المحافظة على المقاولة – نظام الإفلاس في القانون

هاجس المحافظة على المقاولة – المطلب الثاني:
ظل نظام الإفلاس [1]، والذي يهدف بالأساس إلى تصفية أمال المدين و توزيعها على دائنيه، معمولا به في المغرب منذ سنة 1913 ، و هو ما شكل عرقلة للاقتصاد الوطني؛ ذلك أنه يقوم على اعتبارات قانونية صرفة مفادها أن إخلال التاجر بتنفيذ التزاماته يخول لدائنيه طلب غل يده عن التصرف في أمواله، من أجل تمكين الدائنين من استيفاء حقوقهم، بعبارة أخرى يمكن القول بأن نظام الإفلاس يؤدي بهذا الشكل إلى زوال وحدة إنتاجية، و فقدان الأجراء لمناصب شغلهم، و فقدان إدارة الضرائب لمورد من مواردها، و بالتالي تضرر الاقتصاد الوطني.

لهذه الأسباب اقتنع المشرع المغربي، بعد طول انتظار، بأن الاعتداد بالاعتبار القانوني وحده لا ينسجم مع النهج الليبرالي الذي تنهجه الدولة، فجاءت مدونة التجارة لسنة 1996 بنظام جديد لمعالجة صعوبات المقاولة؛ و هو النظام الذي يقوم على اعتبارات اقتصادية تهدف قدر الإمكان إلى المحافظة على المقاولة و بالتالي حماية مصالح الأطراف المرتبطة بهذه الأخيرة بما في ذلك الأجراء و الدائنين.

و هكذا يظهر هاجس المشرع في المحافظة على المقاولة و الذي يشكل تحولا في فلسفته المتبعة    في هذا المضمار، سواء من خلال مساطر الوقاية أو من خلال مسار المعالجة، حيث خول للمقاولة أن تعمل على حماية نفسها من خلال أجهزتها الداخلية، من الصعوبات التي يمكن أن تخل باستمراريتها، و إذا تعذر عليها ذلك فقد منحها المشرع فرصة أخرى لتدارك الوضع تحت إشراف القضاء، وبذلك لا يلجأ إلى تصفية المقاولة إلا كحل استثنائي و بعد فشل المراحل السابقة،و هو ما يظهر تحولا جذريا في المفاهيم .

وفي هذا الصدد أكدت المحكمة التجارية بمراكش أن غاية مسطرة صعوبة المقاولة حماية المؤسسة في المقام الأول وتدليل ما قد يعترضها من صعوبات، ومن ثم وبشكل غير مباشر حماية الدائنين، وبالأساس حماية مناصب الشغل. [2]

و لنا أن نتساءل عن الأسباب الكامنة وراء هذا التحول من نظام إلى آخر؟ ثم هل راعى المشرع في ذلك مصلحة المقاولة؟ و إلى أي مدى تم التوفيق بين هذه المصلحة و المصالح الأخرى؟ و ما مدى فعالية الآليات التي جاء بها نظام المعالجة من الصعوبات؟ و ماهي الإكراهات التي تواجه هذا الأخير؟

الواقع أنه إذا كان تحول المشرع المغربي عن نظام الإفلاس في اتجاه نظام الوقاية و المعالجة يشكل في حد ذاته خطوة إيجابية، فإن هذا الطرح لا يمكن قبوله على إطلاقه لاعتبارات تتصل ببعض المعيقات التي تحول دون فعالية هذا النظام المستحدث بمقتضى مدونة التجارة.

فإذا كان شعار الكتاب الخامس من مدونة التجارة المغربية هو الحفاظ على المقاولة وبالتالي حقوق الدائنين و الأجراء، فإن المشرع في ذات المدونة يتراجع عن فلسفته هذه؛ و هو ما يتضح من المادة 503 منها [3]، التي خولت للمؤسسة البنكية أن تعمد إلى إقفال الحساب المفتوح لديها باسم المقاولة التي فتحت في مواجهتها مسطرة التسوية أو التصفية القضائية [4]، و لو لأن خضوع المقاولة للمسطرة الأولى على الخصوص يستتبعه استمرارها في مزاولة نشاطها إلى حين إعداد السنديك لتقريره مما يفرض تبعا لذلك استمرار المقاولة في تشغيل حسابها البنكي؛ و هنا نلاحظ تحولا في فلسفة المشرع ليس فقط من تشريع إلى آخر و إنما داخل ذات التشريع ليأخذ باليد اليسرى ما أعطاه باليمنى،مما يدفعنا إلى التساؤل عن مصدر هذا التحول و بهذا الشكل؟

يمكن القول بأن السبب في ذلك يرجع، حسب أستاذنا امحمد لفروجي، إلى أن اللجان التي اشتغلت على وضع المدونة كانت تعمل بانفصال عن بعضها البعض، فنتج عن ذلك غياب التنسيق بين اللجنة المشتغلة على الكتاب الخامس و بين اللجان المشتغلة على الكتب الأخرى من المدونة[5] .

كما أنه، و بالرغم من حديث المشرع عن وقاية المقاولة فإنه لم يكن موفقا في تجديد مفهوم هذه الوقاية و لم يحسم بين مفهومي الوقاية و الصعوبات؛ فالمنطق يقتضي أن تنصب الوقاية على مقاولة سليمة يتوقع أن تعترضها صعوبات آجلا، أما إذا تعرضت المقاولة لصعوبات فإنها تصبح في حاجة إلى المعالجة لا إلى الوقاية.

و نشير في هذا الصدد إلى أن التوجه الجديد للمشرع الفرنسي من خلال تعديل القانون التجاري الأخير الذي دخل حيز النفاذ سنة 2006 و الذي أشرك الدائنين في المحافظة على المقاولة، عبر نظام “المحافظة” والذي مؤداه أن المقاولة بمجرد ما تتوقع أن تغير الظروف الاقتصادية من شأنه أن يجعلها تتعرض لصعوبات في المستقبل يمكنها أن تستدعي الدائنين للتفاوض معهم حول السبل الكفيلة بتمكين المقاولة من تجاوز التأثيرات السلبية للتغييرات المذكورة التي قد تؤثر على الوضعية المالية للمقاولة مستقبلا، و ذلك عوض انتظار تعرض المقاولة لصعوبات و اللجوء عندها إلى تسويتها أو تصفيتها؛ و هذا التوجه يتماشى مع المفهوم الذي يعطيه المشرع الفرنسي للدائنين.

ومن بين التحولات في المفاهيم في هذا المضمار أن القضاء التجاري لم يعد يقتصر دوره على الفصل في النزاعات المعروضة عليه بل تعداه إلى التدخل لما فيه مصلحة الاقتصاد الوطني من خلال العمل على وقاية و علاج المقاولة التي تشكل نواة هذا الاقتصاد [6]، و هو ما يمكن اعتباره ضمانة كبرى لحسن سير هذه المساطر بالمقارنة مع ما إذا أسندت إلى جهة أخرى غير القضاء. إلا أن السؤال الذي يطرح هنا هو هل تسمح كثرة المهام الموكولة بالقضاة بالقيام بمهمة تشخيص الوضعية الحقيقية للمقاولة و بالتالي تقرير الحل الأنسب لوضعها؟ و هل يسمح التكوين القانوني المحض الذي يتلقاه القضاة بالوقوف على الوضعية المالية و الاقتصادية للمقاولة؟

كما أن المشرع مكن المحكمة من وضع يدها تلقائيا و الحكم بفتح المسطرة، و هو ما يشكل تحولا يتضمن ضربا لمبدأ، معروف في قانون المسطرة المدنية، يقضي بأن المحكمة لا تبت إلا بناء عن طلب. [7]

و إذا كان المنطق القانوني يقتضي أن لا تضع المحكمة يدها تلقائيا فتقضي بإحدى المسطرتين حتى لا تكون المحكمة خصما و حكما في نفس الوقت، فإنه يمكن مع ذلك القول بأن مبرر تخويل المحكمة هذه المكنة يجد أساسه في كون القضاء أصبح، علاوة على الفصل في المنازعات، يتدخل من أجل حماية و علاج المقاولة باعتبارها نواة الاقتصاد الوطني.

هذا، و إذا كانت الموضوعية تدعونا إلى القول بأن المشرع المغربي تحول من نظام الإفلاس إلى نظام المعالجة متوخيا الحفاظ على المقاولة، فإن الموضوعية ذاتها تجعلنا نتساءل عن مدى نجاح المشرع من خلال هذه التحولات في المحافظة على المقاولة؟

الواقع أن السنين التي طبقت فيها مقتضيات الكتاب الخامس أبانت عن قصور نظام الوقاية من الصعوبات التي اعترضت المقاولة المغربية، و هو ما يمكن أن نستشفه من خلال إحصائيات أجريت في هذا الصدد، حيث تبين أنه من بين تسع حالات تم تحريك الوقاية بشأنها نجحت الوقاية في حالة واحدة فقط، بينما كان نصيب الحالات الثمانية هو فتح مسطرة المعالجة. [8]

ولعل السبب في ذلك يرجع إلى كون نظام الوقاية و المعالجة من الصعوبات التي تعترض المقاولات غير منسجم و لا مستوحى من الواقع الاقتصادي و الاجتماعي للمقاولة المغربية. فهل تم التفكير في بديل عن هذا النظام؟

و في ختام هذا المطلب نشير إلى أن من بين التحولات في محيط المقاولة، اتجاه هذه الأخيرة تحت تأثير الظروف الاقتصادية إلى اللجوء إلى التحكيم التجاري خاصة الدولي منه عوض اللجوء إلى القضاء.وفي ظل التحكيم التجاري الدولي برز مفهوم جديد يتمثل في مبدأ انفصال بند التحكيم.

و هكذا وبعد أن كان التحكيم التجاري الدولي في مرحلته الأولى تميز بتبعية بند التحكيم للعقد الأصلي الذي يرد فيه، وهو ما نتج عنه انعكاس صحة العقد الأصلي أو بطلانه على بند التحكيم وجودا و عدما، و انعكس كذلك على سلطات المحكمين، بحيث يحرمون من النظر في الادعاء ببطلان العقد على اعتبار أن المحكم لا يمكنه الفصل في صحة عقد هو مصدر سلطته. [9] على أن تبعية بند التحكيم سيتم التراجع عنها بشكل تدريجي ليصبح بند التحكيم مستقلا عن العقد الذي يرد فيه، ويخول المحكم تبعا لذلك الحق في النظر في النزاعات المتعلقة ببطلان العقد الأصلي لأنه لا يستمد ولايته منه، و إنما من اتفاق التحكيم المستقل عنه تأسيسا على أن اتفاق التحكيم و إن أدرج في العقد، فإنه يبقى واردا على موضوع غير موضوع العقد.
الإطار القانوني للمفاهميم الاقتصادية
________________________________
17نشير هنا إلى أن نظام الإفلاس قد تطور بدوره عبر مراحل تاريخية اختلفت معها النظرة إلى المدين المفلس أو العاجز عن أداء ديونه؛ فبعدما كان القانون الروماني يجيز للدائن ملاحقة و متابعة مدينه و حبسه و التشهير به بل وتقطيعه أشلاء، تطورت هذه النظرة إلى المدين مع مدونة نابليون التي جاءت بمبدأ الفصل بين الإنسان و المقاولة، ليأتي بعد ذلك القانون الفرنسي لسنة 1985 بنظام جديد خاص بالتسوية و التصفية القضائية للمقاولات و الذي اعتمد كأساس له اعتبارات اقتصادية بعدما تبت فشل الاعتبارات القانونية في معالجة الصعوبات التي تعترض المقاولات،و من هذا النظام الفرنسي تم اقتباس نظام صعوبات المقاولة المغربي.
18 حكم المحكمة التجارية بمراكش عدد 7/4/99 -ملف صعوبة المقاولة رقم 1/98 – منشور بمجلة المحاكم المغربية- لعدد السنة الصفحة
18 جاء في المادة 503 من مدونة التجارة “……يقفل الحساب أيضا بالوفاة أو انعدام الأهلية أو التسوية أو التصفية القضائية للزبون”
19 امحمد لفروجي- العقود البنكية بين مدونة التجارة و القانون البنكي- مطبعة النجاح الجديدة- الدار البيضاء- الطبعة الثانية 2001 – ص 149 .
20 نقلا عن أستاذنا امحمد لفروجي في إحدى محاضراته.
21 محمد كرام – محاضرات في مساطر صعوبات المقاولة – جامعة القاضي عياض كلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية مراكش – السنة الجامعية 2005-2006  – ص 40 .
23 جاء في الفصل 3 من قانون المسطرة المدنية مايلي “يتعين على المحكمة أن تبت في طلبات الأطراف و لا يسوغ لها أن تغير تلقائيا موضوع أو سبب هذه الطلبات…….”
24 لطيفة وراوي، سعاد عيساوي، سهام عمرني، أحمد الميلي- نظام الوقاية من صعوبات المقاولة-عرض في مادة المقاولات التجارية – جامعة محمد الأول كلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية – السنة الجامعية 2004-2005 – ص 11 .
25 أحمد الشيخ قاسم – دور التحكيم التجاري الدولي – مجلة المحاكم المغربية – العدد65 – يناير- أبريل 1992 – ص 11 .

قرأوا أيضا...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.