تجربة الشيلي في الكشف عن الحقيقة

الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بالمغرب
الفصل الأول: إشكالية حقوق الإنسان
المبحث الثاني: تجارب دولية سابقة في الكشف عن الحقيقة

المطلب الثـاني: الشيلــي
أدى الانقلاب العسكري الدموي الذي تزعمه “بينوتشي” في الشيلي يوم 11-9-73 و الذي سحقت بموجبه حكومة “:الاشتراكيين” بقيادة “اليندي” التي حازت على السلطة ديمقراطيا، إلى مرحلة حكم عسكري مطلق استمر إلى 11-3-90، قام خلالها الجنرال “بينوتشي” بقمع كل معارضيه وذلك بممارسة جميع أنواع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان: اعتقالات تعسفية جماعية، التعذيب، القتل والاختطاف، كان القمع بشعا خلال السنة الأولى على الخصوص التي شهدت قتل واختطاف ما يفوق 1200 شخص كما تم اعتقال الآلاف وإطلاق سراحهم بعد تعذيبهم، واكثر ما يشير إلى درجة القمع الممارس آنذاك هو القولة التي كانت كثيرا ما تتداول والتي تقول: “في الشيلي لا يستطيع أحد فتح فمه خوفا من المخبرين مما جعل صانعي الإنسان على حافة الإفلاس”.
سنتين بعد الانقلاب (1975) ونظرا لحدة الانتهاكات الجسيمة واتساع نطاقها سيتحرك المنتظم الدولي وستصرح الجمعية العامة للأمم المتحدة “بوجود ممارسات منظمة من التعذيب وسوء المعاملة والاحتجاز التعسفي” على خلفية هذا الاعتراف تكون فريق خاص ضم خبراء دوليين وأعضاء من اللجنة الأمريكية لحقوق الإنسان التابعة لمنظمة الدول الأمريكية، وسيكلف هذا الفريق الذي عرف “بالفريق الخاص المعني بالشيلي بمتابعة الوضع وإعداد تقرير مفصل عنه وسينتهي بعد سنة من عمله إلى تقديم توصية بضرورة قيام المجتمع الدولي بمحاكمة المسؤولين عن التعذيب، في ظل أجواء التحرك المبكر للمنتظم الدولي أصدر “بينوتشي” سنة 1978 المرسوم عدد 2191 المتعلق بالعفو الذاتي على كل الموظفين والمسؤولين الذين ساهموا في استتباب الأمن وقيام الحكم العسكري الأمر الذي حال دون محاكمة جرائم حقوق الإنسان التي ارتكبت منذ حدوث الانقلاب العسكري، كما منح لنفسه ولبعض الجنرالات الذين قادوا الانقلاب الحصانة البرلمانية الدائمة (1).
مع بداية الثمانينات استعادت قوى المعارضة السياسية وفعاليات المجتمع المدني حضورها السياسي والنقابي، وواصلت معاركها من اجل عودة الحكم المدني  وتتوج هذه الحركة بإنهاء فترة الحكم العسكري (1988) وبعودة “ربيع الديمقراطية” إلى الحكم حيث فاز “ألوين باتريسيو” بالانتخابات الرئاسية بنسبة 55% سنة 1990 بوصفه مرشح القوى المعادية للديكتاتورية، لكن بقيت بعض القيود على الديمقراطية حيث “بينوتشي” قد قام بتعديل في الدستور (سنة 1980) جعل من نفسه بموجبه القائد الأعلى للقوات المسلحة مدى الحياة وضمن من خلاله استمرار استقلال الجيش وتأثيره السياسي الأمر الذي لمس بشكل جدي من خلال احتفاظ الحرس القديم والمصالح الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة به بحضور وازن في الخريطة السياسية الوطنية للشيلي في ضل هذه الأجواء والظروف سيطرح ملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بكل تحدياته المعيارية و السياسية على المسؤولين الجدد، وبمقتضى مرسوم رئاسي صدر في 25-04-1990 (2 ) ستشكل لجنة: “الحقيقة والمصالحة” بمناسبة تقرير رفعته الحكومة المدنية الجديدة إلى “لجنة مناهضة التعذيب بالأمم المتحدة، نص المرسوم المنظم للجنة على ضرورة التحقيق في الانتهاكات الجسيمة الواقعة ما بين 11-9-73 و11-03-1990 وبخاصة حالة الاختفاء ولاعتداء خارج نطاق القانون والتعذيب والوفيات المرتبطة بها والناتجة عن ممارسات ارتكبت بمبررات سياسية. اشتغلت اللجنة لمدة 9 أشهر وأصدرت تقريرها الذي بات مشهورا كأول تقرير عن حالة الاختفاء القصري، تصدره لجنة تحقيق وطنية.
ورغم اعتباره شهادة رئيسية على حجم الانتهاكات ووثيقة تاريخية فإن النتائج الأولية التي توصل إليها ظلت موضوع تحفظ وبخاصة من جهة الضحايا وعائلاتهم، خاصة و أن السعي الدائم وراء محاكمة الجناة ظل يطبع التجربة الشيلية، التي اعتبرته يقدم تربية جزئية ولا يرقى إلى مستوى رغبتهم في معرفة ملتبسات الانتهاكات.
بخصوص مبدأ تعويض الضحايا وأسرهم اقترحت لجنة “الحقيقة والمصالحة” ثلاثة أنواع للتعويضات ضمن التوصيات الصادرة عنها:
-تعويضات رمزية تستهدف رد الاعتبار
-تعويضات ذات طبيعة تدابير قانونية وإدارية لحل القضايا المرتبطة بالوفاة (إرث، نيابة قانونية عن القاصرين أبناء الضحايا…)
-تعويضات المساعدة والتأهيل الاجتماعي والرعايتين الصحية والتعليمية.
تواصلت المطالبة بالكشف عن الحقيقة واستكمال إجراءات التحقيق في الانتهاكات وتطوير معايير التعويض، فصدر قانون ثاني أنشئت بموجبه هيئة وطنية ثانية سميت ب “المؤسسة الوطنية للجبر والمصالحة” من مهامها حسب قانونها المنشئ:
-تنسيق وتفعيل التوصيات الصادرة عن اللجنة الوطنية “للحقيقة والمصالحة”.
-تحديد أماكن اختفاء الأشخاص المختطفين والذين لم يتم العثور على جثثهم.
-التحقيق في حالات الأشخاص الذين لم تستطع الجنة الوطنية للحقيقة والمصالحة القطع في أوضاعهم ومن ثم معالجتها.
وبخصوص الحالات التي حددتها اللجنة واعترفت بها المؤسسة الوطنية، نص القانون 19/123 المنظم للمؤسسة الوطنية “للجبر والمصالحة” في شأن التعويض: “على إحداث” معاش تعويضي” على شكل منحة شهرية تقدم لأقرباء الضحايا ممن ينطبق عليهم وصف الزوجة والأم  (أو الأب إذا لم تكن الأم موجودة) والأطفال دون الخامسة والعشرين من عمرهم أو الأطفال المعاقين أيا كان عمرهم.
وعلى ضوء الأعمال التي قامت بها الهيئة الوطنية للجبر والمصالحة انتهت إلى التصريح بوجود 123 حالة اختفاء و776 حالة إعدام خارج القانون.
وبإضافة النتيجة التي توصلت إليها لجنة الحقيقة والمصالحة وحالات أخرى، لم تعترف الشيلي رسميا إلا ب 3179 حالة اختفاء قسري، علما أن الهيئة الثانية اعتمدت في عملها على فرق متخصصة من الناحية الطبية والنفسانية، كما اعتمدت فرقا في البحث الميداني والاستماع للضحايا في الوقت الذي كان العالم فيه شاهدا على قمع الآلاف، وبالرغم من كل هذا فإن الهيئة لم تجعل ضمن مهمتها البحث في التعذيب الذي لم يؤدي إلى الموت، بالرغم من أنها تصفه في تقريرها النهائي وصفا دقيقا، إلا أنه لم يتم اعتبار الأشخاص المعنيين الذين ظلوا على قيد الحياة ضحايا، ولم يتم البحث في حالاتهم وتبعا لذلك بقي نوع من الغموض حول عدد الأشخاص الذين عاشوا بعد تعرضهم للتعذيب (التقديرات تحدثت عن حوالي 50 ألف إلى 200 ألف) كما أن هؤلاء لم يستفيدوا من التعويض الذي ترتب عن توصيات الهيئة.
في ضوء التعارضات الجدية بين الاعتبارات السياسية بما هي اعتبارات تاريخية من جهة والاعتبارات القانونية والحقوقية والإنسانية ظلت الأنظار متجهة إلى وضع الشيلي فبعد مرور عشر سنوات على عودة الحكم المدني في  رجوع “الاشتراكيين” إلى السلطة التنفيذية، وبعد انتهاء الجولات المسطرية ما بين بريطانيا وقرار قاضي التحقيق الشيلي بإيداع بينوتشي رهن الإقامة الجبرية تحضيرا لمحاكمته، سيؤكد الرئيس “الاشتراكي” ريكاردو لاغوس: “بأن قضية بينوتشي ستأخذ مسارها العادي ولكن لن يكون لها تأثير على حياة البلاد والقضاء سيقوم بعمله والحكومة ستمارس اختصاصها فيما يقوم البرلمانيون بالتشريع”.
لقد أبقى الوضع في الشيلي مطلب عدم الإفلات من العقاب قائما، فعسكر الشيلي، بادروا قبل عودة الحكم المدني إلى إصدار قوانين العفو الذاتي، على عكس جنوب إفريقيا، حيث كان العفو آخر القضايا المطروحة.
إن الدرس بليغ للحالة الشيلية ولخيار “مسح الطاولة” وقلب الصفحة دون قراءتها يقيم هذا الوضع القس “ديسموند توتو” ( 3) عفا الجنرال “بينوتشي” وشركاؤه عن أنفسهم، قبل أن يسلموا زمام الأمر لحكومة مدنية، و”بينوتشي” لم يكن ضد إنشاء لجنة تحقيق شريطة أن تعقد جلسات مغلقة، ولا تحقق في حالته، ولا في حالات أعضاء آخرين، ولا في قضية قوات الأمن… هذا نقاش حول الإفلات من العقوبة، كان مناسبة للإشارة إلى أن الجنرال “بينوتشي” وضباطه وأعضاء حكومته عفوا عن أنفسهم، هم وحدهم كانوا على علم بحقيقة ما اقترفوه أصبحوا متهمين ومتهمين قضاة.
____________________
(1)  -اعتبرت اللجنة الأمريكية لحقوق الإنسان “أن هذا العفو الذاتي يتعارض مع قانون حقوق الإنسان الدولي و أن تداعاياته القانونية تمثل جزءا من السياسة العامة القائمة على انتهاك حقوق الإنسان
(2)  -أسابيع بعد انتخاب الرئيس.
(3)  -ديسموند توتو” رئيس لجنة الحقيقة والمصالحة الجنوب إفريقية.

قرأوا أيضا...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.