كارثة جدة تضغط على سوق التأمين

التأمين ما بعد كارثة جدة : ما زالت آثار كارثة جدة تضغط على الكثيرين، بكل أحزانها ومآسيها وأضرارها المادية والنفسية، فلم تقف سيولها الجارفة على هدم المنازل وإغراق السيارات وإتلاف الممتلكات فقد أزالت “القشرة الهشة” للبنية التحتية التي كان بعض المسؤولين يفاخر بها ولا يمل من الحديث عنها كمنجز وطني يبرهن على صلاحه وأهلية جهازه.. كما كشفت مساحة العيوب الأخلاقية وكثافة الفساد في الأجهزة الحكومية الخدمية وعرت موت الضمائر لدى بعض من حملوا أمانة أداء الواجب وخدمة الناس.
هذه الكارثة التي حركت “البركة الراكدة” فتفجرت روائح الفساد حتى اندهش الناس واحتاروا: كيف يمكن لهذا الحجم من الفساد أن ينمو ويترعرع في جهاز تنفيذي وتشريعي طوال السنين دون أن تتمكن أجهزة الرقابة الرسمية والشعبية من كشفه وفضحه؟. ويتساءل الناس: هل يمكن أن يكون ما نشاهده من ملاحقة أوكار الفساد واتساع دائرة التحقيقات، بحثاً عن الحقائق وتتبع جذور المشكلة والإمساك بخيوط شبكة هدر المال العام،.. هل يمكن أن يكون هذا بداية للحديث عن “ما بعد الكارثة”؟ هل يمكن أن تكشف الأحداث والتحقيقات الجارية حجم الأخطاء والأخطار التي تحيط بالإنسان وتهدد سلامة مشاريع التنمية وتمس جذور الأمن الوطني حين لا تذهب الأموال العامة إلى مصالح الناس، وحين تتخلى الأجهزة الحكومية عن أداء واجب الدولة نحو مواطنيها والمقيمين على أرضها؟.
من السابق لأوانه القول إن ملاحقة “مواطن الفساد” والتحقيق مع المشتبه فيهم وفتح الملفات القديمة ونبش محتوياتها تمثل مرحلة جديدة مختلفة الملامح عما سبقها لكن المؤكد أن الناس متفائلة وتتطلع إلى حدوث “شيء” يعيد الثقة للأجهزة الحكومية وينصف المخلصين الذين يعملون لأداء الواجب، وأيديهم نظيفة وضمائرهم حية، يراقبون أنفسهم ويخافون الله في مهامهم قبل أن يراعوا أجهزة الرقابة ويخشون سطوتها.

ومن ملامح “ما بعد الكارثة” حديث الناس، في كل موقع، عن “التأمين”: ما هو وما هي فوائده وضروراته في الحياة المعاصرة؟ وما هي مسؤوليته وكيف يمكن أن يسهم في التقليل من الآثار السلبية للكوارث على ممتلكات الأفراد والمؤسسات ومواقع الإنتاج. ولم يقتصر الاهتمام بأهمية التأمين على المتضررين وكيفية تعويض ممتلكاتهم بل شارك فيه الكثيرون وطرحت تساؤلات واستفسارات وآراء تدور حول جوانب متعددة عن ثقافة التأمين ودور المجتمع في نشرها باعتبارها نشاطا ملازما للحياة المعاصرة المعقدة والمتعددة الالتزامات المالية.. وانتشرت فتاوى الإنترنت تناقش قضايا التأمين وشرعيته ومتى يحل أخذه ومتى يكون شبهة ومتى يحرم.. وشارك في هذا الحوار أهل المعرفة ومن ليس لهم علم بهذا لكن مشاركتهم تدل على اتساع الاهتمام. ونتيجة للأضرار التي لحقت بالمواطنين والمقيمين إثر سيول “الأربعاء الأسود” والتغطية الإعلامية التي جعلت آثار الكارثة حاضرة مؤثرة في وعي وفكر كل أهل الوطن بل تجاوزته إلى خارجه.. فإن قضايا التأمين من المتوقع أن تسجل مرحلة جديدة بعد كارثة السيول، وربما يكون من ملامح المرحلة المقبلة الإقبال على تأمين المنازل والأثاث والممتلكات المنقولة وغير المنقولة، واتساع دائرة التأمين خارج ما كان سائدا من التأمين التجاري والطبي إلى أشياء أخرى جديدة كالتأمين على الحياة. وقد تشهد المرحلة تدخل الجهات التنظيمية التي تمنح الرخص التجارية لفرض التأمين على كل موجودات الأسواق المركزية “المولات” والدكاكين والورش الصغيرة. والعمل على حماية كل الأعمال حتى تجنب النشاط الاقتصادي ما قد يلحقه نتيجة الكوارث؟….. قد ينظر البعض لهذا الاتجاه على أنه “تضييق” على الناس، لكن إذا نظرنا إلى نتائج كارثة جدة وأحوال المتضررين فإن مسألة التأمين تصبح أمراً مهما. فهذه الكارثة ومثيلاتها – ولا أحد يضمن عدم تكرارها أو حدوث غيرها – لو لم تخفف من آثارها المادية مبادرة الملك عبد الله في تقديم العون والتعويضات للمتضررين كانت ستترك جراحها الاقتصادية الغائرة على آلاف الأسر وتنقلهم من حال الاستغناء عن المساعدة إلى وضع لا تستقيم أحوالهم إلا بالمساعدة.
وإذا تحقق هذا التوقع فإن المرحلة تحتاج إلى تنظيم فاعل يضبط العلاقة بين المؤمن وشركات التأمين. وإذا اقتنع الجميع – الجمهور وشركات التأمين والجهات التنظيمية – بأن المرحلة المقبلة تحتاج إلى اتساع دائرة التأمين فإن مسؤولية الجهات التنظيمية تصبح مهمة جداً وهذا يعيدنا إلى قضية التأمين في المملكة التي لم تكن في أحسن أحوالها حتى قبل الكارثة.. وكان الناس أكثر ما يشتكون من عدم وضوح العلاقة بينهم وبين شركات التأمين مع غياب “الحكم” الجهة المسؤولة عن التنظيم. وقد كتب الكثيرون حول هذا الأمر وطالبوا الجهات المنظمة بالتدخل لوضع حد لحرية الشركات في “تفسير” نصوص وثائق التأمين.. وقد كتبت بهذا الخصوص في هذه الصحيفة يوم 20 مارس 2009م أطالب بحملة توعية وطنية تشرح أبعاده وتفاصيله وتناقش إيجابياته وسلبياته، التي تراعي طبيعة المجتمع والبيئة التي يطبق عليها.. وهذه المناقشة ليست بالضرورة أن تكون بهدف الإساءة إلى شركات التأمين العاملة أو تحميلها من الواجبات ما يخالف الأنظمة أو فرض القيود عليها بما يثقل كاهلها ويضعف قدرتها على القيام بدورها في تحقيق الربح الذي هو هدف أي منشأة تجارية.. الهدف هو تعريف المستفيدين بحقوقهم لدى شركات التأمين ومعرفة المرجعية عند الاحتكام وإنصاف أصحاب الحق حتى لا يكون قطاع التأمين مفرغا من أهدافه وثمراته التي من أجلها تشجعه الدولة وتمنحه فرصة النمو الطبيعي ليسهم في تطور ونمو الاقتصاد الوطني.
الوطن

قرأوا أيضا...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.