الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بالمغرب
الفصل الثاني: ظهور العمل والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بالمغرب
المبحث الثاني: مقاربة الجمعيات الحقوقية للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان
المطلب الأول: الجمعية المغربية لحقوق الإنسان
انطلاقا من أشغال ونتائج المناظرة الوطنية حول الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بالمغرب باعتبارها محطة أساسية في هذا الملف فإن الجمعية المغربية لحقوق الإنسان تدين مقاربة الدولة لعملية تصفية ملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان إذ تطعن في الحق المخول لمسؤولي الدولة في إقرار الخطوات التي يجب اتباعها لتصفية هذا الملف بحسب الظرفية التي تلائمهم وتعتبر أن الاعتراف بالجرائم الماضية يمر عبر الكشف عن الحقيقة، وحبر الضرر والعدالة وإقرار الضمانات بعدم تكرارها في المستقبل، و هذا يتطلب بالنسبة ل الجمعية المغربية لحقوق الإنسان :
إطلاق سراح المختطفين الذين لازالوا على قيد الحياة والتأكد من عدم بقاء أي محتجز في أماكن الاعتقال السرية.
الاعتراف الرسمي العلني الصريح والكامل من طرف أعلى مستويات السلطة بمسؤولية الدولة في التجاوزات التي مورست، وتوجيه اعتذار رسمي لضحايا القمع.
الإعلان عن الظروف والملابسات التي اقترفت فيها هذه الجرائم، والإعلان عن هوية مرتكبيها والمحرضين عليها ومنفذيها.
تغيير النصوص القانونية والهياكل التي سمحت بارتكاب مثل هذه الجرائم.
بناءا على هذه الرؤية يمكن الاضطلاع على موقف الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بشكل أكثر دقة من خلال أربع محاور أساسية أن صح التعبير.
فالجمعية ترى أن الدولة هي المسؤولة على ضمان احترام القانون واحترام حقوق جميع الأطراف أثناء سير عملية البحث والتقصي الإدارية والقضائية ومن ثم تحول دون استمرار أو تكرار هذه الجرائم، ولهذا ترى الجمعية، أن على الدولة تشجيع الحماية التامة لكل شخص قادر على تقديم شهادة مفيدة للتحقيق في الملفات العالقة، وعليها أيضا تأمين توصل العدالة على كل الأدلة المثبتة وحماية الوثائق المهمة في هذا الصدد من الاختلاس والإتلاف من جهة أخرى تتحمل الدولة مسؤولية اتخاذ الإجراءات الضرورية لمنع المتهمين بارتكاب الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان من أن يعيشوا فسادا، ومن بين هذه الإجراءات توقيفهم عن ممارسة الوظائف العامة العليا وخاصة عندما تكون هذه الوظيفة تخولهم وضعية أو امتيازات مفرطة في مجال القانون في كل امتداداته وصرامته على المتهمين بحسب خلاصات التحقيق ومداولات القضاء، وذلك لضمان محاكمة عادلة، وبالتالي لا يجب اتخاذ أي إجراء للعفو قبل المحاكمة أو في غياب إدماج ساحق، وذلك للتأكيد بالملموس على إعلان القطيعة مع اللاعقاب.
بالمقابل اعترضت العديد من الجمعيات على مطالبة الجمعية، الدولة الاعتراف بسؤوليتها اتجاه مرتكبي الجرائم، معتبرين ذلك من الحماقة في ظل نفس النظام بالبلاد، وبالتالي من الأفضل القبول باللاعقاب بدلا من أن يكون الاستقرار مهددا، وتقول هذه الآراء كذلك بأن أغلب المكونات الأساسية “للجهاز الأمني” للدولة بمفهومه الواسع متورطة بشكل كبير في هذه الجرائم فإن تم تهديد مجموع هذه الأجهزة، فإن ذلك يعني دفعها إلى القيام بأفعال من شأنها الرجوع بالبلاد إلى الوراء بشكل خطير، إلا أن الجمعية المغربية ل حقوق الإنسان ستذهب في اتجاه توضيح أكثر لموقفها وهو ما سنلاحظه من خلال تسليط الضوء على المحور الثاني الأساسي في مقاربتها لملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، فهي تؤكد على عدم منع الدستور إمكانية إضفاء الشرعية على مسألة الإفلات من العقاب، وتؤكد أن الحركة الحقوقية تطالب بدولة الحق والقانون التي ترتكز على سمو القاعدة القانونية، والقاعدة القانونية الأساسية هو ما ينص عليه الدستور المغربي في ديباجته…
إن مشروعية الدولة تقوم على أساس العقد الذي يربطها بالشعب، فبغض النظر عن التحفظات التي يتم التعبير عنها من طرف البعض على الدستور الحالي للمغرب سواء فيما يخص طريقة بلورته وتبنيه، أو فيما يخص مضمونه، فهو يشكل “الحد الأدنى من الالتزام الذي لا يمكن المساس به” وبدون احترام مقتضياته تفقد الدولة مصداقيتها، فالدولة إذن لا تمكن المشروعية إلا في الحدود التي تحترم فيها الجوانب الأساسية من الدستور ومن أهمها احترام القانون والالتزامات المصادقة عليها، ولا يمكن للدولة أن تمتلك حق تقرير الظروف المناسبة للقيام بعملية البحث والتقصي في الجرائم الخطيرة المقترفة لحسابها وتحت مسؤوليتها خلال النصف الثاني من القرن الماضي، كما أن الدولة لا تعني بالتزاماتها عندما تستثني من مجال تطبيق القانون وبشكل منهجي ودائم الجرائم والمجرمين الذين عاشوا فسادا تحت لواء “السلطة”.
وتؤكد الجمعية أن الدولة ملتزمة باحترام حقوق المواطنين، فلا أحد كيفما كانت مرتبته في هرم الدولة مفوض للسماح بانتهاك حقوق أي كان، ومن يسمح بذلك فهو يستحق العقوبات المناسبة المنصوص عليها في القوانين، علما أن هذه العقوبات يمكن أن تأخذ بعين الاعتبار ظروف التخفيف، أو أن تكون فيما بعد موضوع نقاش حول حق العفو، ولا يمكن استبعادها قبل أن يتم ذلك إلا على حساب مشروعية الدولة، وتوضح الجمعية أن الدستور يعطي “للملك” والقوى السياسية الممثلة في البرلمان كل الوسائل ليتحمل كل منهم مسؤولية في ضمان الحقوق الأساسية للمواطنين “يجوز أن تشكل بمبادرة من “الملك” أو بطلب من أغلبية أعضاء أي من المجلسين لجان نيابية لتقصي الحقائق يناط بها جمع المعلومات المتعلقة بوقائع معينة وإطلاع المجلس الذي شكلها على النتائج التي تنتهي إليها أعمالها” ( 1).
في نفس الاتجاه تؤكد الجمعية المغربية ل حقوق الإنسان على تعارض الإفلات من العقاب مع القانون المغربي (الدستور) مستدلة بالفصل 61 والفصل 82… تستدل الجمعية كذلك للتأكيد على تعارض الإفلات من العقاب مع الدستور بالبرنامج الحكومي الملتزم بمواجهة الإفلات من العقاب. فالتصريح الحكومي الذي قدمه الوزير الأول أمام البرلمان يوم الجمعية 17 أبريل 1998 المؤسس على الإدارة في التغيير المقترنة بمجيء حكومة التناوب، والنزام مجموعة أعضاء الحكومة بترجمة هذه الإدارة إلى “عقد لحسن التدبير.
وتماشيا مع هذا العقد، ستنسق الوزارات أداءها حول ثلاث أولويات:
1-متعلقة بالجانب الأخلاقي وتؤدي إلى مناهضة كل أشكال الانحرافات والتجاوزات والإفلات من العقاب.
2-مرتبطة بالتدبير الصارم والشفاف والأمين بالمال العمومي.
3-في مجال العلاقات المبنية على الإنصات للمواطنين والمقاولة وخدمتهم.
فيما يخص برنامج إصلاح القضاء تؤكد الجمعية على أنه لا يمكن لجهاز أن يدعي النبل اعتقادا على براعة تصريحاته وروعة المقاصد التي يعلن عنها. فلا مصداقية لجهاز العدالة إلا إذا بني على الملموس عبر الانخراط في توجه يؤدي إلى التغيير الحقيقي لواقع العدالة بالمغرب. مستشهدا في ذلك بتشدق البرلمان سنة 1990 بتصويته بالإجماع على تعديل قانون الحراسة النظرية بوضع سقف 12 يوما دون إثارة التناقض الصارخ بين هذا الحدث والسكوت المريب على واقع تازمامارت وأكدز وقلعة مكونة والعيون كأماكن يقبع فيها أعداء من المختطفين.
تنتقد الجمعية قانون المسطرة الجنائية باعتباره يترك مجالا للتهرب من فتح التحقيق في ملفات الجرائم الخطيرة، ذلك أنه حينما تضع النيابة العامة شكاية بعدم التبليغ عندما تكون الجرائم معاقب عليها إما بالمؤبد أو الإعدام، فإن قاضي التحقيق مطالب قانونيا بإجراء البحث اعتمادا على الشكاية المرفوعة إليه إما من طرف الضحية أو من ذوي حقوقه. إلا أن هذا لم يمنع المدافعين عن اللاعقاب من تقديم الحجج المفندة لما تطرحه الجمعية بخصوص الموضوع، لكن هذه الأخيرة فندت هذه الحجج، فيما يخص التقادم، تقول الجمعية على لسان الأستاذ عبد الرحيم برادة. إن عددا من الجرائم لم تستوف بعد شروط التقادم، وعدم فتح تحقيق فيها يرجع لدناءة المسؤولين في الدولة الذين منعوا الدولة عن القيام بواجبها. فمن غير المقبول التحجج بالتقادم، في الوقت الذي تمكن فيه المجرمون من إبطال أي فعل من طرف الضحايا، والعدالة على السواء، أما فيما يخص الأدلة فما أسهل إقامتها ومن البديهي أن المتابعة لا تتم إلا حين وجود الأدلة القاطعة. وهو ما نجده بالنسبة لعدد كبير من الحالات. والحاجة إلى فتح تحقيق تفرض نفسها في الحالات التي ليست فيها الأدلة واضحة كل الوضوح من أول وهلة.
وبطبيعة الحال فالتحقيق يجب أن يدعم بالتزام سياسي من طرف الدولة لضمان الوصول والاطلاع على عناصر الحجج التي هي حيازة مصالحها المختلفة وترى الجمعية فيما يخص استقلال القضاء أن الأمر يتطلب المراقبة والتفعيل باعتباره غير كفء بفعل التلاعب في الملفات. إلا أن هذا لا يمنع اللجوء للجهاز القضائي ومطالبته بحماية القانون والحريات في ظل مراقبة غير سليمة وفضح التجاوزات.
بناءا على هذا التوضيح تؤكد الجمعية رفضها القائل بأن مصلحة المجتمع تمكن من طي صفحة الماضي، فلا يحق لأحد بأن يتبرع بالعفو عن مجرمين اقترفوا جرائم لم يتم التحقيق فيها. ولا يحق لأحد أن يلتمس الرحمة لهؤلاء إلا إذا كان مفوضا من طرف مجموع الضحايا. و هذا مستحيل بحكم عدد منهم قضوا نحبهم دون أن يعبروا عن رأيهم في الموضوع. بالإضافة إلى أن الضحايا ليسوا وحدهم من تحمل هذه الانتهاكات بل كل الأشخاص الذين تم ترهيبهم بما مورس عليهم من ألوان القمع والحرمان من حقوقهم السياسية و الاقتصادية … من طرف دولة إرهابية استبدت بالبلاد عن طريق القمع والرعب. بالإضافة إلى أن مصلحة الأجيال الحالية والقادمة لا يمكن أن تشيد باستمرار دولة من هذا النوع. باعتبار أن ذلك اعتراف لها بعدم مسؤولياتها على الأضرار التي تسبب فيها أفعالها وأفعال مأموريها الذين تضعهم في حماية المساءلة.
فيما يخص موقف الجمعية المغربية ل حقوق الإنسان من إنشاء هيأة الإنصاف والمصالحة. فهي ترى أنها لا تستجيب للمطالب المشتركة للحركة الحقوقية. وتؤكد تشبثها بنتائج المناظرة الوطنية حول الانتهاكات الجسيمة ل حقوق الإنسان. فقد سجل المكتب المركزي للجمعية المغربية لحقوق الإنسان مفارقة طرح المنظمة المغربية ل حقوق الإنسان مبادرة متعلقة بملف الانتهاكات الجسيمة ل حقوق الإنسان في حين تتميز الظرفية الحقوقية بانتهاكات خطيرة للحريات الاقتصادية السياسية والمدنية، بارتباط مع الموجة الجديدة من القمع السياسي والاختطاف والتعذيب والظروف اللاإنسانية للاعتقال. وحرمان العديد من التنظيمات من حقها المشروع في النشاط القانوني وقمع عددي من الاحتجاجات الاجتماعية السليمة، أو قمع واعتقال العديد من الصحافيين والمدافعين عن حقوق الإنسان. وفي إصدار وتفعيل قانون مكافحة الإرهاب بينما يحافظ العديد من المتطرفين في ممارسة الانتهاكات الجسيمة على مناصب المسؤولية. ومن ثم ذهب المكتب المركزي في اتجاه أن مبادرة تشكيل هيأة الإنصاف والمصالحة لن تكون لها مصداقية ما لم يتم اتخاذ إجراءات فورية لوضع حد للموجة الجديدة من القمع التعسفي بدءا من إنهاء الانتهاكات ضد المدافعين عن حقوق الإنسان، وإطلاق سراح كل معتقلي الرأي والمعتقلين السياسيين وفقا للمطالب الثابتة للحركة الحقوقية.
من جهة أخرى يعتبر المكتب أن هيأة الإنصاف والمصالحة المزمع إحداثها بموجب التوصية تختلف في الأساس ولا ترقى في الجوهر باللجنة الوطنية المستقلة للحقيقة التي طالبت بها المناظرة الوطنية حول الانتهاكات الجسيمة ل حقوق الإنسان في نونبر 2000 وتجسد هذه الاختلافات في اختزال الانتهاكات الجسيمة من طرف التوصية في الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي، بينما حددت المناظرة الوطنية للانتهاكات الجسيمة في الانتهاكات الاقتصادية و الاجتماعية والثقافية والمحاكمات غير العادلة. والقتل والتعذيب المفضي إلى الموت، أو المتسبب في أضرار أو عاهات جسدية ونفسية، والإعدام خارج نطاق القانون. والنفي والإبعاد القسري والحصار ونزع الممتلكات. كما أن التوصية تعاملت بنوع من الغموض إن لم يكن بشكل سلبي مع مطلب الحقيقة. إذ تم تغييب هذا المصطلح من تسمية الهيأة والاكتفاء على مستوى مضمون التوصية بالبحث عن حقائق جزئية من جهة ومن جهة أخرى أكد المكتب أن تشكيل الهيأة على قاعدة المادة السابعة من الظهير حول إعادة تنظيم المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، سيضيف أساسها القانوني واستقلاليتها وهو ما قد يحولها إلى مجرد لجنة وظيفية للمجلس الاستشاري كما يستنكر المكتب المركزي بقوة الموقف العدائي للتوصية من مطلب المساءلة وأعمال العدالة المتمثل في ربطها بالانتقام وإثارة الفتنة. وذلك في تعارض مطلق مع دول الحق والقانون، ومع القوانين المغربية نفسها.
اعتبارا لكل هذا أكدت الجمعية المغربية لحقوق الإنسان تشبثها بالنتائج الكاملة للمناظرة الوطنية حول الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ونادت بتعزيز وحدة العمل بين الجمعية والمنظمة والمنتدى وكافة القوى الحقوقية والديمقراطية لأعمال توصية المناظرة الوطنية في مقدمتها تشكيل اللجنة الوطنية المستقلة للحقيقة. كما أكدت تشبثها بمفهوم المساءلة وعدم الإفلات من العقاب كحق من حقوق الضحايا والمجتمع. مؤكدة على الربط الصحيح والحقوقي بين مفاهيم المساءلة والحقيقة، والإنصاف والمصالحة، معتبرة أن الغاية تظل هي المصالحة على أسس عادلة بعد المسالة والحقيقة واعتراف المسؤولين عن الانتهاكات بجرائمهم وطلب الصفح بعد إقرار الدولة بمسؤوليتها واعتذارها الرسمي والعلني. وبعد الشروع في وضع الآليات الدستورية والقانونية والمؤسساتية والتربوية والفكرية لعدم تكرارا الانتهاكات الجسيمة والتي ليست سوى آليات بناء دولة الحق والقانون ومجتمع السيادة لحقوق الإنسان.
________________________
(1) -الفصل 42 من الدستور.