
أما بالنسبة للأوقاف التي تنتج منافع مباشرة، فإننا نرى أن ما يقال عن تعظيم العائد المالي لأوقاف الاستثمار، يقال: بنفس القيد الذي ذكرناه آنفا عن تعظيم المنافع من الأوقاف المباشرة، فالناظر على المسجد سواء أكان إدارة حكومية أم جهة أخرى، مطالب أن يجعل المسجد متوفرا للصلاة، والاعتكاف وللوعظ والإرشاد، ولكل ما وضع المسجد له من عبادات وشعائر دينية، وذلك كأحسن ما يكون بحيث يعظم المنافع التي يستخلصها المصلون وسائر الموقوف عليهم، على ضوء الأحكام الشرعية والشروط التي وضعها الواقف أن وجدت والناظر على المستشفى الوقفي مطالب أيضا يديره بحيث يحقق أكبر قدر للمنافع من المرضى، والأطباء وسائر العاملين في المستشفى حسبما اشترطه الواقف وتحقيقا لأكبر قدر من غرض الوقف،ومثل ذلك ناظر المدرسة، وناظر الدار المحبوسة لسكن الدرية أو لقاءاتهم واجتماعاتهم.
ولكن كل هذا التعظيم للمنافع يكون من خلال تحقيق البر والإحسان العام الذي يتفق في حقيقته مع شروط الواقف ورغبته في البر والإحسان، مثال ذلك أن ناظر المدرسة الوقفية قد يقبل فتح موقف السيارات فيها للمصلين في مسجد قريب يوم الجمعة مجانا – دونما حرج- بدلا من تكليفهم أجرة لوقوف سيارتهم في ذلك الموقف وقت الصلاة، باعتبار أن المدرسة والواقف فيها إنما قصد منها الواقف الانتفاع المباشر ولم يقصد الاستثمار ( ). و أن دخول المسجد لصلاة الجمعة هو نفسه ينسجم مع أهداف البر والإحسان، قد يفعل الناظر ذلك على الرغم من أن تطبيق مبدأ التعظيم –بحرفيته- كان ينبغي أن يدفع به إلى أن يؤجر هدف المواقف للمصلين بدلا من منحها مجانا، وأخيرا لابد من أن نذكر أن تعظيم منافع للموقوف عليهم ينبغي أن يكون في حدود شروط الواقف، فقد نص الفقهاء أنه لا ينقل مسجد من مكان إلى آخر، إلا إذا امتنع الانتفاع به حيث حبسه الواقف فليس للمتولي هنا مثلا أن يعد المصلين كل يوم فينقل المسجد في كل مرة يجد فيها عددا أكبر في مكان قريب.. !.

المطلب الثاني: قياس كفاءة تحقيق أهداف الوقف:
إذا انتهينا إلى انه مبدأ التعظيم للربح أو المنفعة هو الذي ينبغي أن ينطلق على الأوقاف الاستثمارية والمباشرة على التوالي، ولكن الالتزام به يقوم نفسه من خلال اليسر والبر والإحسان، مما ينسجم مع أغراض الوقف نفسها، فكيف يمكن قياس الكفاءة في تحقيق هذا الهدف؟
من المعروف أن المنشأة الاقتصادية تعظم ربحها عندما تصل إلى مستوى في كمية إنتاجها تتساوى عنده كلفة إنتاج أية وحدة إضافية من منتجاتها مع الإراد الذي تحصل عليه من بيع تلك الوحدة وهو سعر بيع الوحدة من المنتجات( ).
ولا نريد أن ندخل هنا في تفاصيل الأحوال التي يمكن تحقيق هذه المعادلة في ظلها من منافسة كاملة مثالية، أو منافسة القلة من المنتجين، أو منافسة احتكارية، حالة احتكار محض، أم أنها حالة من المنافسة الواقعية التي تنقص عن الشروط المعروفة للمناقشة الكاملة بشيء من نقص في المعلومات، وتفاوت قليل بالسلع المنتجة بوجود عدد من المنتجين لا يرقى إلى الذرية التامة وتوفر معلومات كثيرة عن السلعة لا ترقى إلى الكمال، وقدر من الحرية معقول ولكنه لا يرقى إلى ما تتطلبه المنافسة الكاملة التامة، ورغم أنه لا يتمكن منتج واحد من إدخال تأثير ذي بال على السعر في السوق بتغييره لكمية إنتاجه، كل هذا لا يهمنا هنا، لأن ذلك جميعه خارج عن نطاق البحث الراهن.
ولكننا نريد أن نؤكد أن المقاييس العلمية نفسها، المعروفة في تعظيم الربح، من دون ممارسة قوة احتكارية لأنها محرمة في النظام الإسلامي، هي التي تطبق على تعظيم أرباح الوقف أو منافعه كما تطبق على المنشآت الربحية الفردية نفسها.
أما قيد اليسر والإحسان على مبدأ التعظيم فإنه يصعب وضع مقياس عام له ينطبق في جميع الأحوال والمشروعات، ولعل بالإمكان الإفادة من بعض المؤشرات التي وردت في الشريعة في معرض مسائل أخرى لا علاقة لها بالأوقاف، ولكنها مما يدخل ضمن نطاق البر والإحسان نذكر منها ثلاث مؤشرات هي: معدل الزكاة وهي في الزروع، 10 % وفي غيرها 2.5% وما يترك في حرص زكاة الزروع من سماح لقاء ما يأكل الطير والضيف والأهل وعابر السبيل وهو الربع أو الثلث، والوصية عند الميراث وقد حددت بالثلث، والثلث كثير، نقول ذلك دون أن يكون من المرغوب فيه الاختيار أو الترجيح أو الجزم بقدر معين أو محدد من المسامحة( ). لأن البر نفسه مبني على التسامح، ويختلف ذلك بتفاوت الأحوال والظروف المحيطة ويكون ذلك كله دون تفريط بالمصلحة الأساسية وهي خدمة غرض الوقف بأقصى درجة ممكنة.

المطلب الثالث: هل يجوز تحويل وقف مباشر إلى وقف مباشر واستثماري معا؟
أن مما يستتبعه مبدأ تعظيم تحويل الوقف المباشر إلى مجمع وقفي يشمل أغراض الوقف المباشر نفسها ويخصص جزء منه، كبيرا كان أم صغيرا، للاستثمار لصالح تلك الأغراض نفسها.
إن الإجابة على هذا التساؤل إجابة يتوقع لها أن تكون سلبية، أو على الأقل غير محددة، لأن تحويل وقف مباشر إلى وقف مباشر واستثماري معا أمر لم يكن داخلا في شرط الواقف وحسابه، ولكنه مع ذلك أمر يحتاج إلى نظر وتفصيل.
وينبغي أولا تحديد ما إذا كان هذا التحويل، يتضمن تغييرا مهما في هدف شروط الواقف كما عبر عنها بإرادته حين أنشأ الوقف، وإذا كان يتضمن تغييرا لها، فهل التحويل في صالحه؟، وهل يقلل ذلك من المنافع المخصصة للموقوف عليهم؟ وهل هو أمر مفيد جدا أو ضروري للوقف وقدرته على إنتاج منافعه وتحقيق أغراضه، أم أن المصلحة المتحققة من التحويل هامشية فقط؟
ولعلنا يمكن أن ندرس أولا بضعة صور بسيطة وليست كثيرة الحدوث في العادة، ثم ننتقل إلى الصورة الأكثر تعقيدا أو شيوعا في الأوقاف القائمة فعلا في بعض البلدان والمجتمعات الإسلامية المعاصرة، فمن الصور المحتملة الحدوث أنه يمكن مثلا تأجير مبنى مدرسة وقفية في الأوقاف التي لا تنعقد فيها الدراسة، الأمسيات والعطل وغير ذلك، لإقامة مهرجانات واجتماعات مباحة شرعا، دون أن يؤثر هذا التأجير الاستثماري في الاستعمال المدرسي المبني وملحقاته مع القدرة الكاملة على استعمال العائد الناتج عنه لصالح المدرسة نفسها، وبخاصة إذا كانت بحاجة إلى ذلك، أو أن يكون المسجد أثريا ومثله المكتبة الأثرية والمدرسة الأثرية أيضا، فيدخله السياح لقاء أجر محدد ويستعمل العائد لصالح الوقف نفسه، مع مراعاة عدم وجود أي تأثير سلبي لزيادة السياح، مما يصعب تحمله أو يسبب أي حرج للمنتفعين من المال الموقف حسبما هو معدله، ومع تجنب أي محظور شرعي في هذا النوع من السياحة( ).
ومثله أيضا أن يكون الوقف سكنا جامعيا للطلبة، يقدم لهم بأجور مخفضة أو يقصد منها الربح، فيطالب الناظر الساكنين بعدم المكث في المبنى في العطل الجامعية، ويؤجر المبنى للمؤتمرات والندوات، فيكون في ذلك دخل للوقف ينتفع به في صيانته، وتخفيض أجور السكن للطلبة، وإيراد قد يحتاج إليه للإنفاق على إدارة المبنى وإضاءته وتدفئته وصيانته الخ.
وعلى فرض عدم وجود أية مخالفة شرعية في أي من هذه الاستثمارات الإضافية، فإنه من الصعوبة بمكان الاعتراض من الوجهة الشرعية أو الاقتصادية على هذه الصور من الاستثمار الجانبي للأموال الوقفين المباشرة على الرغم من عدم اعتباره في حسبان الواقف وعدم وروده في شروطه، لأن فرص هذا الاستثمار ما أتيحت إلا بسبب التغيرات الثقافية والتكنولوجية التي حصلت في العصور الأخيرة فقط أي بعد وجود الوقف بزمن طويل.
ولعل من الصور الأكثر تكرارا والتي نشاهد لها أمثلة مألوفة في جميع المدن والقرى الإسلامية أن يتهدم المبنى الوقفي، ويحترق أو يحتاج إلى إعادة بنائه، أو تكون هناك مصلحة استثمارية كبيرة في هدمه وإعادة بنائه( ).
فتبرز هنا إمكانية بنائه، من أدوار عديدة، بحيث يبقى واحد منها أو أكثر حسب الحاجة ومصلحة غرض الوقف، للاستعمال الوقفي الذي يحقق ذلك الغرض، وتخصص باقي الأدوار للاستثمار بحيث ينشأ عنه إيراد يستعمل لصالح الوقف نفسه.
إن مثل هذه الحالة قد حصلت فعلا في كثير من المباني، الوقفية من مساجد ومدارس ومستشفيات وزوايا ومكتبات ومبان سكنية، ومازال ذلك يتكرر في كل حين في جميع المدن والحواضر الإسلامية ( )، بل قد يكون فيه تعظيم لغرض الوقف نفسه، بحيث تزداد المسافة الاستعمالية المخصصة لأغراض الوقف المباشرة كأن تخصص لها عدة أدوار في المبنى الجديد بدلا من دور واحد، كما كان حين أوقفه الحابس.
وفي هذه الحالات يصعب على المعترض أن يجد وجها للاعتراض الشرعي طالما أن ذلك لا يتعارض مع حقيقة قصد الواقف ولا مصلحة الموقوف عليهم، وإن كنا نشترط أن أي استثمار للأدوار ينبغي أن يكون مما ينسجم مع طبيعة الغرض العام للوقف وهو البر والإحسان، فلا يجوز استثمار أي جزء من المبنى الجديد فيما هو معصية أو مفسدة لأنها تتعارض مع روح الطاعة والتقرب إلى الله تعالى مما هو متضمن في كل وقف.
ولا ينبغي أن يقتصر هذا التحفظ أو هذا الشرط، على وقف المسجد بل إنه ينسحب وينطبق على كل وقف إسلامي هو طاعة وقربة، وإن كان ينبغي الإشارة إلى أن أية مخالفة شرعية تتغلظ بالنسبة لوقف المسجد.
وأخيرا فلابد لنا إذن من الخلوص إلى تحديد شروط التعديل في نوع استعمال الوقف عن طريق إضافة استعمالات استثمارية إلى الاستعمال الأصلي، ولعل أهم هذه الشروط التي نستنتجها من المناقشة السابقة هي ما يلي:
1-أن تترك للاستعمال الأصلي للوقف مساحة كافية بحسب بيئة الوقف الاجتماعية و الاقتصادية، بحيث لا تقل، على كل حال ، كما كانت عليه عند تحبيسه.
2-ألا تتعارض استعمالات الأجزاء الأخرى من المبنى مع أهداف الوقف في الطاعة والبر. ومن باب أولى ألا تتضمن أية مخالفة شرعية واضحة.
3-أن تستعمل الإضافات المتاحة في المبنى للأهداف التي تتضمنها شروط الواقف بشكل عام مما يشبه تسهيل ارتياد المسجد بالنسبة لوقف المدرسة في المثال الذي ذكرناه سابقا في هذا المبحث من السماح للمصلين بوضع سياراتهم في موقف المدرسة وقت الصلاة، وذلك إذا كان مثل هذا الاستعمال مجانيا.
4-أن تزود عوائد الإضافات المتاحة – نتيجة استثمارها- على هدف الوقف نفسه، فإن فاضت تعامل معاملة الفائض في إيرادات الوقف عن حاجة أغراضه كما بينها الفقهاء في أقوالهم المعتمدة، بحيث ترد على هدف قريب منه في النوع والمكان، وإلا فعلى الفقراء والمساكين.
5-أنه يمكن تمويل الزيادات في البناء بالطرق المشروعة ودون التضييق على هدف الوقف الأصلي. فإذا تم التمويل بطريق تقتضي رد المال المتمول مع عـوائد له مشروعة أو (بدونها). أن يكون في إيرادات الإضافات الوقفية ما يفي بسداد كل ذلك. وبهذا ألا تنتقص حقوق أغراض الوقف ولا يفتأ عليها.
فإذا ما توفرت هذه الشروط، فإنه يمكن القول بإمكان تحويل الوقف المباشر إلى مجمع وقفي يشمل الوقف المباشر والوقف الاستمثاري معا، حتى ولو كان نص الـواقف يمنع ذلك، لأن مثل هذا النص المـانع ليس له تأويل سوى التعنت والتعسف، وقد ألغى الفقهاء، شروط الواقف إذا تضمنت تعنتا وتعسفا لا طائل منهما.

قرأوا أيضا...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.