تقاطع التعدد اللغوي مع الحوارية

التعدد اللغوي وأثره الجمالي في وليمة لأعشاب البحر ” لحيدر حيدر”

الفصل الأول

I-  تقاطع التعدد اللغوي مع مفاهيم اخرى :

1-تقاطعه مع الحوارية
تقوم الحوارية عند باختين على أنظر الوجود باعتباره حوارا مستمرا حواريين ما هو كائن وما كان ” ففي جميع مجالات الحياة ومجال الإبداع الإيديولوجي يشتمل كلاما بوفرة على كلمات الآخرين منقولة بدرجة من الدقة والحيز جد متباينة ”  لذلك فالاتجاه الحواري للخطاب هو ظاهرة خاصة بكل خطاب لا بد أن تجد أثناء تكونه موضوعا آخر أجنبيا عنه لا يستطيع إلا أن يتعامل معه ” فوحده آدم الأسطوري ، وهو يقارب بكلامه الأول، عالما بكرا لم يوضح بعد موضع تساؤل وحده آدم ذاك المتوحد كان يستطيع أن يتجنب تماما هذا التوجه الحواري نحو الموضوع مع كلام الآخرين ”  وبناء على هذا فباختين أن الخطاب يولد داخل الحوار مع كلمة الآخر مثلما تولد إجابته أيضا في نفس السياق أي أنها هي الأخرى محكومة بالحوار مع كلام الآخر فكل حادثة حسب باحثين تحمل نقلا لكلام الآخرين وتأويل إذ نجد في كل لحظة ” استشهادا ” مرجعا يحيلنا على ما قاله شخص ما او على ” ما يقال ” او على ما يقوله كل واحد او يحيلنا على كلام مخاطبين أو على كلامنا السابق او على صحيفة أو قرار أو وثيقة او كتاب  وتنقل معظم الأخبار والأراء في شكل غير مباشر لا بوصفها صادرة عن الذات بل من خلال استنادها إلى مصدر عام غير محدد : سمعت من يقول “هناك من يعتبر “، ” من يظن ” …

ويتم نقل  كلام الآخرين باستعمال صيغتين أساسيتين هما : الحفظ ” عن ظهر قلب” أو بواسطة كلماتنا ” غير أن هذه الوسيلة الأخيرة ” لا ينبغي أن تذيب تماما أصالة كلمات الأخرين”  باعتبار أن كلام الآخر هو حامل لإيديولوجيا، ولي مجرد نبأ يسعى إلى أن يحدد الأسس نفسها لسلوكنا ولموقفنا من العالم ويتقدم إلينا هنا كأنه كلام آمر . وكأنه كلام نقنع داخليا ”  ومن تم يصبح الكلام حاملا لنوع من السلطة ، تقتضي أن يظل معزولا ومن الأفضل وضعه بين مزدوجتين لان له بنيته الدلالية الثابتة او الأمادية، وغسل لذلك بالنص الديني أو السياسي … فهذا النوع من النصوص لا يمكن أن نعيد صياغته  حسب باختين – بكلماتنا خاصة كما أنه لا يسمح بأي تصرف في السياق الذي يتضمنه بمعنى هذه النصوص تعاكس الحرية الإبداعية والأسلوبية يقول باختين بهذا الخصوص :” إن الكلام الآمر يلج إلى وعينا اللفظي مثل كتلة متماسكة غير قابلة للقسمة ويتحتم أن نقبله كلية أو نرفضه بتمامه لقد التحم التحاما وثيقا بالسلطة معها يستمر ومعها يسقط  “.

الرواية كنوع من الخطاب هي شكل رحب منفتح قائم على الحوارية المتجسدة في تجميع الأساليب والأنساق اللغوية ” فالرواية ككل ظاهرة متعددة الأسلوب واللسان والصوت ويعتبر المحلل فيها على بعض الوحداث الأسلوبية اللامتجانسة التي توجد أحيانا على مستويات لسانية مختلفة وخاضعة لقواعد لسانية متعددة ”  ويعرض باختين  للنماذج الأساسية لتلك الوحدات التأليفية والأسلوبية المكونة عادة لمختلف أجزاء الكل الروائي وهي  :
1- السرد المباشر الأدبي في مغايراته المتعددة الأشكال
2- أسلبة مختلف أشكال السرد الشفوي التقليدي او المحكي المباشر
3- أسلبة أشكال السرد المكتوب المختلفة نصف الأدبية والمتداولة والرسائل المذكرات الخاصة …
4- أشكال أدبية متنوعة من خطاب الكاتب إلا أنها لا تدخل في إطار ” الفن الأدبي” مثل كتابات أخلاقية وفلسفية استطرادات عالمة خطب بلاغية …
5- خطابات الشخوص الروائية المفردة أسلوبا

وتحضر هذه الأشكال في الرواية لتشكل انسجامها وحواريتها دون يكون لأحدها مركز السلطة أو الهيمنة بل إن حضور أي شكل أو أي ملفوظ في الرواية يكون حضورا مساويا لباقي الملفوظات الموجودة في نفس العمل الروائي ، فكل شخصية فيه تعبر عن وعيها ورؤيتها للعالم باستعمال لغتها الخاصة وتبقى رؤية الكاتب واحدة من بين باقي الرؤيات ويسمى هذا النوع من الأعمال الروائية ” الرواية الديالوجية” أو الحوارية التي تكتسب أهميتها وجماليتها من ” كونها تعرض للحقيقة التاريخية الواحدة من منظورات وأساليب متعددة في لحظة واحدة مما يجعلها ضمنيا ترفع شعار نسبية امتلاك الناس للحقيقية  ، إذن فالرواية الديالوجية وتقدم جميع التأويلات والحلول الخاصة بقضية ما ، وهذا ما يمكن كل فارعة من إيجاد ما يناسب رؤيته ومنظورة الخاص . ويرى باختين أن ” الاتجاه الحواري للخطاب وسط الخطابات الأجنية ” يعطيه إمكانات أدبية جديدة، وجوهرية ، إنه يعطيه فنية نيرة التي تلقي تعبيرها الأكثر تماما وعمقا في الرواية ويورد باختين   ثلاث طرائق لتشييد صورة اللغة في الرواية وهي ” 1-التهجين 2-تعالق اللغات القائم على الحوار 3- الحوارات الخالصة

1- التهجين : HYBRIDATION وهو مزج لغتين اجتماعيتين داخل ملفوظ واحد وهو أيضا التقاء وعيين لغويين مفصولين في ساحة ذلك الملفوظ ويلزم أن يكون التهجين ويشير حميد لحميداني إلى أن باختين ” يميز بين التهجين الإرادي والتهجين اللاإرادي ، فالروائي يقصد إلى التهجين إراديا بينما يقع التهجين عادة بل يدخل في سياق تبادل التأثير المألوف بين اللهجات واللغات التي تتعايش في حقل اجتماعي واحد ”   ففي ” هجنه قصدية وواعية يمتزج وعيان لسانيات مفردات وإرادتان لسانيتان فرديتان هما: الوعي والإرادة الفرديان للكاتب الذي يشخص والوعي والإرادي المفردات الوعي والإرادي الفرديان للكاتب الذي يشخص والوعي والإرادة المفردات لشخصية روائية مشخصة ،  ولا يتعلق الأمر هنا بمزج لغتين وأسلوبين فقط بل بدمة تصيب وجهات النظر حول العالم تتحاور فيما بينها دون أن ينصهر بعضها في بعض حيث إن اللغة التي تضيء تتخذ طابعا موضوعيا

2- تعالق اللغات القائم على الحوار : وهو دخول لغة الرواية في علاقئق مع لغات أخرى، من خلال إضاءة متبادلة بدون أن يؤول الأمر  إلى توحيد للغتين داخل ملفوظ واحد ومن أبرز صيغ هذا التعالق نجد : الأسلبة التنويع الباروديا .

أ- الأسلبة STYLISATION: وهي أبرز وأهم أنواع التعالق وهي قيام وعي لساني معاصر باسلبة مادة لغوية ” أجنبيةؤ” عنه ، يتحدث من خلالها عن موضوعه فاللغة المعاصرة تلقي ضوءا خالصا على اللغة موضوع الأسلبة فتستخلص منها بعض العناصر وتترك البعض الآخر في الظل …”   ، ويفترض في الأسلبة والتهجين أن يكون هناك نوع من اللاتكافؤ ، فهناك عادة لغة مشخصة ولغة أخرى مشخصة ” ،  غير أنه من الممكن ان يحصل توافق بين نوايا اللغة المؤسلبة ونوايا اللغة المؤسلبة فتعبر هذه عن موقفها من خلال صورة تلك ويرى لحميداني انه ” ليس من الضروري أن تكون الأسلبة خالصة في عمل روائي بكامله فقد تتنوع أشكال الحوارية كأن ينتقل المبدع من الأسلبة إلى التهجين او العكس ”  .

ب- التنويع : هو نوع من الأسلبة يتميز بأن المؤسلب يدخل على المادة الأولية للغة موضوع الأسلبة يتميز بان المؤسلب يدخل على المادة الأولية للغة موضوع الأسلبة ، مادة أجنبية معاصرة ( كلمة صيغة جملة شكل …) متبغيا من وراء ذلك اختيار اللغة المؤسلبة بإدراجها  ضمن مواقف جديدة مستحيلة بالنسبة لها وبالتالي بحصل داخلها خلل او مفارقة .

ج- الباروديا PARADIE:  هي نوع أساسي أيضا من الأسلبة يقوم على عدم توافق نوايا اللغة المشخصة مع مقاصد اللغة المشخصة ، فتقاوم اللغة الأولى الثانية وتلجأ إلى فضحها وتحطيمها لكن يشترط في الأسلبة البارودية لا يكون تحطيم لغة الآخرين بسيطا وسطحيا بل عليها، ” أن تعيد خلق لغة بارودية وكأنها كل جوهري مالك لمنطقه الداخلي وكاشف لعالم فريد مرتبط ارتباطا وثيقا باللغة التي بوشرت عليها ” .

3- الحوارات الخالصة:  وهي الحوارات الصريحة المباشرة بين الشخصيات داخل الحكي:
نستخلص إذن ان ملامح الرواية الحوارية تظهر بحضور الأسلبة والتهجين والباروديا والحوار الخالص والتنويع . فهذه الأشكال جميعها تحقق تميز الرواية إذ يرشاد الخطاب تلك البيئة المكونة من الكلمات الأجنبية ، المتهيجة بالحوارات المتوثرة بالكلمات والأحكام والنبرات الغربية ثم يندش بين تفاعلاتها المعقدة ، منصهرا مع البعض ومنفصلا عن البعض الأخر ومتقاطعا مع فئة ثالثة من تلك العناصر ”  ومن هنا نجد ان أسلوب الرواية مغاير لأسلوب الشعر الذي يقول بخصوصه باختين:” إن أحادية اللغة ووحدانيتها شرطا لازما لفردية الأسلوب الشعري المباشر والقصدية وللابقاء عليه داخل المونولوج ”  حيث نجد أن لغة الشاعر هي لغته هو ”  تعبر عن قصده ورؤيته للعالم ووعيه الخاص، فعالم الشعر مهما يكن حجم الصراعات والتناقضات التي يحتضنها داخله تبقى رؤية الشاعر وقصده هما المهيمنان والسائدان ” فالأسلوب الشعري يقتضي مسؤولية الشاعر الدائمة والمباشرة تجاه لغة مجموع عمله وكأنها لغته …إنه في خدمة لغة واحدة ووعي لساني واحد ”  فالأسلوب الشعري بمجرد من كل تأثير متبادل مع خطاب الأخرين وهذا يعني بطبيعة الحار أن ” لهجان مختلفة بل ولغة أجنبية ، لا يمكن أن تتسربا إلى العمل الشعري”  إذ من الممكن ان نجد تعددا لغويا في الأجناس الشعرية الدنيا مثل قصائد الهجاء والشعر الكوميدي وغير أن هذا التعدد يكون اللغة فيه مجردة من الإيديولوجيا الخاصة بمتكلمها وبالتالي فالتعدد اللغوي هنا ليس كما حدده باختين وإنما هو فقط تحدد في السجلات اللغوية ليس أكثر . تأسيسا على هذه المعطيات يظهر أن الرواية –بعكس الشعر- تقبل أن تتعايش فيها لغات مختلفة من فترات زمنية وعهود مختلفة محملة بإيديولوجياتها ورؤياتها الخاصة للعالم وهنا نتحدث عن الرواية الديالوجية ( الحوارية ) وليس مقابلتها الرواية المنولوجية التي تهيمن فيها رؤية واحدة للعالم ويسود فيها الصوت الواحد” وتتنوع أشكال الرواية المنولوجية فمنها ما يظل أسير التأملات النظرية ، وبمعنى  لكن من زاوية نظر ذاتية فردية إلى بلوغ التشكيك في كل القيم ودون إعطاء الفرصة لقيام حوار بينها ”  ويرى لحميداني   أن للرواية المنولوجية قيمة ابستيمولوجية تتجلى في أن التاريخ في حاجة إلى استقرار إحدى القيم أو التصورات للعالم ليتمنى لأصحابها ممارسة تأثيراتهم ومن تم يغدو دور الرواية المنولوجية دورا براغماتيا يظهر في السعي إلى تكريس وتعميم رؤية واحدة ووعي واحد تجاه العالم وفي إطار بحثها عن قيمة جمالية خاصة بها تلجأ الرواية المنولوجية إلى استغلال الطاقة الشعرية والمظهر الشكلي لتعدد الأصوات بغية التستر وراء هاته الأشكال وإخفاء هيمنة الصوت الواحد والرؤية الوحيدة ” وقد حكم باختين على هذا النوع من الروايات بأنه نوع دون مستوى الرواية الديالوجية غير أن النقاد الذين تعاملوا مع كأفكا وجويس وجد والدي الرواية المنولوجية التي إبداعها معا مقاييس جمالي تثير القارئ بنفس الحدة التي يمكن أن تثيره بها الروايات الحوارية ”   إذ القيمة الفنية للإبداع لا تتجلى في مدى شموليته وإنما في الطريقة أو الأسلوب الذي صيغ به العمل الأدبي ويعطي باختين مثالا عن الرواية المنولوجية رواية السوفسطائيين التي تتميز بأسلبة واضحة ومنهجية لمادة بنائها أي أنها تتمير بهيمنة وصرامة أسلوب مونولوجي خالص

*تركيب :
الرواية الحوارية جنس منفتح يفيد من جميع الأجناس المجاورة له واللغات القديمة والمعاصرة له، يؤسلبها يحاورها يختلف معها أو يتآلف معها  فالرواية الحوارية باستنادها إلى التعدد اللغوي تحقق شموليةؤ بمعنى أنها تجمع جميع الرويات الممكنة والموجودة للعالم تجعلها في موضع حوار وصراع . ويبقى دور الكابت هو تنضيد اللغات الحاضرة في العمل الروائي، لا تكون لغته ورؤيته إلا واحدة من بين كل تلك الرؤى الهندسة في  الرواية بعكس الرواية المنولوجية التي ينفرد فيها الكاتب بالهيمنة بلغته على باقي اللغات والأصوات وبسيطرة رؤيته على باقي الرؤى .
إن إعلاء باختين من شأن الرواية الديالوجية على حساب نظيرتها المنولوجية لم يكن جزافا بل أمر مبين على الأسس والمنطلقات الأولى التي شيد عليها تصوره للحوارية وهي أن الكون بأكمله قائم على الحوار.
_________________________
-ميخائيل باختين ، الخطاب الروائي ، مرجع مذكور، ص 93.
-نفس المرجع ص 45-46.
– نفس المرجع ، ص 94.
نفس المرجع ص 96.
نفس المرجع ص 96.
– ميخائيل باختين الخطاب الروائي ، مرجع مذكور ص  97.
– نفس المرجع ، ص  32.
– نفس المرجع ص 32.
– حميد لحميداني ، أسلوبية الرواية: مدخل نظري  منشورات دراسات سال الطبيعة I 1989.
– ميخائيل باختين الخطاب الروائي، مرجع مذكور ص 43.
– حميد لحميداني ، أسلوبية الرواية: مدخل نظري مرجع سابق، ص 86.
– ميخائيل باختين الخطاب الروائي، مرجع مذكور ص 108
– ميخائيل باختين الخطاب الروائي، مرجع مذكور ص 110
– حميد لحميداني ، أسلوبية الرواية: مدخل نظري مرجع سابق، ص 86.
– نفس المرجع ، ص  89
– ميخائيل باختين الخطاب الروائي، مرجع مذكور ص 111
نفس المرجع ، ص 44.
نفس المرجع ص 51.
-نفس المرجع ص 50.
-نفس المرجع ص 50-51.
-نفس المرجع ص 51.
– حميد لحميداني ، أسلوبية الرواية: مدخل نظري مرجع سابق، ص 46
– نفس المرجع ص 46.
– نفس المرجع ص 46.

قرأوا أيضا...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.