تقدم القول أن حرية الرأي في الإسلام حق لكل إنسان، حيث أقر الإسلام هذا الحق في أوسع نطاق، فمنح كل فرد حرية النظر والتفكير وإبداء رأيه . فعلى هذا المبدأ الجليل سار الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده وأن هذا الحق ظل مقدسا، محترما، مصونا حتى كان الناس يتناقشون مع الخليفة نفسه وينصحونه إن ظهر في قوله أو فعله ما يخالف الدين وما يرونه ولعل قصة المرأة مع عمر رضي الله عنه عندما نهى عن التغالي في المهور خير دليل على ذلك وحرية الرأي من وجهة نظر الإسلام […]
حرية الرأي والعقيدة بين الشريعة والقانون
الباب الأول: حرية الرأي، مفهومها، تأصيلها، وحكمها.
الفصل الثاني: حرية الرأي من منظور الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية
سنتطرق في الأول لحكم حرية الرأي في الشريعة الإسلامية (مبحث أول) على أن نتطرق إلى حكمها في القوانين الوضعية (مبحث ثاني).
المبحث الأول: حكم حرية الرأي في الشريعة الإسلامية:
المطلب الأول: مجالات حرية الرأي في الشريعة الإسلامية
[…] تعد واجبا على كل مسلم وحيث أن القاعدة الأصولية في الإسلام تقرر أن الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يحرم بنص من القرآن والسنة، وبما أن لا وجود في كتاب الله ما يمنع من هذه الممارسة ولا حتى في سنة رسوله الكريم. فإن الإنسان حر في التعبير عن الرأي.
وحرية الرأي في الشريعة الإسلامية حرية شاملة تشمل كافة المجالات بحيث يجوز للفرد أن يبدي رأيه في الأمور العامة للدولة (فقرة أولى) وفي المجالات الدينية (فقرة ثانية).
الفقرة الأولى: المجالات الدنيوية:
أعطى الإسلام للفرد الحق في الإسهام برأيه في الأمور العامة للدولة، سواء كانت سياسية ، أو اقتصادية، أو حربية، طالما كان مؤهلا لذلك، ولديه الخبرة الكافية في هذه المجالات. وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه في الأمور العامة، وكان يأخذ –غالبا- بآرائهم وإن خالفت رأيه، كما حصل في مواقف عديدة في غزوة بدر وأحد والخندق .
ففي غزوة بدر نزل جيش قريش بالعدوة القصوى من الوادي فخرج رسول الله صلى الله عله وسلم يبادرهم إلى الماء حتى إذا جاء أدنى ماء من بدر نزل به، فجاءه الخباب بن منذر بن الجموح رضي الله عنه فقال: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: “بل هو الرأي والحرب والمكيدة” فقال: يا رسول الله هذا ليس بمنزل فنهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغور ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربوه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لقد أشرت برأي) فقبل ما أشار به هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه .
في غزوة الخندق استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أيمكث في المدينة أم يخرج لمواجهة الأعداء، فأشار عليه الصحابي الجليل سلمان الفارسي رضي الله عنه بخطة حربية محكمة، وهي إحاطة المدينة بخندق فوافق الرسول صلى الله عليه وسلم على هذه الخطة وباشر عليه السلام حفر الخندق مع رجاله .
وتشجيعا لممارسة هذا الحق فكثيرا ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه أنتم أعلم بأمور دنياكم، أي أنهم هم الذين أولى بمعرفة ما يخصهم منه عليه السلام . كما أن الأمر لا يقتصر على هذا فحسب وإنما كان يستنهض أصحابه مشاركته هذه الممارسة.
كما نجد أن الإسلام أقر الحرية العلمية في أوسع نطاق بحيث لم يعارض أية نظرية علمية بصدد أي ظاهرة من ظواهر الكون –مادام في ذلك مصلحة عامة للمجتمع- وأتاح للعقول والأفكار حرية التفكير والتعبير عن الرأي وحثهم على استعمال عقولهم وأبصارهم ومداومة النظر فيما يحيط بهم من مخلوقات الله وعوالمه .
ويتضح إذن أن أساس ممارسة حرية الرأي في الإسلام يتمثل في استشارة الآخرين وعدم التعصب لنظرية الغير خصوصا إذا كانت هذه النظرية مبنية على أساس علمي متين. هذا فيما يخص الأمور الدنيوية. فماهو الشأن بخصوص الأمور الدينية؟ هذا سنحاول بحثه في الفقرة الموالية.
الفقرة الثانية: المجالات الدينية
تتمثل بشكل واضح بالنسبة للمسلم في الاجتهاد المشروع وذلك بإعمال الفكر وبذل الجهد والطاقة من كل قادر، له أهلية النظر والبحث، للوصول إلى الحكم الشرعي المنصوص عليه في القرآن والسنة وكذلك استنباط الأحكام غير المنصوص عليها قياسا على ما جاءت به نصوص القرآن والسنة و بناء على ما يراه في الحكم من مصلحة جاءت الشريعة لتحقيقها أو مفسدة جاءت لمنعها، أو تطبيقا للقواعد الشرعية العامة . ولا أدل على ذلك من إذن النبي صلى الله عليه وسلم لعلماء الصحابة للاجتهاد بل وتشجيعهم على ذلك بحيث كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم إزاء اجتهادات أصحابه أحد موقفين:
فإما أن يقرهم عليه لموافقته شرع الله، وهذا وحي لأنه عليه السلام لا ينطق عن الهوى. وإما أن يخالف فيه لنزول الوحي بغيره، وفي رجوعهم إلى قوله حينئذ رجوع إلى الوحي عن طريق الرسول الأمين. ولعل خير دليل على ذلك في حديث معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسله إلى اليمن قال له: (كيف تصنع إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بما في كتاب الله، قال: فإن لم يكن في كتاب الله، قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله قال: أجتهد رأيي لا ألوا قال معاذ: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدري ثم قال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله) .
ونتيجة لهذه الحرية التي أطلقها الرسول صلى الله عليه وسلم برزت إلى الوجود مجموعة من اجتهادات الخلفاء الراشدين وأمهات المؤمنين والصحابة وكبار التابعين ونشأت بذلك المذاهب الفقهية الجماعية والفردية. أما المذاهب الفردية فقد تمثلت في فتاوى بعض التابعين وأتباعهم ممن لم يتح لهم نشر آرائهم بين الناس .
في حين أن المذاهب الجماعية تمثلت فيمن نقلت آراءهم من العلماء المجتهدين وآراء أصحابهم في مجموعة واحدة، بحيث تشكلت منها مدارس فقهية، لها مناهج علمية للبحث الاجتهادي، وأتباع كثيرون، ولا يزالون في العالم الإسلامي، إلى يومنا هذا كالمذاهب الأربعة المشهورة، ومذهب الإباضية ومذهب الشيعة .
إذا كانت حرية التعبير تمارس وفق هذه المجالات فهل هذا يعني أنها مطلقة أم على العكس من ذلك مسيجة بمجموعة من الضوابط وهذا ما سنحاول بحثه في المطلب الموالي.
_________________________
– قانون حقوق الإنسان في الفكر الوضعي والشريعة الإسلامية (عبد الواحد محمد الفار) دار النهضة العربية بالقاهرة الطبعة 1991 ص304 (بتصرف).
– السيرة النبوية لابن هشام الجزء II الصفحة 620.
– فتح الباري في شرح صحيح البخاري الجزء II ص.395.
– الإسلام وحقوق الإنسان صبحي عبدو سعيد جامعة القاهرة 1415 هـ ص118 (بتصرف)
– الإسلام دين حقوق الإنسان (يوسف الكتاني ط 1996 ص27.
– حقوق الإنسان في القرآن والسنة وتطبيقاتها في المملكة العربية السعودية (محمد بن أحمد صالح الصالح ط I 2002 ص164.
– أبو داود (السنن) الجزء الثالث ص.302 كتاب الأقضية (باب اجتهاد الرأي في القضاء) الحديث رقم 3592.
– حقوق الإنسان في القرآن والسنة وتطبيقاتها في المملكة السعودية مرجع سابق ص165 (بتصرف).
– حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، الدكتور هاني سليمان الطعيمات ط I 2003 ص.148.