الجابري ونحن المشارقة

ظل الجابري وفياً لمغاربيته، ومعتقده في العروبة، ووجهة نظره الإيجابية في الماركسية، ومَنْ يقترب من الماركسية لابد أن يكون وفياً لعلمانيته، بمعنى فصل الدين عن الدولة بأقل تقدير.
ما كنت أحسب أن هناك تمايزاً مازال قائماً بين مشارقة ومغاربة، بعد هذا التداخل الحضاري والثقافي العميقين، حتى قرأت كتاب “حوار المشرق والمغرب”(1990) بين باحثين عالمين هما حسن حنفي، ممثلاً للمشرق، ومحمد عابد الجابري، ممثلاً للمغرب. وشغل الأخير، الراحل قبل أيام، جيله وجيلنا، إذا كانت الأجيال تحسب على السنين. دخل هذا المغربي في عقول المشرقيين، دخول أسلافه من الطرطوشي (ت 520 هـ)، وابن طُفيل (ت 581 هـ)، وابن رشد (ت 595 هـ)، وابن العربي (ت 638 هـ)، وابن خلدون (ت 808 هـ)، وسواهم. وبقدر ما اعتبر ممثل المشرق، في ذلك الحوار، أن الانقسام إلى مشرق ومغرب حصل بفعل الاستعمار، اعتبر ممثل المغرب أن الأمر ليس بفعل فاعل، وأحاله إلى إشكال معرفي، وأتى منصفاً إلى برهان مفاده: “صورة المغرب في وعي المشرق منتزعة من صورة بعض مظاهر الواقع في المشرق نفسه، وأن الحكم الظني، الذي صور عنه ذلك السؤال حكم مبني على القياس، قياس فرع هو المغرب عن أصل هو المشرق “(حوار…). علق الجابري بهذا النَّص على سؤال فاجأه به زميل الدراسة بدمشق (1958): “هل عندكم ماء في المغرب”!

أتذكر أيضاً، في التمايز بين مشارقة ومغاربة، أني التقيت، بحكم المصادفة، بأحد المثقفين المغاربة بمكتبة بباريس، كان يسأل عن طبعة معينة لـ”مقدمة ابن خلدون”، فلاطفته بالقول: اقرأ رسائل إخوان الصفا ستجد المقدمة فيها! نظر لي بحدة قائلاً: هذا من ترهات المشارقة!

ويبدو أنه اطلع على كتاب الباحث المصري محمود إسماعيل “نهاية أسطورة نظريات ابن خلدون”، والباحث نفسه تبنى نشر كتاب “هل انتهت أسطورة ابن خلدون.. جدل ساخن بين الأكاديميين والمفكرين العرب”، وكنتُ أحد المساهمين في الكتاب ببحث نشرته من قبل في جريدة “الحياة” (21 كانون الثاني 1997)، وكل المساهمين في الكتاب كانوا من المشارقة!

وقتها لم يسترع انتباهي ردِّ المثقف المغربي بأنه قصد أن “إخوان الصفا” مشارقة وابن خلدون مغربي، مع أن الأمر ليس كذلك، إنما بالفعل هناك ما يمكن قوله في التشابه بين الرسائل والمقدمة! على أية حال، كان أحد دوافع الباحث المفكر جورج طرابيشي في نقد “تكوين العقل العربي” و”بنية العقل العربي”، وهما من أسفار الجابري، هو إيحاء الأخير بعقلانية التراث المغربي ولا عقلانية التراث المشرقي.

وبغض النَّظر عمَّا ذهب إليه طرابيشي، وما اختلف فيه مع الجابري، فإن نقده كان بادرة ثقافية حضارية، تُعيد إلى الأذهان ما كان يدور في مجالس المناظرات والكُتب التي تُصنف بالمع والضد، وإن كان منها ما يمثل الخصومة الجارحة كمثال ابن الراوندي (القرن الثالث الهجري) بكتاب “فضيحة المعتزلة” على الجاحظ (ت 255 هـ) في “فضيلة المعتزلة”!

ما بين طرابيشي والجابري ليس كذلك، إنما استغراق الأول في قراءة الثاني والردِّ عليه دهراً قدره ثمانية أعوام، حسب ما جاء في مقدمة “نقد نقد العقل العربي”، لهو شهادة بأن الجابري قامة في تاريخ الفكر العربي، ليس عابراً، ناهيك عن الاعتراف بفضل الرجل: “إن الذهن بعد مطالعة تكوين العقل العربي لا يبقى كما كان قبلها، فنحن أمام أطروحة تغيِّر، وليس مجرد أطروحة تثقَّف” (نقد نقد…”. لستُ بمكان الفصل بين طرابيشي والجابري، بقدر ما أحاول إلفات النَّظر إلى قيمة الحوار، وتحريك الجمود الثقافي والفكري الذي له ألف سبب وسبب.

اعتدنا نحن العراقيين، بسبب ظروفنا القاتمة، أن نتلبس عالم السياسة، والمواقف العابرة، على حساب عوالم أُخر، وكم فاتنا من جزيل الشعر، وروائع الأدب، وعميق الفكر والثقافة، بشكل عام، عندما كنا نتعامل مع بقية أهل الثقافة والفكر من زاوية معنا أو ضدنا، أي بالقرب من نظام “البعث” أو البعد عنه، وتجدنا ارتكبنا خطيئة النَّظام نفسه بتصنيف الثقافة، أعداء وأصدقاء، وبهذا كان العديد منا ينظر لحبر فكري وثقافي مثل الجابري، أنه كان يزور بغداد، واشترك في ندوة، بمناسبة الذكرى الأولى لوفاة ميشيل عفلق مؤسس حزب “البعث” (1990)!

محمد عابد الجابري توفي عن عمر ناهز 75 عامانظرنا إلى الجابري بذلك المنظار مع أنه هو أحد الفاتحين لجيلنا بوابات الجدل، وأعاد لنا قيمة “تهافت التهافت” إزاء “تهافت الفلاسفة” الذي يجري اليوم بما هو أقوى من الأمس، ولم نأخذ ابن رشد على أنه مغاربي وأبا حامد الغزالي (ت 505 هـ) مشارقي! وبوجود ما صنفه الجابري لم يبق أثراً لمقولة الصاحب بن عباد ( 385 هـ)، الوزير الزيدي المعتزلي، “بضاعتنا رُدت إلينا”، حسب الجابري، ذلك عندما وصله كتاب “العقد الفريد” لابن عبد رَّبه (ت 327 هـ) المغربي، فالأصل عنده “كتاب الأغاني” للأصفهاني (ت 356 هـ) المشرقي. ولا نعلم مَنْ السابق بالتأليف فلعلَّ السبق كان لصاحب العقد.

ظل الجابري وفياً لمغاربيته، ومعتقده في العروبة، ووجهة نظره الإيجابية في الماركسية، ومَنْ يقترب من الماركسية لابد أن يكون وفياً لعلمانيته، بمعنى فصل الدين عن الدولة بأقل تقدير. فهو، حسب ما فهمته من اهتمامه، المنصب على دراسة ابن رشد وابن خلدون، أن الأول تعدى وصف الشارح لفلسفة أرسطو، وأن الثاني تعدى المؤرخ إلى المؤسس، ونحن معه عندما يقول عن “تهافت تهافت” ابن رشد: “انتصار للروح العلمية وتأسيس لأخلاقيات الحوار”، وهو عنوان كتابه.

حدد الجابري لماركسيته وعلمانيته شروطاً، حيث يفصل الأولى عن الأحزاب الشيوعية، وكل ما أُدخل بعد ماركس، ويجد لها مسقبلاً عربياً، مَشرقاً ومَغرباً، لأنها “نظرية في تفسير الفقر وأيديولوجيا لتعبئة ضحايا الفقر” (كتابه: التراث والحداثة). أما العلمانية فيريد لها القطيعة مع ما بثه الإسلام السياسي ضدها، ويرى استبعادها كشعار من القاموس العربي، والعبارة له، وتعويضه بشعاري الديمقراطية والعقلانية. مع أن المدنية والمجتمع المدني ربما تكون أكثر قبولاً، لأن الإسلام السياسي أخذ يتحايل على الديمقراطية، من باب أنه يعدها مخلوقاً وضعياً أجنبياً، ومن باب أنه يحاول جعلها مطية إلى السلطة.

بعد هذا يصح ليَّ القول: إن غياب مفكر بقامة الجابري، وهو مازال في سياق عطائه، وفي زمن يقل به أمثاله، يُعدُّ خسارة فادحة لمشارق منطقتنا ومغاربها، والعبارة لشيخ المعتزلة إبراهيم النَّظام (نحو 231 هـ): “العلم شيء لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، فأنت من عطائه لك البعض على خطر”، وقد أعطى الجابري كله للعلم.
بقلم: رشيد الخيّون
الإتحاد

قرأوا أيضا...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.