دور الخرقة في الثقافة الصوفية

التجربة الصوفية عند الإمام أبي حامد محمد الغزالي
الفصل الثالث
المحور الثاني : دور الخرقة في الثقافة الصوفية .
يعتبر لبس الخرقة في الثقافة الصوفية بمثابة ارتباط بين كل من الشيخ والمريد وتحكيم من المريد للشيخ في نفسه وإلى كون هذا التحكيم يكون سائع في الشرع لمصالح دنيوية كما على الشيخ في تعامله مع المريد أن يكون بحسن من وعقيدة بحيث يتحكم فيه وذلك لمصالح دينه وأن يرشده ويهديه ويعرضه طريق المواجيد ويبصره بآفات نفسه لشيخ ويستسلم لرأيه واستجوابه في جميع تصاريفه فيلبسه الخرقة كعلامة على التفويض والتسليم ودخول في حكم الشيخ والذي يعتبر بمثابة دخول في حكم الله ورسوله وهذا طبعا للإحياء سنة المبايعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال عبد بن الوليد بن عبادة بن الصامت : قال : أخبرني أبي عن أبيه قال : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وأن لا ننازع الأمر أصله وأن نقول بالحق حيث كنا ولا نخاف في الله لومة لائم ”  1
فالخرقة تعتبر بمثابة مبايعة وعتبة الدخول في الصحبة وذلك لكون بالصحبة يرجى المريد كل خير .
وهناك رواية عن أبي يزيد أنه قال ” من لم يكن له أستاذ فإمامه الشيطان “ 2  وحتى الأستاذ أبو القاسم القشيري عن شيخه أبي علي الدقاق أنه قال :” الشجرة إذا أنبتت بنفسها من غير غرس فإنها تورق ولا تثمر وقال أيضا ويجوز أنها تثمر كالأشجار التي في لأودية والجبال ولكن لا يكون لفاكهتها طعم فاكهة البساتين  3 فالمريد الصادق إذا سمع كلام شيخه ودخل تحت حكمه وتأدب بأدبه يسري من باطن الشيخ حال إلى باطن المريد وكلام الشيخ يعمل على تأديب باطن المريد ويكن مقال الشيخ مستودع نفائس الحال لأن هذا الأخير ينتقل من الشيخ إلى المريد بواسطة الصحبة وسماع المقال.
وهذا طبعا لا يتحقق إلى لمريد وضع نفسه تحت امرأة شيخه وانفصل عن إرادة نفسه فبواسطة التألف الذي يربطه الله بين المريد والشيخ ارتباط يتميز بالمثانة لأنه يكون روحيا ثم يبقى التأذب بين الشيخ والمريد الذي ينبني على أساس ترك الاختيار إلا أن يصل إلى ترك الاختيار مع الله تعالى ثم يصبح يفهم من الله مثل ما كان يفهم عن شيخه إلى أن هذا يتأسى على مبدأ الذي هو الخير كله والصحبة والملازمة للشيوخ والخرقة هي بداية ذلك فقد قالت أم خالد بنت خالدة” أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بثياب فيها خميصة سوداء صغيرة فقال من ترون أكسو هذه ؟ فسكت القوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ائتوني بأم خالد قالت فأتى بي فالبسنيها بيده فقال أبلى وأخلق يقولها مرتين وجعل ينظر إلى عالم في الخميصة أصفر وأحمر ويقول يا أم خالد هذا سناه ، والسناه هو الحسن بلسان الحبشة” 4
إلى أن لبس الخرقة في هذا الزمان متغير عن الهيئة التي كانت تعتمد في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا يظهر من خلال الحديث الأخير وقد ذكر الله تعالى في قرآنه الكريم على تحكيم الأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا ينطبق على تحكيم المريد شيخه وهذا طبقا قصد إحياء سنة ذلك التحكيم فقد قال تعالى ” فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت وسلموا تسليما” . وهذا يدل على حسن التأذب مع الشيخ وعدم النقاش في أوامرهم لأنه مشروط عليهم التسليم وهذا طبعا شرط المريد مع الشيخ بعد التحكيم وهذه هي الغاية من لبس الخرقة بحيث أنها تزيل إتهام الشيخ عن باطنه في جميع تصاريفه ويحدر الاعتراض عن الشيوخ فإنه يعد بمثابة السم القاتل للمريدين وإنه من الناذر أن يعترض المريد على شيخه بباطنه فيفلح.
ويعد لبس الخرقة من يد الشيخ مثل الذي 5 لبسها عن الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك لأن الشيخ ينوب عنه ويعد إخضاع المريد أمره لشيخه بمثابة تسليم لله ورسوله فقد قال تعالى ” إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ” .
والشيخ يسمع  6 من مريده عهد الوفاء بشرائط الخرقة ويعرفه واجب وشرائط الخرقة فالشيخ يعد بمثابة صورة للمريد لأنه يستشف من وراءه الواجبات الإلهية والنبوية إلى درجة أن المريد يعتبر شيخه بمثابة باب فتحه الله إلى جنات كرمه لأنه منه يدخل وإليه يرجع والشيخ لا يتصوف في مريده بهواه فهو بمثابة أمانة أهداه إياها ربه كما على الشيخ أن يستغيث بحوائج نفسه ومهام دينه ودنياه حيث قال تعالى ” وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسوله ” 7 فبعث الرسول كان هذا في عصر النبوة وهم ذوي الاختصاص فيه أما الكلام من وراء حجاب بالإلهام والهواتف والمنام وغير ذلك فهذا من تخصص الشيوخ والراسخين في العلم .
كما لا ينبغي على المريد أن يترك شيخه إلا بأمر منه بحيث هناك أية من القرآن الكريم تأدب الأمة الإسلامية حيث قال تعالى :” إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على امر جمع لم يذهبوا حتى يستاذنوه وأن الذين يستأذنوك أو لكل الذين يؤمنون بالله ورسوله ، فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم ”  8 وليس هناك أمر جامع أحسن وأقوم من أمر الدين فلا يسمح الشيخ للمريد في المفارقة إلا بعد تأكده من أنه يستطيع الاستقلال بنفسه وهذا الأخير يفتح له باب الفهم مع الله سبحانه وتعالى فإن استطاع المريد أن ينزل الحوائج والهام بالله والفهم منه سبحانه بتعريفاته وتنبيهاته تعالى لعبد المحتاج فقد وصل إلى مرحلة الفطامة إلى أنه إذا فرق قبلها فإنه يرجع اتباع هواء نفسه وهذا ما يؤكد بتلازم صحبة المشاييخ للمريد الحقيقي ، ذلك لكون المريد الحقيقي ، يلبس خرقة الإرادة .
إلا أن الخرقة في الثقافة الصوفية تنقسم إلى قسمين خرقة الإرادة وخرقة التبرك والفرق بينهما هو كون خرقة الإرادة تكون خاصة بالمريدين الحقيقيين أما خرقة التبرك فهي للمتشبه والسر الحقيقي في الخرقة هو كون المريد الصادق إذا سلم نفسه لشيخه وأصبح مثل الولد الصغير لوالديه فإن الشيخ يحس بصيرته بالإشراف على البواطن .
فيمكن أن يلبس المريد الخشن مثل الذي يلبسه المتقشفين المتزهدين وهذا قصد أن يرى في عيون آناس أنه من الزهاد إلى أن الشيخ يلبسيه خرقة تكسر على نفسه هواها وغرضها ويمكن أن يقع العكس إلى أن لشيخ كامل الصلاحية في التصرف في لبس وآكل وفطور وصوم وكذلك في تحكمه في أمر دينه إلى ما يرى فيه مصلحته من ودوام الذكر.
التنقل في الصلاة واستمرار التلاوة فلشيخ إشراف على البواطن وتنوع الاستعدادات وذلك لأنه بتنوع الاستعدادات تتنوع مراتب الدعوة قال تعالى:” أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ” .
كما أن الشيخ يلبس المريد ثوبا يصلح له وهيئة تصلح له إذ بواسطة الخرقة يتداوى هوى المريد إذ يسع الشيخ بهذا إلى تقريب من مولاه وذلك لكون المريد الصادق الذي يكون في باطنه مملوء بناء الإرادة .
فالقميص يعد بمثابة خرقه تبشر المريد بحسن اهتمام الشيخ به فهناك حكاية تحكى عن كون سيدنا إبراهيم الخليل حين القي في النار جرد من ثيابه وقدف في النار عريانا فأتاه جبريل عليه السلام بقميص من حرير الجنة والبسة إياه وكان ذلك عند إبراهيم عليه السلام فلما مات ورثة إسحاق فلما مات ورثه يعقوب فجعل يعقوب عليه السلام ذلك القميص في تعويد وجعله في عنق يوسف فكان لا يفارقه ولما ألقي في البئر عريانا جاءه جبريل وكان عليه التهويذ فأخرج القميص منه والبسه إياه.
فالخرقة تحمل للمريد الصادق عرف الجنة لما يحتوى عليه من الاعتداء بالصحبة لله ويعرف بأن لبس الخرقة بمثابة اهتمام الله به وفضل منه سبحانه أما فرقة التبرك فيرغبها من مقصوده التبرك بلباس القوم ومثل هذا لا يطالب بشرئط الصحة بل يوصي بلزوم حدود الشرع وبالتجمع مع أصحاب هذه الطائفة وذلك بقصد التبرك بهم وأن يتأدب بأدبهم فهذا سوف يوصله إلى دربه خرقه الإرادة فعلى هذا تعتبر خرقة التبرك مبذولة لكل طالب وخرقة الإرادة ممنوعة إلى من الصادق الراغب كما يعد لبس اللون الأزرق مستحسن من طوف الشيوخ أما إذا أراد الشيخ أن يغير اللون فله ذلك لانه هو الذي يحدد وليس لأحد أن يعترض من عليه لان الشيخ حكمه وكما قلنا هدفه من البس الخرقة هو دراء هوى مريده فقد كان الشيوخ يختارون اللون الأزرق وهذا يهدف إلى الرفق والرحمة بالفقير وذلك لكون اللون الأزرق يحمل الوسخ على باقية الألوان وفي ذلك حكم كثيرة ذكرها بعض المتصوفة .
إلى أنه هناك بعض المشايخة لا يفرضون لبس الخرقة على مريديهم فمن يلبسها فله مقصده وأصل من السنة وشاهدة من الشرع ومن لم يريد فله رأيه ومقصده وكل تصورات وتصرفات الشيوخ فيها صواب  9 وحكمة والله تعالى ينفع بهم وبآثارهم إن شاء الله تعالى .
_________________
1  – الإمام أبو حامد الغزالي كتاب ” إحياء علوم الدين “الجزء الخامس الحديث خلف الجامع الأزهر ( المكتبة التجارية الكبرى ) ص 78
2  -نفس المرجع ص 78
3  -نفس المرجع ص 78
4  – الإمام أبو حامد الغزالي كتاب ” إحياء علوم الدين “الجزء الخامس الحديث خلف الجامع الأزهر ( المكتبة التجارية الكبرى ) ص 78
5  -سورة النساء الأية 64
6  -سورة الفتح الأية 60
7  -سورة الشورى الأية 60
8  -سورة النور الأية 48
9  -سورة النحل الأية 125

قرأوا أيضا...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.