مفهوم الوقف و أحكامه : أركانه و شروطه

مفهوم الوقف وأحكامه : أركانه وشروطه – الفصل الأول:
لابد لنا قبل أن نتكلم عن الدور التنموي للمؤسسة الوقفية من أن نتعرف أولا على طبيعة الوقف ومفهومه والأصول التي يعتمد عليها، وما ذكره الفقهاء والمجتهدون حول أركانه والشروط المرتبطة بتلك الأركان، وقد اقتضى ذلك أن يوزع هذا الفصل إلى المباحث التالية:

المبحث الأول: مفهوم الوقف ومشروعيته.
المبحث الثاني: أركان الوقف وشروطه.
المبحث الثالث: أنواع الوقف
المبحث الرابع: أهم التصرفات التي تجري على الوقف.

المبحث الأول: مفهوم الوقف ومشروعيته

المطلب الأول: مفهوم الوقف
أولا: الوقف لغة:
الحبس والمنع، وهو مصدر وقف وقفا، ومنه قوله: وقفت الدار: حبستها في سبيل الله، والجمع أوقاف، ويقال للموقوف: (وقف)، من باب إطلاق المصدر وإدارة اسم المفعول، ولذا جمع على الأوقاف، كوقف وأوقاف( ).
ومنه قوله سبحانه وتعالى: وقفوهم إنهم مسئولون ( ) أي حبسوهم عن السير.
وفي الحديث : “ذلك حبيس في سبيل الله” أي موقوف على الغزاة يركبونه في الجهاد، والحبيس فعيل بمعنى، وكل ما حبس بوجه من الوجوه حبس( ).

ثانيا: الوقف في الاصطلاح الشرعي:
وردت تعريفات كثيرة ومتعددة للوقف عند الفقهاء فقد عرفه أو حنيفة بأنه “حبس العين على ملك الواقف والتصدق بمنفعتها على جهة من جهات البر في الحال أو المآل”.
وقد عرفه بعض الفقهاء الشافعية بأنه حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه على مصرف مباح.
وعرفه بعض فقهاء الحنابلة بأنه تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة والواقع أن مجموع هذه التعريفات وغيرها من تعريفات الفقهاء الآخرين، لا تخرج بعيدا عن المفهوم اللغوي الذي يفيد احتباس العين ومنع التصرف فيها من قبيل المالك أو الواقف، ومن قبل الموقوف عليه، بذاتها وإنما له الحق في الاستفادة من منفعتها وثمرتها.

أما الاختلافات التي نراها في تعريفاتهم، فإنها مرد ذلك كله إلى شكل التكييف الفقهي الذي اعتمده كل واحد منهم، من حيث الأركان والشروط التي وضعوها للوقف.
ولابد من الإشارة إلى أن تعريف الحنابلة أقرب التعريف إلى التصور الشرعي الإسلامي، وذلك لأنه اقتباس من حديث رسول الله  عندما قال لسيدنا عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: “أحسن أصلها وسيل ثمرتها” ( ) ولاشك أن رسول الله هو أعرف الناس بأحكام الشرع وحقيقتها.
كما أن تعريف الحنابلة خاص بذكر جوهر الوقف وإظهار حقيقته دون التطرق إلى أمور أخرى وجزئيات تكميلية تخص ملكية العين، الأمر الذي يجعل هذا التعريف قاسما مشتركا بين جميع المذاهب الفقهية والآراء الاجتهادية.

المطلب الثاني: مشروعية الوقف وحكمته
ذهب جمهور الفقهاء إلى مشروعية الوقف وجوازه، وأن أصل مشروعيته ثابتة في الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم ( ).
روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك قال: “كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة نخلا، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء( ) وهي الأرض الظاهرة وهي حديقة مشهورة، وكانت مستقبلة المسجد وكان رسول الله  يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلما أنزلت الآية: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون قام أبو طلحة وقال: أي رسول الله إن الله يقول لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وإن أحب أموالي إلى بيرحاء، وإنها صدقة الله، أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها أي رسول الله حيث أراك الله ( ).
أما السنة النبوية، فقد وردت عدة أحاديث تفيد مشروعية الوقف منها: ما رواه( ) أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي  قال: “إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية أو علم ينفع به، أو ولد صالح يدعو له”
وقد قال العلماء من شراح الحديث أن الصدقة الجارية محمولة على الوقف ، لأنها مما ينقطع أجرها بعد الموت، ولا يكون ذلك إلا عن طريق الوقف لأنه يعني حبس السلعة والاستفادة من منفعتها.
كما أن هناك حديث آخر يفيد مشروعية الوقف، والمتمثل في ما ورد عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: “قدم النبي  المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة فقال: “من يشتري بئر رومة، فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين بخير به منها في الجنة، فاشتريتها من صلب مالي” ( )، ويعني هذا الحديث أن عثمان رضي الله عنه اشترى البئر وأشرك فيها المسلمين ، يعني جعلها وقفا، مما يؤكد مشروعة الوقف وحث النبي  عليه.
وهناك حديث آخر يؤكد ذلك هو ما جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: لما قدم رسول الله  المدينة أمر بالمسجد، وقال: “يا بني النجار، ثامنوني حائطكم هذا، فقالوا، لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله” أي لا نطلب ثمنه من أحد لكن هو مصروف إلى الله( ) وقد روى البيهقي( ) أن عددا كبيرا من صحابة رسول الله  تصدقوا بدورهم ومساكنهم واعتبروها وقفا من بعدهم، ومنهم أبي بكر رضي الله عنه أنه تصدق بداره بمكة على ولده وأن الزبير جعل دوره صدقة، وغير ذلك كثير.
أما حكمة مشروعية الوقف فإنها تتضح لنا من خلال الصور الوقفية آنفة الذكر، والتي نحبها مبنية على جلب المصالح للعباد، ودفع المفاسد عنهم، لأن الوقف ما هو إلا من جملة المصالح والطاعات التي رغبت الشريعة بفعلها وحثت على القيام بها، ويمكن لنا أن نحدد حكمة الوقف وأهدافه بالأمور التالية:
1-تحقيق الأمن الغذائي للمجتمع المسلم، ويتضح هذا الجانب في وقف أبلي طلحة رضي الله عنه حديقته والبئر الذي فيها، وكذلك في وقف عثمان بن عفان رضي الله عنه بئر رومة بعد شرائه من أصحابه وجعله صدقة عامة على المسلمين.
2-إعداد القوة، وتهيئة الأمة للوقوف بوجه الأعداء والدفاع عن دينها وعقيدتها ويتضح هذا من خلال رواية أبي هريرة عن خالد بن الوليد الذي أوقف أدراعه واعتاده للأمة من بعده، للاستعانة بها في سبيل الله، ومن أجل إعلاء كلمته.
3-توفير المساكن لأفراد المجتمع الإسلامي: ويتضح هذا من خلال أوقاف مجموعة كبيرة من الصحابة رضي الله عنهم التي كانت مختصة بوقف دور ومساكن للمسلمين أو للذرية من بعدهم.
4-الاهتمام بالمساجد التي كانت مركزا للعبادة، ومعهدا للعلم، ومنبرا للمعرفة والثقافة، مما يجعل المؤسسة واحد من المؤسسات الوقفية واحدة من المؤسسات التي تسعى لتعليم الفرد المسلم وتثقيفه، ويتضح هذا من خلال وقف بني النجار حائطهم ليضم مساحة المسجد وأرضه.
5-بث روح التعاون والتكافل بين أبناء المجتمع الإسلامي، للقيام باحتياجات الآخرين، وتلبية ضرورياتهم، على أساس أن أفراد المجتمع الإسلامي كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.
وهكذا يتضح لنا أن المؤسسة الوقفية في الإسلام ميزة خاصة تميزها عن غيرها من صور الإنفاق الأخرى، فقد شرعه الإسلام لمصالح لا توجد في سائر الصدقات، لأن الإنسان ربما يصرف في سبيل الله مالا كثيرا ثم يفتى فيحتاج الفقراء مرة أخرى، كما أنه تجئ أقوام أخرى من الفقراء فيبقون محرومين، فلا يوجد أنفع ولا أفضل لعموم المسلمين من أن يحبس لأصحاب الحاجات منهم شيئا يبقى أصله وتصرف عليهم منافعه، ومن هنا يعتبر الوقف مصدرا منظما ودوريا غير منقطع يعمل باستمرار على تمويل وتحقيق الأهداف التي ذكرنا قسما منها، مما جعله يحتل مكانة متميزة بين سائر أوجه الصدقات والإنفاق الأخرى، ولا يمكن الاستغناء عنه لتحقيق النصرة والتعاون بين أفراد المسلمين. ومما تقدم يتبين أن الوقف من أعظم القربات وحكمه الندب لقوله تعالى: وافعلوا الخير لعلكم تفلحون ( ).
الوقف ودوره في تنمية المجتمع

قرأوا أيضا...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.