تأثير المحافظون الجدد على مؤسستي البيت الأبيض والكونغرس الأمريكيين

دور العامل الديني في السياسة الخارجية الأمريكية
الفصل  الثاني: المحافظون الجدد وصناعة القرار الأمريكي.
المبحث الأول: اختراق المحافظون الجدد للمؤسسات السياسية الأمريكية .
المطلب الأول : الصحوة الدينية الثانية وبزوغ المحافظون الجدد
المطلب الثاني: تأثير المحافظون الجدد على مؤسستي البيت الأبيض والكونغرس الأمريكيين
حري بنا و ونحن نبحث في العلاقة بين الدين و السياسة في الولايات المتحدة الأمريكية ومدى حضور هذا العامل في السياسة الأمريكية أن نتتبع النفوذ الذي تتمتع به المجموعات الدنية داخل الإدارة الأمريكية؛ وعلى الخصوص داخل الحزبين الجمهوري و الديمقراطي، فمندالعام1980 بدا أن التحالق بين اليمين المسيحي و اليمين الجديد هو الحركة الأكبر تأثيرا. على الساحة السياسة الأمريكية إذ وجد اليمين المسيحي طريقة إلى داخل الحزب الجمهوري متحالفا مع اليمين السياسي . و هذه الصلة لم تبدأ سنة 1980؛ فالعلاقة بين القس ببلي غراهام زعيم منظمة”شبان المسيح” و الرئيس دوايت ايزنهاور معروفة كما أن القس غراهام كان يقيم صلوات إفطار في البيت الأبيض أثناء فترة رئاسة نيكسون، ولكن العلاقة وصلت إلى آفاق جديدة مع ترشيح ريغان و خلال رئاسته .و قد تعزز هذا التحالف بعد نهاية الحرب الباردة و انهيار الاتحاد السوفيتي مما أدى إلى تجديد الاهتمام بالقضايا المحلية في السياسية الأمريكية. وتركز اهتمام اليمين المسيحي على الأخلاق التقليدية مستفيدا من الدرس الذي خرج به من تجربة الثمانيات بأن يضع قدما داخل الحزب الجمهوري والأخرى داخل الكنائس الايفانجلية .
و في هذا السياق نجد توحدا في المصالح بين اليمين السياسي و اليمين الديني فكلاهما تجمعهما رؤية واحدة لأمريكا و العالم، فأمريكا هي( وطن استثنائي تاريخي ) لابد من أن يسود ويهيمن؛ ولا باس من ممارسة القوة في سبيل ذلك .ويأتي اليمين الديني ليدعم اليمين السياسي أيديولوجيا وذلك بهدف ضرورة تطهير الثقافة السائدة وشن الحرب المقدسة ضد(الشيطان) القابع في قلب الوطن أو الذي قد يظهر في أي بقعة من بقاع العالم معوقا امتداد (أمريكا)الرسالة التي تعبر عن الإرادة الإلهية devine Will .

وقد استمر تأثير اليمين المسيحي في العشرين سنة الأخيرة وخاصة على الحزبين الرئيسيين في أمريكا: الجمهوري والديمقراطي دون تمييز .فكارتر الديمقراطي وريغان الجمهوري تبنيا مقولات اليمين الديني بل إن المستشارين المقربين لهما كانوا رموزا لليمين الديني وتشير دراسة حديثة عن الدين في السياسة في الولايات المتحدة الأمريكية لمايكل كوربت وجوليا كوربت عن اختيارات التصويت الرئاسي في عامي 1980-1992 أن حركة اليمين الديني قد استطاعت أن تؤسس لها وجودا يجمع بين اليمين المحافظ سياسيا واليمين الديني إيديولوجيا؛ حيث توحدت الرؤى والتوجهات والممارسات التي امتزج فيها السياسي بالديني ، بهدف تغيير المجتمع الأمريكي جذريا ، الأمر الذي دفع أحد الباحثين بأن يصف اليمين الديني “بأكبر الحركات الاجتماعية التي شهدتها أمريكا في الربع الأخير من القرن العشرين “.
ولعب رالف ريد المدير التنفيذي للتحالف المسيحي فيما بين عامي 1989و 1997 دورا مهما في تطور اليمين المسيحي. وهذا الشخص الذي ينتمي إلى جيل جديد من الإنجيليين الذين لم يتربوا في الثقافة الأصولية أو حتى في ظل ثقافة إنجيلية محافظة ، فهو إنجيلي معاصر له اهتمام بالسياسة وساعد في أن يجعل من اليمين المسيحي الجديد تنظيما سياسيا عصريا من الناحيتين التكتيكية والإيديولوجية ويكون فاعلا في الحياة العامة .
وقد نجح ريد في ذلك كون أن اليمين المسيحي تغلغل بشكل كبير داخل الحزب الجمهوري ، ويتأكد ذلك من خلال المسح الذي أجرته اللجنة المركزية للحزب أو بالأحرى اللجنة القومية سنة 1993 على ممولي الحزب وتبين أن 92% أيدوا الصلاة في المدارس.

ورفض% 93 منهم أن تدرس بالمدارس المثلية الجنسية كأسلوب حياة مقبول .ورفض %84 منهم أي تمويل فدرالي للإجهاض ولبيان مدى تأثير اليمين المسيحي على مجموع المؤسسات السياسية الأمريكية وفي مقدمتها الكونغرس بمجلسيه (النواب و الشيوخ ) والبيت الأبيض سنعمل على رصد تعامل الإدارة الأمريكية مع مجموعة من القضايا في مقدماتها القضية الإسرائيلية باعتبارها تشكل لدى هؤلاء الايفانجيليين إحدى الحلقات التي إن تلاشت وفقدت ضاع الهدف المنشود المتمثل في نزول المسيح؛وإقامة مملكة الرب الكبرى .فعلى مستوى مؤسسة الرئيس مثلا فكل شخص أراد أن يصل إلى البيت الأبيض عليه أن يضمن برنامجه نقطة مهمة و أساسية كي يضمن الدعم الانتخابي و يفوز بشرف رئاسة الجمهورية؛ و هي الولاء التام و الدعم المطلق لليهود و للدولة الاسرائلية. و بدالك فان قيام الدولة الاسرائلية عام 1948 و كدا حرب 1967 و الانتصار العسكري لإسرائيل فيها كان من ضمن العوامل التي ساهمت في ظهور الصحوة الدينية و سلوكها نحو مقصدها العام باستعادة المكانة و الهيمنة طريق الدعاية الشعبية العامة؛ عن طريق اصطحاب هم التبشير في كل قطاع و مجال و تقوية العمل التبشيري و الثقافي و الإعلامي؛ ثم طريق الإمساك بمفاتيح القرار السياسي و الاقتصادي عبر لوبي قوي و شبكة منسجمة منظمة تدس أعضاؤها داخل الهيئات الحكومية . بالإضافة إلى أن هذه المرحلة بأحداثها و نتائجها شكلت –كما زعم أولائك الافانجيلين- تحقيقا لنبوءات الكتاب المقدس، فان الرئيس ترومان الذي عاصر قيام الدولة اليهودية والذي تأثر بالأفكار الصهيونية كان له شرف السبق في دعم اليهودية بعد توليه الرئاسة خلفا لروزفلت؛ حيث طلب من رئيس الوزراء البريطاني ادخال100 ألف يهودي إلى فلسطين و في عام 1946 أي بعد عام على تولية الرئاسة قال ترومان إن تأييد وطن قومي لليهود كان دائما صلب السياسة الأمريكية المنسجمة مع ذاتها.

وكان ترومان هذا أول من اعترف بدولة إسرائيل؛ وقد بلغ به الهيام بالصهيونية انه صرح في صباح يوم 14 ماي 1948 انه على استعداد للاعتراف إلى الصحافة حالا بإسرائيل ادا تسلم طلبا بدلك .وفعلا فقد سلم ترومان إعلان الاعتراف إلى الصحافة بعد 11دقيقة من إعلان الاستقلال .
والواقع أن النفوذ الذي بلغه اليهود و المسيحية الصهيونية على عهد ترومان لم يصلوه في عهد رئيس قبله و قد شمل هدا الحزبين الجمهوري والديمقراطي على السواء كما سبق الذكر؛ بل امتد ليشمل حتى الحزب الشيوعي الأمريكي فقد كان رئيسه إلى نهاية الأربعينات يهوديا يدعى جير هارت إيسلر.

وقد وصل الدعم الأمريكي في هذه المرحلة ذروته فعلى سبيل المثال بلغت المنح التي قدمتها أمريكا ل-لإسرائيل –من عام 1950الى عام 1954 “4035 مليون دولار”وقروضا بلغت 369 مليون دولار؛ ومساعدات فنية تقدر ب35 مليون دولار؛ وأجهزة علمية قيمتها 10 ملايين دولار؛ واستثمارات ب95 مليون دولار؛ وقد وصلت حصيلة بيع السندات الإسرائيلية 347مليون دولار؛ هذا باستثناء الإعفاءات الضريبية والرسوم التي تمنحها الحكومة الأمريكية على ما يصل من اليهود ؛وما يتم جمعه عن طريق الجمعيات والمنظمات الأمريكية المؤيدة لإسرائيل . والتي من ضمنها المنظمات التي سبقت الإشارة إليها في الفصل الأول، وقد خلف ترومان رئيس أكثر صهيونية وأكثر تحيزا منه وهو الرئيس إيزنهاور؛ حيث أن علاقة هذا الأخير مع اليهود قديمة قبل أن يصبح رئيسا .وهي تعود إلى الفترة التي كان يرسل فيها الطائرة تلو الأخرى إلى معسكرات الاعتقال اليهودية في ألمانيا عندما كان قائدا لقوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية وهي محملة بالمعلمين والكتب العبرية ولما أصبح رئيسا للولايات المتحدة أمر وزير الخارجية في 1954 بإصدار كتاب عن إسرائيل وسياسة أمريكا نحوها جاء فيه :”إن إسرائيل ولدت بعد الحرب العالمية الثانية وإنها قامت لتعيش مع غيرها من الدول التي اقترنت مصالح الولايات المتحدة بقيامها .” وقد بلغت به صهيونيته وتعلقه باليهود إلى درجة أنه لم يترك للرئيس كينيدي الذي جاء بعده إلا وصية واحدة أوصاه فيها بإسرائيل وقد نشرت جريدة جويش كرونيكل هذه الوصية في عددها الصادر يوم 27/01/1961 جاء فيها :”لقد تبلور في ذهني اعتقاد جازم نتيجة اتصالي الوثيق بكم بان شخصية إسرائيل القومية هي عصارة نقية للقوة والعظمة ، وهذا ما يحفزني على تتبع شؤون إسرائيل.يحدوني في ذلك عطف واندفاع نحو رعاية شؤونها ، مع تقديم تحياتي واحتراماتي.” لقد دشن كيندي تطلعه إلى الرئاسة برسالة بعث بها إلى الصهيوني الأمريكي جولد شتاين بتاريخ 10غشت 1960 جاء فيها بأنه “سيعمل جادا لو انتخب لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية على إنهاء الحرب بين العرب وإسرائيل “وقد أكد في غشت من نفس السنة أثناء خطاب له بأنه على يقين من بقاء إسرائيل، لأنها لم تخرج لحيز الوجود لتختفي،بل إنها ستبقى وليدة الأمل وموطن الرجاء؛ وأكد أيضا أنها ليست مسألة حزبية؛ بل هي التزام قومي والحزب الديمقراطي ملتزم بهذا الالتزام الذي سنه ويلسون .

وفي عهد جونسون حصلت إسرائيل على صفقات كبيرة من الأسلحة والمعدات التي مكنتها من هزيمة الجيوش العربية في حرب 1967.
وقد كان أحد العوامل الرئيسية للدعم الكبير الذي قدمه الرئيس ليندن جونسون لإسرائيل هو الإعتقاد المسيحي المتطرف بمكانة اليهود في خطة الله وتدبيره للكون والبشرية وقد عبر جونسون عن هذه المعتقدات مرارا . ففي عام 1968 صرح جونسون أمام جمعية –بنات بارت- قائلا: إن بعضكم إن لم يكن كلكم لديكم روابط عميقة بأرض إسرائيل مثلي تماما. لان إيماني المسيحي ينبع منكم و قصص التوراة منقوشة في ذاكرتي تماما، مثل قصص الكفاح البطولي ليهود العصر الحديث من اجل الخلاص من القهر و الاضطهاد .و قد مرت مرحلتي كل من ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد بنفس الوتيرة إن لم نقل أكتر تأثرا و تحيزا من سابقيهم ،إلا أن المراحل التي تلت هذه المرحلة- و نتيجة للبعث الديني الذي شهدته الساحة الأمريكية- كانت أكثر تطرفا إلى درجة أن العام الذي عرف صعود كارتر إلى الحكم عرف بعام الإيفانجيلي كون أن كارتر أول رئيس أمريكي يعلن ولادته ثانية. ووفاء للأجندة المسيحية الصهيونية فان كارتر لم يزغ عن الطريق الذي رسمه سابقوه بحيث أول ما صرح به بعد وصوله إلى الحكم هو الالتزام بأمن إسرائيل،فقد أكد بقوله:”إن لنا علاقة خاصة مع إسرائيل؛ وانه من المهم للغاية انه لا يوجد احد في بلادنا أو في العالم أصبح يشك في إلتزامنا الأول في الشرق الأوسط إنما هو في حماية إسرائيل في الوجود إلى الأبد..والوجود بسلام؛ إنها بالفعل علاقة خاصة.و في عام 1979 فسر كارتر الخصوصية في العلاقة حيت قال :-إن علاقة أمريكا بإسرائيل أكتر من علاقة خاصة؛ لقد كانت و ما تزال علاقة فريدة لا يمكن تقويضها، لأنها متأصلة في وجدان الشعب الأمريكي نفسه و في أخلاقه و دياناته و معتقداته.وفي مارس من نفس السنة تم توقيع أخطر معاهدة في الصراع العربي الإسرائيلي في العصر الحديث ألا وهي معاهدة كامب ديفيد، وقد اعتبر لحظتها كارتر الرجل صاحب العصا السحرية الذي دفع بالسادات إلى توقيع هده المعاهدة. وهذا إن دل على شيء إنما يدل على صهيونية واضحة، وكتابه keepingfaith خير دليل على ذلك حيت يقول فيه:-إن الأخلاق اليهودية المسيحية و دراسة الكتاب المقدس هي موضوع مشترك يربط بين اليهود و المسيح. و كانت قناعتي بذلك هي جزء من كياني طوال حياتي؛ و كنت علاوة على ذلك على قناعة بان اليهود الذين نجوا من عمليات الإبادة خلال -الحرب العالمية الثانية- يستحقون أن يكون لهم وطن ، و أن من حقهم أن يعيشوا في سلام مع جيرانهم، و كنت على قناعة بان إيجاد وطن لليهود هو من تعليمات الرب و نتيجة لتلك القناعات
الدينية و الأخلاقية فقد أصبح التزامي بأمن إسرائيل تابتا لا يهتز.
أما ريغان فقد صرح بأنه كان يشعر عند الانتخابات الأمريكية بأن المسيح يأخذه بيده ، وانه سوف ينجح ليقود معركة –الهر مجدون- التي يعتقد أنها ستقع خلال الجيل الذي يمثله و بالضبط في منطقة الشرق الأوسط .
و هذا ليس بغريب على رئيس تسيطر على عقله فكرة –معركة هرمجدون- و نهاية الزمان ؛ففي الاجتياح الإسرائيلي للبنان سأله أحد المراسلين عن رأيه فيما يحدث في الشرق الأوسط فأجاب بكل بساطة –ربما كانت هذه معركة مجيدو أي الهرمجدون.

وفي محاولة لكسب دعم شعبي و كذلك مساندة منظمات المسيحية الصهيونية قام ريغان أثناء مؤتمر ترشيحه للرئاسة عام 1980باعلان تأييده للأجندة الأخلاقية لليمين المسيحي في خطاب وجهه الى اجتماع كهنوتي؛ و بالفعل فقد قامت منظمة الأغلبية الأخلاقية بنشاطات مكثفة لصالح ريغان خلال حملته الانتخابية؛ و تمكنت الأغلبية الأخلاقية التي كانت تمثل القلب المحرك لليمين المسيحي من حشد ثلاثة ملايين ناخب في الانتخابات الرئاسية و التشريعية .و بذلك أصبح اليمين المسيحي قوة مؤثرة في فوز ريغان . و ردا للجميل أو بالأحرى للخدمة التي قدمتها منظمة الأغلبية الأخلاقية فقد عين ريغان عددا من شخصيات اليمين المسيحي في مناصب سياسية مهمة .وقد أعاد التأكيد كذلك على تأييده لقضايا أجندة اليمين المسيحي في خطابه أمام –الاتحاد الوطني للإذاعيين الدينيين عام 1983 .
و من خلال هذا فإن ريغان حين تولى الرئاسة بعد كارتر كان اكتر اندفاعا منه في تأييد إسرائيل و خطاباته و تصريحاته تطفح بالروح الصهيونية، يقول لأحد أعضاء اللوبي اليهودي الأمريكي “إني أعود إلى نبوءاتكم القديمة في التوراة حيت تخبرني الإشارات بان المعركة الفاصلة بين الخير و الشر مقبلة….و أجد نفسي أتساءل :إذا ما كنا الجيل الذي سيشهد وقوع ذلك، إنني لا أعرف إذا ما كنت قد لاحظت هذه النبؤات مؤخرا صدقني إنها تصف الأوقات التي نجتازها الآن.

و بعد 8 أعوام من حكم ريغان الذي كان قد وعد بتنفيذ مطالب الأغلبية الأخلاقية ظل نشطاء اليمين المسيحي يحركهم أمل حضر خلال حكم جورج بوش الأب، فحوالي 80% من الأصوات الايفانجيليين ساندت بوش في الانتخابات الرئاسية عام 1988. و بعد الانتخابات دعي حوالي 100 من قيادات اليمين المسيحي إلى البيت الأبيض لتبادل الآراء مع نائب الرئيس دان كويل و كبار مساعدي الرئيس . وكان زعماء حركة مناهضة الإجهاض واثقين من عزم الرئيس على اختيار قضاة للمحكمة العليا يسقطون حكم إباحة الاجهاض؛ و لكن ثقتهم تراجعت عندما عين بوش لويس سوليفان الذي لم يكن معارضا للإجهاض وزيرا للصحة. وفي سنة 1989 حكمت المحكمة بوقف قانون كان يحظر استخدام الأموال و التسهيلات العامة و الموظفين العاملين في إجراء الإجهاض ،ولكن اليمين المسيحي في أواخر الثمانينات لم يقبل بموقف بوش فواصل نفوذه داخل الحزب الجمهوري على المستوى المحلي –الولايات- بعد أن كان قد دفع بأحد قاداته وهو المبشر التلفزيوني بات روبرتسون للترشيح للرئاسة كحركة للمزايدة على ممارسة النفوذ على المستوى القومي .لكن العلاقة القديمة والوثيقة للرئيس بوش مع القس بيلي غرا هام رئيس مؤتمر المعمدانيين الجنوبي وأكثر رعاة الكنائس تأثيرا على الرأي العام الأمريكي والعالمي؛ بالإضافة إلى دعم القس الأصولي المسيحي المتطرف الآخر جيري فولويل لجورج بوش ؛ كانا من العوامل الرئيسية التي مكنت بوش من الحصول على ترشيح الحزب له. ويذكر أن الرئيس بوش قال في يناير عام1992في برنامج تلفازي بمناسبة الذكرى الثانية للحرب على العراق “إنه دعا أحد أصدقائه من رجال الدين وطلب منه النصح فبارك القس تلك الحرب” . ومما لاشك فيه أن بوش قد خاض غمار هذه الحرب دفاعا عن إسرائيل ونيابة عنها، فإسرائيل بالنسبة لأمريكا غاية ووسيلة كما تقدم .وقد أدلى الجنرال شوارسكوف بتصريح حول حرب الخليج بتاريخ 23 ماي 1991قال فيه للإسرائيليين :أريد أن أقول لكم جميعا أن الولايات المتحدة الأمريكية دولة صديقة لكم؛ بإمكانكم أن تثقوا بها وتعتمدوا عليها ؛وإنها لن تتخلى عنكم ..إن الحرب التي خاضها رجالنا والكلام دائما لشوارسكوف في منطقة الخليج كانت من أجلكم ومن أجل إسرائيل ، وقد عمل الرجال على تحطيم عدوكم -العدو الرئيسي لكم في المنطقة – .

وبعد الترويع والتركيع جاء دور التطبيع .هذه الخطة التي سارت عليها أمريكا وحليفتها إسرائيل ، فقد روعت أمريكا الشرق الأوسط و من وراءه العالم العربي الإسلامي في حرب الخليج وركعت العراق وحجمته ووزعت الغنيمة بينها وبين حلفائها ، من بترول ونفوذ في المنطقة، وكان مما وزع أيضا ولاءات العرب فقد خرجوا من الحرب موزعين ، لكن حرب الخليج لم تحقق الهدف الأساسي الذي هو التطبيع مع الكيان الصهيوني ، وكانت هذه هي المهمة التي أوكلت إلى من جاء بعد بوش ألا وهو بيل كلينتون . هذا الأخير الذي أثرت خلفياته الدينية على موقفه من إسرائيل ، فهو يحكي تأثره الكبير بموت أحد كبار رجال الدين النصارى حيث كان هذا القس قد تحدث إلى كلينتون قبل موته قائلا :”إنه –أي القس-يأمل في أن يصبح كلينتون رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية ، ولكن يجب عليه المحافظة على إسرائيل “وقد أوضح التحالف البروتستانتي اليهودي جليا خلال محادثات كامب ديفيد الثانية حيث نقلت الصحف قول كلينتون لعرفات “إن المسيحيين في كل العالم يقدسون جبل الهيكل “وهو يقصد به مكان المسجد الأقصى وكان ذلك ردا على عرفات الذي قال أنه لا يستطيع التنازل عن الأقصى لأنه مقدس عند المسلمين .وفي 5/10/2000 نقلت شبكة CNN أخبار المظاهرات الشعبية في يوغوسلافيا التي كانت تطالب باستقالة الرئيس سلوبودان ميلوزوفتش وقالت الشبكة الإخبارية “إن الولايات المتحدة الأمريكية تقف إلى جانب الشعوب التي تكافح من أجل الحرية “وفي اليوم الثاني علق الرئيس بيل كلينتون على الأحداث في يوغوسلافيا بتصريح قال فيه “إن الشعب اليوغوسلافي البطل يريد أن يستعيد حريته ، يريد أن يستعيد وطنه “.

وفي تلك الفترة بالذات –لحظة تصريح بيل كلينتون – كانت الشبكة الإخبارية CNN تنقل أخبار أعمال المقاومة التي يقوم بها الفلسطينيون فيقتلون الإسرائيليين المدنيين؛ وكانت تلك الشبكة تعرض الأفلام الإخبارية الدموية المثيرة لكي توضح هذه الأعمال الإرهابية –في منظورهم- ،في حين كان الجيش الإسرائيلي في هذه اللحظة ينفذ عمليات وحشية ضد الشعب الفلسطيني ويهدم المنازل ويقتلع أشجار الزيتون في الأرضي المحتلة الفلسطينية لكن هذه الأحداث لم تجد طريقها إلى شاشات التلفاز الأمريكي ولا حتى القليل منها ، ولم يذكر الرئيس كلينتون في دفاعه الحماسي عن الشعب اليوغوسلافي – الذي يريد استعادة حريته واستعادة وطنه – شيئا عن كفاح الشعب الفلسطيني الذي لايزال منذ أكثر من نصف قرن يكافح من أجل استعادة وطنه .بل على العكس من ذلك كان الرئيس كلينتون ووزيرة خارجيته في تلك الفترة يطالبان الشعب الفلسطيني بوقف أعمال المقاومة إيقافا تاما كشرط أساسي للمفاوضات مع الحكومة الإسرائيلية .

وبالرغم من أن كلينتون ينتمي إلى الحزب الديمقراطي ، وكان فوزه نصرا لليسار السياسي ، لكن انتماءه اليساري لايعني أنه اقل تمسكا بالمعتقدات الدينية ودراية باستغلال الشعور الديني لدى عامة الشعب الأمريكي ، فقد كان كلينتون أثناء حملته الانتخابية حريصا على أن يراه الأمريكيون وهو يدخل إلى الكنيسة، ومع أن اليمين المسيحي كان دائما منحازا للحزب الجمهوري ، فكلينتون صرح مرارا أنه ينتمي إلى الأصولية المسيحية وهكذا فحتى بعد انتهاء ولايته ؛وعندما لم يكن لديه أهداف سياسية فقد خطب في حفلة لجمع التبرعات لصالح إسرائيل في كندا بتاريخ 24-07-2002 وقال في خطابه أنه مستعد لحمل السلاح والوقوف في الصفوف الأمامية للدفاع عن إسرائيل .
إضافة إلى هذا فالتأثير الذي مارسه اليمين المسيحي، وكذلك الثقافة الدينية اليمينية لخلفه جورج بوش الابن تجسدت في الإدارة الأمريكية الحالية التي أصبحت ناديا للمحافظين الجدد بدون منازع؛ فأشخاص من مثل بول وولفويتز الذي شغل منصب وزير الدفاع وريتشارد بيرل الذي اعتاد أن يستغل صداقاته واتصالاته داخل الإدارة الأمريكية لخدمة إسرائيل فهو وثيق الصلة بنائب الرئيس ديك تشيني وبوزير الدفاع رونالد رامسفيلد ونائبه بول وولفويتز؛ وهذا الأخير هو الرئيس المشارك مع بيرل للوصاية الصهيونية التي توجه السياسة الخارجية الأمريكية، وتعاد العرب والمسلمين .بالإضافة إلى هذا هناك أيضا بول بريمر الذي عينه بوش لإدارة العراق بعد الحرب وجون بولتون، وستيفن براين وكل هؤلاء تتلمذوا كما سبق الذكر على يد ليوشتراوس؛ الأب الروحي لتيار المحافظين الجدد .

ويؤمن هؤلاء بافتراضين أساسين فيما يتعلق بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية في مرحلة مابعد الحرب الباردة :الإفتراض الأول أن الولايات المتحدة هي القوة العظمى الوحيدة المتبقية، وأن ذلك يفرض عليها عددا من الإلتزامات والمسؤوليات التي لا يمكن تجنبها كعضو في النظام الدولي، ومن تم أهمية قيام الولايات المتحدة بتعزيز قدراتها العسكرية وامتلاك قوة عسكرية حديثة ومتطورة ،وهو مايتطلب زيادة ميزانية الدفاع وميزانية الإنفاق العسكري، والإفتراض الثاني هو أن الولايات المتحدة يجب أن تنتقي إلتزاماتها الخارجية بمعنى أخر فالولايات المتحدة يجب أن تتجنب الإلتزام الزائد في الخارج ،ويعني هذا أن قادة الولايات المتحدة يجب أن يمارسوا قدرا من التمييز والإنتقاء بالنسبة للقرارات التي ترتبط بها الولايات المتحدة الأمريكية بالنسبة للقضايا الدولية ، وأن يقوموا بذلك فقط عندما يكون الحفاظ على المستقبل الوطني والأمن في حالة خطر واضح .
وقد كان لهذا التيار تأثير كبير في الحرب الأخيرة التي تقودها الولايات المتحدة على العراق وبالخصوص بول وولفويتز حيث دعا منذ 1991 إلى الإطاحة بنظام صدام حسين بالتعاون مع المعارضة العراقية، وازداد إصراره بعد أحداث الحادي عشر من شتنبر وكان رأيه أن صدام حسين يجب أن يسقط قبل تسليم أسلحة الدمار الشامل إلى الجماعات الإرهابية مثل القاعدة، وذلك إضافة إلى اعتقاده بأن نقص الحرية في الشرق الأوسط من أسباب الإرهاب ،ولذلك فالديمقراطية ستقلل من خطر هذا الإرهاب .

ومما لاشك فيه أن الضغط الذي مارسه المحافظون الجدد على رؤساء أمريكا في العقود الأخيرة لزمه تأييد كبير داخل الكونغرس بمجلسيه بحكم أن المحافظون الجدد يستأثرون في غالب الأحيان بأغلبية المقاعد ،وبديهي أن تتجسد هذه الأغلبية في تمرير ترسانة من القوانين المؤيدة لإسرائيل، وفي هذا الإطار تعهد زعيم الأغلبية الجمهورية الجديد في مجلس النواب الأمريكي جون بوتر أمام مؤتمر إيباك في 8 مارس 2006 بقوله :”باعتباري الزعيم الجديد للأغلبية في الكونغرس فإنني أستطيع أن أؤكد لكم أنه لن يحدث في ضل قيادتي أن يتم بأي طريقة ممكنة مناقشة أي تشريع مناهض لإسرائيل في مجلس النواب .ويبقى أصدق تعبير لضغط المحافظون الجدد على الكونغرس في مشروع القانون الذي تقدم به كل من فرانك وولف وأرلين سيكتور باسم التحرر من الاضطهاد الديني في شتنبر 1997 حيث أكد أنه تشريع يهدف إلى سد الطريق على تنامي الاضطهاد الديني، من خلال تكوين مكتب جديد لمراقبة الاضطهاد الديني عن طريق الوزارة الخارجية بفرض عقوبات على الحكومات التي تشارك بنشاط أو فشلت في أحد الخطوات لتقليص الاضطهاد الديني . وبعد مناقشة مكثفة تمت الموافقة على القانون في ماي 1998 بأغلبية مجلس النواب ليخرج بذلك إلى الوجود تحت اسم قانون “الحرية الدينية الدولية “للتعبير عن السياسة الخارجية التي تنهجها الولايات المتحدة الأمريكية تجاه الأفراد الذين يتعرضون للإضطهاد الديني في العالم ، وتفويض للولايات المتحدة اتخاذ الإجراءات اللازمة .بما في ذلك ضرورة توفير فرص للبعثات الدبلوماسية الأمريكية في الخارج لتنظيم نشاطات دينية عن طريق أداتين مهمتين هما سفير مكلف بالشؤون الدينية لرصد الإضطهاد الديني في العالم ،ولجنة الحرية الدينية لإمداد الإدارة الأمريكية بتوصيات حول حالات الحرية الدينية في العالم .

قرأوا أيضا...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.