التطورات التاريخية لنظام الخسارات البحرية المشتركة

نظام الخسارة البحرية المشتركة
الفصل الأول : التطورات التاريخية لنظام الخسارة المشتركة وأسسها القانونية

يرجع فقهاء اللغة لفظ العوارية أو الخسارة إلى تعبير ايطالي هو Avera والذي تطور إلى مصطلحي Avaria و Averia واللذان ظهرا في القواميس الايطالية منذ عام 1341، ليعطوا دلالة على خسائر أو نفقات تنفق في سبيل السلامة العامة. ويرى عديد من المحللين أن هذه الألفاظ يمكن إرجاعها إلي لفظ “عوارية “العربي والمشتق من لفظ “عوار” بمعناه خسارة.ولم يستخدم لفظ” عوارية Average في القانون الانجليزي الا منذ عام 1799، ثم انتقل بعد ذلك الى بعض التشريعات . غير انه لا ينبغي الفهم من هذا التحليل ان تاريخ المصطلح هو تاريخ نظام الخسارات المشتركة، بل إن نظام الخسارات المشتركة هو نظام ضارب في القدم . فبالنسبة “لروبير” Ripert ، فان نظرية الخسارة هي نظرية تدخل ضمن مجموعة القواعد القانونية القديمة. إذ يقول انه” إذا كان الأصل الحقيقي للخسارة المشتركة غير معروف لدينا بشكل دقيق، فاننا نجد على القل، أو كليا أثارها في التشريعات القديمة. ويبدو أنها كانت مرتبطة بكل الشعوب الرائدة التي و صلت الى درجة معينة من الحضارة والتقدم . وتاسيسا علي قول ريبيير Ripert يظهر أن المؤسسة الأصلية للخسارات المشتركة قد مرت بالعديد من العصور التي تأسس في مجموعها تاريخيا . وعلي طول هذه الدراسة التي ستهم التطورات التاريخية والاساس القانوني للخسارات المشتركة سنصل الى ان العصور القديمة المتعاقبة قد لعبت دورا حاسما في الدفع بالخسارة المشتركة الى الوجود. وسنعمل اولا في اطار هذا الفصل على دراسة وبشكل تدريجى ولادة وتطور نظام الخسارات المشتركة الى غاية تقنينها في القوانين البحرية المعاصرة(الفرع الاول).لكي نهتم بعد ذلك بدراسة تقنينها الدولي(الفرع الثاني).

الفرع الاول: التطورات التاريخية لنظام الخسارات المشتركة.

يذهب بعض الباحثين وهو CEDRIC DUSSERRE إلى حد الجزم أن نظرية الخسارات المشتركة ترجع الى العصور القديمة. ذلك انها لم تقنن من طرف الرومان الا ابتداءا من القرن السابع من خلال القانون الروديني. كما ذهب نفس الباحث الى القول بما لا يدع مجالا للشك على ان اصول الخسارة المشتركة تعود إلى تاريخ جد قديم، بدون شك إلى الفترة البعيدة عن الملاحة البحرية، وهي فترة الفينيقين. والقانون الفينيقي معروف بشكل غير مباشر ب”Mishna” “”تلمود القدس” وتطبيقه يعود الى فترة محددة بين500 و1200 قبل خيسوس كريس Jésuse christ.
ومن اجل دراسة التطورات التاريخية التي شهدها نظام الخسارة المشتركة سنتطرق في مبحث أول لدراسة أصل هذا النظام في العصور القديمة، وسنعالج في مطلب أول تطبيق هذا النظام في القانون اليوناني والروماني، ثم نعالج في مطلب ثاني تطبيق هذا النظام طيلة العصر الوسيط، وتحديدا من خلال دراستنا لقواعد اوليرول، وقنصلية البحر. بعد ذلك نتطرق لدراسة التطورات التي شهدها نظام الخسارة المشتركة خلال العصر الحديث في مبحث ثاني ، وسنركز من خلال ذلك على دراسة المخطط الدولي في مطلب أ ول، و المخطط الاصلاحي في مطلب ثاني.

المبحث الأول: الخسارة المشتركة في العصور القديمة.
المطـلب الاول: القانون اليوناني والقانون الروماني : قـانون رودس.
بالرغم من ان الرومان كانوا يعتبرون ان التجارة مهنة وضعية لا تليق الا بالعبيد والشعوب المتخلفة، الا ان القانون الروماني اشتمل على بعض النصوص الخاصة بالخسارة المشتركة في مدونة الامبراطور جستنيان، كماتناول عدد من الفقهاء الرومان نظام الخسارة المشتركة بالشرح والتحليل. وكان اهمهم: seruis و ojiluis و labeo .
ويعتبر قانون رودس الذى ظهر عند الرومان اول مصدر تاريخي مدون منظم للخسارة المشتركة. وقد كانت الفكرة الاساسية لنظام العوارية العامة تحت هذا القانون هى “الرمي في البحر”. وسمي :”قانون رودس الخاص بالرمي في البحر”. Les Rhodia de jactu. و قذ اخذ الرومان هذا التطبيق عن الملا حين الرودينيين. وحسب هذا القانون، فالمجهز والمالكين للبضاعة يجب عليهم ان يشاركوا في تحمل الخسارات التي تنجم عن الرحلة البحرية.
بواسطة هذه القاعدة المكرسة لمبدا العدل و الانصاف ادرك الرومان وسيلة منطقية لانقاذ السفينة المهددة بالخطر: رمي البضاعة في البحر.
و في اطار قانون رود س ، عندما تكون السفينة ملتزمةاتجاه عدد من التجار، اي عند ما يقوم هؤلاء التجار بشحن السفينة، ووقع خلال الرحلة البحرية تعرض السفينة لعاصفة بحرية مهددة بالهلا ك، فان الربان بامكانه ان يامر برمي جزء اوكل البضاعة في البحر اتقاء لهذه الواقعة الخاصة. والخسارة في هذه الحالة لا يتحملها التاجر المالك للبضاعة المفداة لوحده ، ولكن يتحملها مجموع التجار المنضوين تحت الالتزام .
ولقد عرفت التشريعات القديمة الرمي في البحر كشكل من اشكال الخسارة المشتركة، نظرا لكونه يعتبر الحالة الاكثر تواترا. وليس باعتباره الشكل الوحيد للخسارة المشتركة.
ولكي يتسنى إدخال ضرر ضمن الخسارة المشتركة، يشترط قانون رود س مجموعة من الشروط ، والتي مايزال مفعولها ساريا في القوانين البحرية المعاصرة. هذه الشروط تتجلى فيما يلي:
 يجب ا ن تكون التضحية ضرورية ولا مناص منها.
 يجب ا ن يحصل الضرر للغير اثر هذه التضحية.
 يجب ا ن تتوفر علاقة سببية بين الخطر المهدد والضرر الحاصل للغير.
 يجب ا ن تهدف التضحية تحقيق السلامة العامة.
إن القانون الروماني، ومن خلال قانون رو دس لم يعطي الحق للشخص الذي تمتد التضحية ببضاعته في الرجوع مباشرة على الشخص او مجموع الاشخاص الذين استفادوا من هذه التضحية من اجل السلامة العامة. وفي المقابل اعطى له الحق في الرجوع مباشرة على الشخص الذي قام بارادته الحرة برمي البضاعة في البحار. أو إلحاق الضرر بهذه الاخيرة. فالربان وحده صاحب الحق في القيام بهذا الفعل، و بطلب المشاركة . وبتعبير آخر ، فقد اعطى قانون رود س مالك البضاعة التي القيت في البحر دعوى على الربان الذي قام بالقائها للمطالبة بالتعويض عما اصابه من ضرر ، واعطى الربان دعوى اخرى على الشاحنين للمطالبة بقيمة ما افادوه من جراء التضحية.
يظهر جليا، وبشكل لا يدع مجال للنزاع ان القانون الروماني ، هو المنبع الذي استسقى منه قانون الخسارات المشتركة. ولكن ما يلاحظ في هذا الخصوص هوان القواعد التي سنها قانون رود س لا تقدر الا بعض الحالات الخاصة ، واغفلت الحديث عن المصلحة المشتركة التي تتشكل على الهامش عندما، مثلا، تكون بضاعة قد رميت في البحر.
المـطـلب الثـانـي: العصر الـوسيط.
اتسمت العصور الوسطى (200ق م-1200م) بتطور العديد من الأنظمة البحرية وخاصة بعد حركة الكشوف الجغرافية، وظهور النظام الرأسمالي، وسقوط النظام الإقطاعي، وقد انتقل نظام العوارية العامة من العصور القديمة إلى العصر الوسيط بنفس منطقه وجوهره، إلا انه أصبح أكثر شيوعا واستقرارا من ذي قبل. فقد اخذ قانون رودس وجهة التطبيق في الحوض الشرقي للبحر المتوسط أبان الإمبراطورية البيزنطية. ثم انتقل بعد ذلك إلى عادات الحوض الغربي للبحر الأبيض المتوسط. كما اتسع مفهوم الخسارة المشتركة ليشمل العديد من المواقف التي اقتضتها طبيعة الملاحة البحرية آنذاك.
ولقد كانت المصلحة المشتركة هي الفكرة الغالبة في الملاحة البحرية للعصر الوسيط . ففي فترة من الفترات التي أدرك فيها المشاركون في الرحلة البحرية مدى أهمية الاتحاد ضد الأخطار التي تواجه الملاحة البحرية، قاموا بتطوير نوع من الشراكة المحدودة في السفينة الواحدة والرحلة الواحدة، بهدف توحيد السفينة و الحمولة في شكل تضامن يغطي كل النفقات الطارئة المرتبطة بإنقاذ السفينة وحمولتها .
و بالإضافة إلى العوامل الاقتصادية التي حفزت نمو هذا النظام، كان هناك تطور في تنظير نظام الخسارة المشتركة، انتهى بوضع قواعد مستقرة له، وقد تجسد ذلك من خلال إرساء قواعد اوليرون، وقنصلية البحر.
الـفـقـرة الأولـى: قواعد اوليرون
لقد تناولت الدول الأوربية خلال العصر الوسيط نظام العوارية العامة بالتنظيم و التدقيق. و مع التقدم في أنظمة النقل البحري أصبحت الخسارة المشتركة عنصرا هاما في جميع المجموعات القانونية الصادرة بعد القرن الثالث عشر. وقد شكلت قواعد اوليرون أهم هذه المجموعات القانونية.
تعتبر قواعد اوليرون بمثابة مجموع العادات والأعراف البحرية التي كانت سائدة خلال العصر الوسيط. وتوجد أقدم المخطوطات التي عرفت عن هذه القواعد في مدينة أكسفورد، ولندن، وترجع لعام 1266. وتشمل هذه المخطوطات خمس و ثلاثين مادة. الخمس وعشرين الأولى يبدو أنها ترجع للنصف الأول من القرن الثاني عشر، وهذا يعني أنها كانت معاصرة لمملكة اولينور Alienor. ثمانية مواد أخرى من نفس المصدر، وتتعلق بنفس الموضوع قام رتشارد الأول بإضافتها بعد ذلك بعدة سنوات .
وتجد ر الإشارة إلى أن مصدر هذه القواعد قد أثار خلافا حادا بين المؤرخين. فرغم أنها تعرف باسم قواعد اوليرون الا انه لم تذكر جزيرة اوليرون في أي مادة من موادها. هذا بالإضافة إلى الخلاف القائم حول عدد نصوص هذه القواعد. إذ هناك من الباحثين من ذهب إلى القول أن قواعد اوليرون كانت تضم ستة وستين مادة وليس خمس وثلاثين مادة كما سبق القول. وهذا هو رأي الباحث الفرنسي CEDRIC DUSSERRE.
وبغض النظر عن الخلاف الفقهي الذي أثير بهذا الخصوص، فقد جاءت أحكام اوليرون بقاعدة جديدة في مجال الخسارة المشتركة لم تكن معروفة من قبل في قانون رود س. فالمادة الثامنة من قواعد اوليرون تبنت نظرية السفينة التي تواجهها بشكل فجائي عاصفة بحرية والتي بسبها يبقى الرمي في البحر هو الحل الأخير لإنقاذ السفينة و حمولتها. غير انه يجب قبل القيام بالرمي، أو التضحية ببعض أجزاء السفينة تخفيفا لحمولتها، وتمكينا لها من تفادي الخطر و متابعة الرحلة اخذ موافقة الشاحنين، والذين يجب أن يتواجدوا على ظهر السفينة. فإذا كانوا غائبين، أو رفض بعضهم القيام بالتضحية، جاز للربان أن يتصرف بعد اخذ رأي الملاحين. على أن التضحية لا مناص منها .
و يبدو بشكل واضح انه إذا كانت بعض المصالح المرتبطة بالحمولة لا تخضع لهذا الحل المتمثل في الرمي في البحر، فانه ليس من حقها أن تعترض على هذا الرمي، بشرط” أن يكون هو وثلاثة أشخاص المجموعة قد اقسموا بالإنجيل المقدس على أن فعل الرمي قد تم بهدف إنقاذ السفينة، وما تبقى من الحمولة”
من خلال ما تقدم تحليله ، يبدو انه لا طائلة من المصلحة بالنسبة للشاحنين مع بضاعتهم. إذ في حالة التضحية الاختيارية لإنقاذ الرحلة، يكون قبول الخسارة المشتركة بالنسبة للشاحنين مجردا من أية قيمة . فالتجار لا يناقشون حالة الضرورة، وهذا ما يجعلهم في موقع سلبي. حيث لا يتمتعون إلا بحق إعطاء رأي استشاري غير ملزم للربان. هذا بالإضافة إلى أن ” ثلاثة أشخاص المجموعة” هم حسب التعريف: الأشخاص المرتبطين، والمرؤوسين من طرف الربان. و هذا ما يجعل رأيهم بخصوص التضحية ذا صبغة شكلية فقط.
يتضح إذن من خلال ما تقدم أن فكرة المصلحة المشتركة التي قال بها Ripert لم تجد مكانها داخل هذا التطبيق، بما أن قواعد اوليرون تبرر هذه المشاركة بحالة الضرورة أكثر بما تبررها بضرورة الإنصاف والمساواة داخل المجموعة.
الـفـقـرة الثـانـيـة: قـنـصـلـيـة الـبـحـر.
تعتبر قنصلية البحر أهم مجموعات القوانين البحرية للعصور الوسطى، ذلك أنها أوردت أحكامها مفصلة عن الرمي في البحر. و لقد كان هذا الاستعمال الجامع للعادات و الأعراف البحرية مطبقا على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط، وخارجه أيضا.و كان بمثابة قانون عرفي عام. لكن الأستاذ M. Ashburner، وبدون أن يعارض أهمية هذه العادات والأعراف، صرح قائلا بان”تنظيمات هذا الكتاب ليست بالنسبة لفئة عريضة من المهتمين بالشؤون البحرية، اقل من آراء أو إيحاءات بارعة لفقهاء تلك المرحلة. ومع ذلك لم تقبل أبدا في الممارسة، إذ لم يسبق لها أن طبقت من طرف المحاكم” .
إن قنصلية البحر عالجت تحديدا نوعين من أنواع الخسارات المشتركة باعتبارها أهم ما عرفته تلك المرحلة. و يتعلق الأمر بكل من الرمي و الجنوح الاختياري. وفي هذا الخصوص نصت على انه “إذا كان معظم التجار قد اتفقوا على الرمي، كان بالإمكان القيام بالرمي. وفي هذه الحالة الكل يشارك في الخسارة التي تنتج عن الفعل”.
و بتعبير آخر فقد أوجبت قنصلية البحر على الربان قبل القيام بهذا الإجراء المتعلق بالرمي أن يأخذ رأي الشاحنين الذين جرت العادة على سفرهم مع البضاعة في ذلك الوقت. فإذا واقف الشاحنون قام الربان بالرمي.
إن هذه الممارسة إنما تكشف عن شكل من أشكال وحدة المصلحة المشتركة. وإذا ما رجعنا إلى الرمي في البحر كنوع من أنواع الخسارات المشتركة، نجد الفصل 98 من قنصلية البحر ينص على أن الربان حينما يقوم بالرمي لتلك الأسباب السابقة ذكرها، يجب عليه أن يقوم بحفظ و صيانة البضائع السليمة و ألا يرجعها إلى مالكيها إلا إذا ساهموا في الخسارة وفقا لقيمة بضاعتهم التي تم إنقاذها عبر هذه التضحية. وهذا من اجل ألا يقوم مالكي البضاعة المفداة بمتابعة مالكي الأموال التي تم إنقاذها. الشيء الذي من شانه أن يؤكد ضرورة المساهمة في الخسارة.
هذا، و قد ثار جدل فقهي حول طبيعة قنصلية البحر، وتاريخها و مكان تحريها . فا فترض جانب من المؤرخين أن هذه الأخيرة هي عبارة عن تشريعات صادرة عن الحكام الاسبان. وهذا ما ذهب إليه الباحث الفرنسي CEDRIC DUSSERRE عندما قال بان التجارة البحرية كانت منظمة بواسطة مؤسسات عامة مثل قنصلية البحر، هذه الأخيرة أعلنت عدة قواعد كانت أهمها كتاب قنصلية البحر. وجانب آخر يفترض أن قنصلية البحر هي عبارة عن مؤلف خاص. أما في ما يتعلق بالمكان الذي حررت فيه، فالرأي الغالب يذهب إلى ا لقول بأنها حررت في برشلونة .
وتجدر الإشارة أن قنصلية البحر لم تعالج الخسارات المشتركة إلا من جانب التضحيات غير الاعتيادية التي تم القيام بها في سبيل حماية الرحلة البحرية، دون أن تقوم بمقاربة الشروط الأخرى كأصل الخطر و النتيجة المفيدة.
ولقد اخذ المالكون خلال القرنين السابع عشر، والثامن عشر يستغلون سفنهم في عملياتهم التجارية الخاصة. وظهر نتيجة ذلك فئة من الشاحنين أصبحوا اختصاصيين في استغلال هذه السفن بغض النظر عن كونهم مالكين لها أم لا، بهدف جلب منفعة خاصة من الرحلة البحرية. كما عرف هذين القرنين قيام بعض الدول كفرنسا، وانجلترا و إسبانيا بالزيادة في معدلات الإنتاج وذلك سعيا وراء ممارسة التجارة الدولية. ونتيجة ذلك لعب النقل البحري دور المكمل للتجارة البحرية ليصبح بعد ذلك عملية تجارية محضة. وقد ساهمت تلك العوامل السابقة في نضارة القانون المشاع في العصر الوسيط، ترجمت بظهور الأمر البحري، وبعده قانون التجارة الفرنسي، حيت قدرت كل دولة خلق وحدة القانون داخلها. بالنسبة للأمر البحري. فقد ظهر لأول مرة في فرنسا في غشت 1681 . وكان من ترتيب Colbert ومن إعداد لجان البحث المكلفة بجمع كل التطبيقات البحرية داخل كل ميناء والمستوحاة من التطبيقات القانونية القديمة. ويعتبر الأمر البحري ذلك المؤلف الذي يضم في جسم واحد جميع القواعد التي لها علاقة بالقانون البحري. وينقسم إلى جزئين: فالجزء الأول يقع تحت عنوان “الخسارات”.أما الجزء الثاني فيقع تحت عنوان “الرمي و المشاركة”. ويعتبر الفصل السادس، و الفصل الخامس عشر من أهم الفصول الواردة في الأمر البحري. فالفصل السادس يدرج كل خسارة قابلة للوقوع خلال الرحلة البحرية في مقام الخسارات المشتركة حيث ينص : »الأشياء المعطاة للقراصنة كفدية لاسترداد السفينة و البضاعة التي تم رميها في البحر، الحبال المقطوعة أو الصواري المهشمة والأمتعة المتروكة أو التي تم التنازل عنها لفائدة لسلامة المشتركة .
وكذا الأضرار التي ألحقت بالبضاعة الموجودة في السفينة بفعل الرمي، والضمادات والأطعمة الخاصة بالملاحين المصابين بجروح اثر الدفاع عن سلامة السفينة، وتكاليف التفريغ من اجل الدخول لميناء الملجأ هي خسارات كبرى أو مشتركة « . ووفقا لما ينص الفصل الخامس عشر فانه إذا كانت هذه التضحيات المشار إليها في الفصل السادس لم تفلح في إبعاد السفينة من الهلاك، فان البضائع التي تم إنقاذها لن تلتزم بالمساهمة في أداء قيمة البضاعة التي تمت التضحية بها .
أما بالنسبة للقانون التجاري الفرنسي والذي ظهر في فترة لاحقة، فانه اكتفى في مجال الخسارة المشتركة بإعادة إنتاج النصوص القديمة للأمر البحري. ولم يدخل عليها سوى تعديلات طفيفة. فمن جهة استمر العمل بالتقسيم الثنائي الذي ميز هذا الأخير بالرغم من غياب أي مبرر منطقي، لهذا التقسيم، إذ توجد خسارات لها أهمية كبيرة بالمقارنة مع الرمي في البحر ظهرت نتيجة التطورات التقنية التي عرفتها الملاحة البحرية في تلك الفترة. ومن جهة أخرى، وعلى منوال نصوص الأمر البحري، نجد الفصل 410 من القانون التجاري الفرنسي يلزم الربان على اخذ رأي التجار الموجودين على ظهر السفينة قبل القيام بالتضحية .
ولكي لا يكون القانون التجاري الفرنسي في مجموعه عبارة عن إعادة إنتاج الأمر البحري الذي اهترأت نصوصه، فان هذه الثورة التشريعية قادت عبر العصور إلى تبني قاعدة متفق عليها بالإجماع يتجلى مضمونها في انه: » في رحلة بحرية حينما تتم التضحية من اجل السلامة المشتركة، فانه يجب توزيع هذه التضحية بين كل المستفيدين منها دون تمييز بينهم « .
كخلاصة، فان الملاحة البحرية تحملت عبئ تأثيرات عصرنة غير مثمرة من ناحية نظام الخسارة المشتركة. ففي الوقت الذي شهدت فيه الخطوط المنظمة للتجارة البحرية و السفن والموانئ تطورات تقنية عظيمة، لم تشهد مؤسسة الخسارات المشتركة أي تطور في مضامينها. فتم الاقتصار فقط على وضع تعريف موجز لها. هذا في حين انه كان من الأجدر أن يم إرساء تنظيم دقيق وفعال لهذه المؤسسة العتيقة. وذلك بالاتفاق على وضع قانون خاص للخسارات المشتركة يوازي التطورات الذي شهدها ميدان التجارة البحرية، و الذي يلقى تجاوبا من لدن كل الدول البحرية.

المـبحـث الثـانـي: الخسارة المشتركة في العصر الحديث
عرفت نهاية القرن الثامن عشر وبداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر تطورات تقنية ملحوظة ، أحدثت تغيرات في بنية المجتمعات المصنعة بشكل عام وتغيرات في طرق الإنتاج بشكل خاص. هذه الفترة تعرف باسم “الثورة الصناعية الأولى.” ولقد تمثلت انعكاسات هذه الثورة الصناعية في الميدان البحري في ظهور الآلة البخارية والمروحة و استعمال الحديد في بناء السفن و الصواري على نطاق واسع مما كان من شانه أن ينعش التجارة البحرية عامة و تحسين ظروف الرحلة البحرية خاصة.
ففي الوقت الذي كانت فيه السفن الشراعية لا تستطيع ضبط تاريخ الرسو في الميناء نظرا لخضوعها الكلي لدرجة قوة الرياح، استطاعت السفن البخارية لما توفر لديها من التقنيات تحديد يوم رسوها داخل كل ميناء . وقد شهدت سنة 1819 حدثا عظيما في مجال الرحلات البحرية تمثل في عبور أول مركب بخاري Le Savannah للمحيط الأطلسي.
و بالنظر إلى أن القوانين البحرية القديمة لم تستطع مجاراة المشاكل الجديدة التي أفرزتها تلك التطورات التقنية للملاحة البحرية فقد أصبح التفكير في إرساء قانون دولي للخسارات المشتركة أمرا لاغنا عنه. ومن اجل ذلك شهدت سنة 1877 اجتماع كل الأطراف العارفة بشؤون الملاحة البحرية في محاولة للاتفاق حول إرساء اثنا عشرة(12) قاعدة قابلة للتطبيق في مجال الخسارة المشتركة هذه القواعد أخذت اسم قواعد يورك وانفرس*. واليها يرجع الفضل في توحيد مقتضات القانون البحري الدولي .
وفي سنوات1890،1924،1950،1994،2004، ستعرف هذه القواعد وبشكل دوري العديد من التعديلات استهدفت تنقيح و تدقيق مضامينها وأحكامها. غير أن ما يتضح لنا من خلال ما سيأتي تحليله أن قواعد يورك وانفرس عبر سيرورتها التاريخية لم يسبق لها أن شكلت مرجعا حقيقيا يمكن التأسيس عليه لوضع قانون قوي للخسارات المشتركة.

المـطـلب الأول: المخطط الدولي
تختلف التشريعات البحرية في تنظيم الخسارة المشتركة اختلافا يثير كثيرا من التنازع بينها، لاسيما وان الشاحنين يكونون في العادة من جنسيات مختلفة. وقد سار القضاء في معظم الدول على تطبيق قانون ميناء التفريغ النهائي، أي قانون آخر ميناء في نهاية الرحلة البحرية بوصفه القانون الذي يحكم تنفيذ عقد النقل، ودعوى المساهمة في الخسارة المشتركة إنما تتعلق بهذا التنفيذ .
ونتيجة هذا التنازع ظهرت الحاجة ملحة إلى توحيد الممارسات الخاصة بالعوارية العامة . وقد بدأت الدعوى إلى هذا التوحيد من خلال خطاب وجهته المنظمة القومية للعلوم الاجتماعية إلى الدول البحرية العريقة بتوقيع اللويدز Brougmane ، ورئيس هيئة اللويدز والمنظمة الانجليزية لملاك السفن عام 1860. وقد كان فحوى هذا الخطاب يدعو إلى عمل مشترك لتوحيد قواعد الخسارة المشتركة. وكانت النتيجة المباشرة لذلك ، اندلاع شرارة توحيد قواعد العوارية العامة .
ولتحقيق هذه المهمة عقدت جمعية القانون الدولي مؤتمرا في مدينة “يورك” سنة1863. وآخر في “انفرس” سنة 1877 انتهيا بوضع” قواعد يورك و انفرس الخاصة بالخسارات المشتركة . وووفق على هذه القواعد وعددها ثماني عشر(18) قاعدة مرقومة بالأرقام اللاتينية في مؤتمر “ليفربول” سنة 1890 . وبما أن قواعد يورك و انفرس لسنة 1890 لم تكن إلا حلولا لحالات خاصة -كما سيتضح في ما بعد- فانه تم استكمال هذا النقص في المؤتمر الذي عقد في “ستوكهولم”سنة1924، واحتفظ هذا المؤتمر بالاسم التقليدي للقواعد” قواعد يورك و انفرس”، غير انه اتبع بتاريخ السنة”سنة1924″.
وفي هذا المطلب سنتطرق لدراسة كل من : قواعد يورك و انفرس لسنة 1877و 1890.
الـفـقـرة الأولـى: قـواعـد يـورك و انفـرس لـسنـة 1877و 1890.
شكلت سنة1877 البداية الحقيقية لتوحيد قواعد الخسارة المشتركة. فالتطورات التي عرفتها التجارة البحرية خلال هذه الفترة و المجهودات التي بذلت من اجل توحيد قواعدها انتهت بإرساء ترسانة من القواعد القابلة للتطبيق في مادة العوارية العامة.
لأول مرة، وخلال مؤتمر”جلاسجو” Glasgow الذي انعقد بمدينة “جلاسجو” في 24 شتنبر1860، اقترحت المنظمة القومية للعلوم الاجتماعية إعداد تنظيم دولي للخسارة المشتركة، وكان ذلك بدعوة من مكتبي التامين ب”لفربول”، و الذي أوصى بأنه، تقوم الدولة بضمه إلى قوانينها الداخلية، وتطبيقها بين الأطراف المشاركة في الرحلة البحرية من خلال تضمينها أو الإشارة إليها في سندات الشحن و مشارطة الإيجار . لكن سرعان ما اصطدم بمعارضة شديدة من قبل مؤمني اللويدز الذين رفضوا إدخال أي تعديلات عن التطبيقات البحرية الانجليزية القديمة .
وبعد مؤتمر “جلاسجو” ، عقد مؤتمر آخر في مدينة “يورك” York الانجليزية في شتنبر 1864، كان الهدف من عقده ، تفادي أخطاء مؤتمر “جلاسجو”. واستقر الرأي فيه على استطلاع آراء الدول المشاركة ثم إعادة عقد مؤتمر آخر لبحث الموضوع في ضوء التقارير والبحوث المقدمة من الدول و المشاركين .
وقد انتهى مؤتمر “يورك” 1864 بإرساء إحدى عشرة (11) قاعدة أخذت اسم “قواعد يورك و انفرس”. غير أنها ووجهت هي الأخرى بعدم الاستجابة من طرف مؤمني اللويدز.
ضمن هذه القواعد الإحدى عشر(11) سنقف على ثلاثة منها فقط باعتبارها أثارت في تطبيقها الكثير من الجدل. ويتعلق الأمر بالقواعد رقم سبعة (7) ورقم ثمانية (8) و رقم تسعة (9). في البداية يتضح أن القاعدتين رقم سبعة (7) ورقم ثمانية (8) و اللتان تتعلقان بالمصاريف التي تتولد بفعل رسو السفينة في ميناء الملجأ لا تقومان بإدماج هذه المصاريف ضمن الخسارات المشتركة إلا بشرط ان تكون المصروفات التي تطلبها دخول هذا الميناء مقبولة أيضا كخسارة مشتركة. في حين أن القاعدة رقم تسعة(9) لا تقبل الأضرار التي تلحق بالبضاعة أثناء تفريغها في ميناء الالتجاء كخسارة مشتركة الا إذا كانت هذه الأضرار ناتجة عن فعل سفينة في حالة شدة أو ضرر .
و خلال المؤتمر الذي انعقد في”انفرس” سنة 1877، شهدت قواعد يورك و انفرس، بالرغم من المعارضة الشديدة لمؤمني اللويدز ، إضافة قاعدة أخرى ثم وضعها من طرف منظمة القانون الدولية International low association ، والتي أتت بأحكام ايجابية تخدم مصالح المجهزين. ليصبح بذلك مجموع هذه القواعد هو اثنا عشر(12) قاعدة. غير انه، خلال مؤتمر “ليفربول”الذي انعقد سنة 1890قامت منظمة القانون الدولية بتبني تنظيم جديد مشكل من ثماني عشرة (18) قاعدة أخذت اسم”قواعد يورك و انفرس”لسنة 1890 (2). وقد تمثل السبب الرئيسي الذي دفع إلى عقد هذا المؤتمر، في رغبة الدول البحرية في تجاوز تلك النزاعات التي أثارها تطبيق القواعد: رقم سبعة، ورقم ثمانية ورقم تسعة. وهذا ما تأتى بالفعل، ففي إطار قواعد 1890 تم استبدال القاعدتين رقم سبعة ورقم ثمانية واللتان تتعلقان بنفقات رسو السفينة في ميناء الالتجاء، والرهون و المؤن، والمنصوص عليها في قواعد 1877 بالقاعدتين: رقم عشرة(10) و رقم إحدى عشر(11). أما فيما يخص القاعدة رقم تسعة(9) فقد عرفت بدورها مجموعة من التعديلات مست مضمونها. حيث تجردت من عدد من الشروط كانت تحكم تطبيقها في السابق.
و رغم التعديلات، تبقى قواعد يورك و انفرس لسنة 1890 مجرد جسم بدون رأس و روح، ذلك أنها لا تشكل سوى سلسلة من الحلول لحالات خاصة، ولكونها أيضا لا تحمل أي تعريف للخسارة المشتركة، و لا تشمل أي مبدأ من مبادئها، مما جعل الباحث “دوسير” Crédic Dusserre يصفها ب”مجرد لائحة من وصفات الطبخ” Une liste de recettes de cusine . وفي نفس الاتجاه يضيف “ريبير” Ripert قائلا:”إذن فقد ابتعدنا كثيرا عن مشروع أولي يرتكز على إنشاء قانون كامل للخسارة المشتركة”.
الـفـقـرة الثـانـيـة: قـواعـد يـورك و انـفـرس لـسنـة 1924.
في سنة 1924 وخلال مؤتمر ستوكهولم، قامت منظمة القانون الدولية International low association بتبني قواعد جديدة ، هذه الأخيرة أخذت اسم المدينة التي احتضنت المؤتمر. غير انه في وقت لاحق أخذت هذه القواعد الاسم التقليدي الذي عرفت به منذ سنة 1864. وتم الاكتفاء بإضافة تاريخ يميزها عن قواعد 1980.
لقد قامت قواعد يورك و انفرس لسنة 1924 بوضع تعريف للخسارات المشتركة، كما تضمنت قاعد عامة خاصة بها. فبالإضافة إلى القواعد المرقمة بالأعداد الرومانية، وضعت ندوة ستوكهولم قواعد أخرى أشارت إليها بالحروف اللاتينية. و أصبحت هذه الأخيرة تتضمن نتيجة ذلك سبعة قواعد مشار إليها بالحروف الأبجدية من A إلى G ، بالإضافة إلى ثلاثة و عشرون(23) قاعدة مرقمة بالأعداد الرومانية من I إلى XXIII . فأما القواعد الأبجدية فتحمل في مضامينها تعريفا للخسارة المشتركة. أما القواعد المرقمة فقد وضعت مجموعة من المبادئ العامة القابلة للتطبيق في الحالات غير المشار إليها صراحة في القواعد الأبجدية .
و تجدر الإشارة إلى أن قواعد 1924 قد شهدت تطورا حقيقيا في مجال تطبيق الخسارة المشتركة. و يرجع ذلك بالأساس إلى الصرامة التي يعرفها تطبيق هذه القواعد من جهة أولى، والى كون هذه القواعد لا تقتصر على معالجة حالات خاصة كما هو الحال بالنسبة لقواعد 1890، بل قامت بوضع قواعد عامة من جهة ثانية.
وإذا كانت قواعد 1924 قد أتت بمبادئ عامة كانت تفتقرها تلك المنصوص عليها سنة 1890 فان ما يؤاخذ عليها هو افتقارها، خصوصا القواعد الأبجدية، لحلول ناجعة لحالات كانت كثيرا ما تثار في مجال الخسارات المشتركة. زيادة على عدم الدقة الذي يطبع هذه القواعد نتج عنه جدل فقهي حاد، فانقسم الفقه إثر ذلك إلى اتجاهين:
 الاتجاه الأول: يندرج ضمنه الفرنسيون وممثلي الدول ذات الأوصل اللاتينية، ويذهبون إلى أنه: لا نزاع حول هيمنة القواعد الأبجدية على القواعد المرقمة.
 الاتجاه الثاني: يمثله الانجلو ساكسوينين Los anglo-Saxons ويذهبون إلى القول أن القواعد الأبجدية ليس لها إلا دور إضافي يتمثل في معالجة المجالات التي لم تنص عليها القواعد المرقمة. هذه الأخيرة تبقى – حسب هذا الرأي- هي المهيمنة بشكل منطقي .
وفي هذا الإطار تبنى الباحث الفرنسي Crédic Dusserre رأي الفقيه “روديير”Rodier وذهب إلى القول أن الاتجاه الثاني هو الأقرب إلى الصواب، بدليل أن التقرير الذي يصاحب نص المشروع يعبر بشكل لا يدع مجالا للشك عن مضمون هذا الاتجاه .
وقد أثير التساؤل المتعلق بسر تفوق القواعد المرقمة عن تلك الدالة بالحروف عمليا في قضية السفينة”ماكيز” Le navire Makis . تتلخص وقائع هذه القضية في أن السفينة “ماكيز” تعرضت لحادثين متتالين، يتمثل الأول في تحطم سارية السفينة، أما الحادث الثاني فتمثل في خسارة لحقت مروحة هذه السفينة أثناء عملية الشحن. مما اجبر السفينة على التوقف داخل مينائين متتاليين للقيام بالإصلاحات اللازمة من اجل متابعة الرحلة البحرية. وعلى اعتبار أن الحادث غير المتوقع منصوص عليه ضمن قواعد يورك وانفرنس المرقمة لسنة 1924 ، فان المجهزين طالبوا بإدراج كل الأضرار الناجمة عن هذا الحادث ضمن الخسارة المشتركة .
غير انه بإعمال منطق المحاضرين الذي قاموا بإعداد قواعد 1924، فان المحكمة ستعتبر انه لا يكفي أن يكون الحادث الفجائي قد تم النص عليه داخل القواعد المرقمة لإعمال الخسارة المشتركة، بل يجب و بالضرورة أن تحترم تلك القواعد الأخرى المنصوص عليها بالحروف و القواعد الأبجدية، لكي يتسنى إدراج هذه الأضرار ضمن الخسارة المشتركة. و بالفعل فقد رفضت المحكمة طلب المجهزين يدافع انه لا وجود لأي خطر بمفهوم عبارة القاعدة A يبرر إعمال الخسارة المشتركة .
وبناءا عليه استنتج القضاة أن القواعد المرقمة ليست إلا قواعد إضافية، وان القواعد الأبجدية وحدها تضع معالم ومميزات الخسارة المشتركة، وتأسيسا عليه قدرت المحكمة أن الأضرار الناتجة خلال عمليات الشحن لا تدخل ضمن الخسارات المشتركة، ذلك أن هذه الأضرار لم تحدث بهدف حماية المالكين المتطوعين ضد خطرها. و خلافا للحكم الذي تبنته المحكمة، و تأييدا لما ذهب إليه الباحث الفرنسي Cédric Dusserre فانه باستقراء مضمون القاعدة(A) يتضح ان الخسارة التي لحقت بمروحة السفينة والت أجبرتها على التوقف تدخل فعلا ضمن الخسارات المشتركة.
الـمـطـلـب الثـانـي: المخطط الإصطلاحي
بعد فشل المخطط الدولي في نسخته الأولى، ولو جزئيا، في وضع تقنين محكم لنظام العوارية العامة، ظهرت محاولات جديدة من لدن الدول البحرية سعت إلى تفادي أخطاء التجربة الأولى، تجسدت في وضع قواعد يورك وانفرس 1950، و قواعد يورك وانفرس1974.
الـفـقـرة الأولـى: قـواعد يـورك وانـفـرس1950 .
نظرا للإشكاليات التي أثارها تطبيق نص 1924 في انجلترا، قامت اللجنة البحرية الدولية (C.M.I) خلال مؤتمرها العشرين المنعقد في “أمستردام” الهولندية سنة 1949 وبعد مناقشات طويلة، بمراجعة مضامين قواعد يورك وانفرس لسنة 1949، وأعلنت على أساس هذه المناقشات عن ميلاد قواعد يورك وانفرس 1950، والتي حضيت بالقبول من طرف منظمة القانون الدولية.

وقد كان إرساء هذه القواعد يتمثل في معالجة الإشكال المرتبط بتنازع أولوية التطبيق بين القواعد المرقمة و القواعد الأبجدية والذي كان قائما منذ إرساء قواعد 1924 .
غير أن التساؤل الذي لازال يفرض نفسه هو المتعلق بمعرفة الموقع الذي يحتله تطبيق القواعد منBإلى G ضمن المبادئ و الأحكام المنصوص عليها في القاعد المرقمة. للإجابة على هذا السؤال، يرى الأستاذ خوسي دومنجوراي José Domingoray أن القواعد من B إلى G تمثل مبادئ عامة قابلة للتطبيق في مادة الخسارة المشتركة وفي حالات خاصة منصوص عليها في القواعد المرقمة. إلا إذا كانت هذه الأخيرة تنص على خلاف ذلك. وقد تبنت الغرفة الفدرالية”بوينس ايرس” Bunos-Aires هذا الطرح، في احد أحكامها الصادرة في 10مارس 1964. فسبب ضرر لحق احد الآلات تعرضت السفينة “برانكس” Barranqueras لتوقف اضطراري في ميناء “كوريانتيس” Corientes، ثم قامت بعد ذلك بالقطر في “بوينس ايرس” وذلك نظرا للطابع التقني للإصلاحات التي تطلبتها هذه السفينة.
وحسب الفقرة (d) من القاعدة رقم عشرة فانه<<إذا كانت السفينة في حالة خسارة، داخل ميناء أو في أي مكان يمكن إصلاحها فيه، وإذا كان الهدف من القطر هو توفير النفقات بدل القيام بالإصلاحات، فان قيمة نفقات القطر تؤدى على حساب كل الذين تهمهم الرحلة البحرية>> غير أن النزاع لا يطرح بخصوص نفقات القطر بل يطرح معرفة ما إذا كانت أجور الطاقم المصاحب للسفينة طيلة فترة القطر تدخل ضمن الخسارات المشتركة أم لا حسب قواعد يورك وانفرس.
في هذا الإطار نجد القاعدة رقم إحدى عشر (11) تنص على مجموعة من المقتضيات، من أهمها المقتضى الذي ينص على إمكانية أداء أجور الطاقم طيلة فترات الرحلة البحرية. غير أن ما يلفت الانتباه هو غياب أي إشارة لحالة القطر ضمن قواعد 1950 المنصوص عليها بالحروف.
أمام هذا التناقض يحيلنا الجزء الثاني من القاعدة التفسيرية على ضرورة البحث عن قاعدة ملائمة ضمن القواعد الأبجدية لفك رموز هذا الإشكال. و في هذا الإطار يتضح أن القاعدة (f) هي الواجبة التطبيق. فهذه القاعدة تنص على أن »كل خسارة غير عادية ناتجة بفعل استبدالها بأخرى كانت تقبل كخسارة مشتركة فهي تعتبر خسارة مشتركة « .

« Toutes dépense extraordinaires engagé en substitution d’une autre qui aurait été admise en avaries commune sera considérée avarie commune ».

هذا في حين أن التغيرات الاقتصادية و التقنية التي شهدها ميدان الملاحة البحرية جعلت من قواعد يورك وانفرس لسنة 1950 قواعد متجاوزة في التطبيق، و ذلك ابتدءا من سنة 1974. مما فسح المجال لظهور جسد آخر من القواعد، اخذ اسم قواعد يورك وانفرس لسنة 1974.
الفـقـرة الثـانـيـة: قـواعـد يـورك وانـفـرس لـسـنـة 1974:
من اجل الرد على المطالب التي كانت تنادي بإعادة هيكلة مؤسسة الخسار ة المشتركة، ثم القيام بمراجعة قواعد يورك وانفرس لسنة 1950 بهدف تبسيطها و ترميمها على نحو يجعلها قادرة على مسايرة التطورات التقنية التي شهدتها التجارة البحرية
و بهدف بعث روح جديدة في قواعد يورك وانفرس 1950 بادرت منظمة الوحدة الدولية للتأمين البحري إلى تأسيس لجنة يعهد إليها بإعداد تقرير حول تبني قواعد جديدة في موضوع العوارية العامة. وقد كان هذا التقرير محط نقاشات عديدة في مدينة “روتردام” Rotterdam الانجليزية في أكتوبر 1970. وفي نفس السياق قامت الجمعية البريطانية للقانون البحري باحداث لجنة دولية عهد إليها سنة 1970 بتقديم طلب للقيام بدراسة المراجعة التي خضعت لها قواعد 1950 . وخلال مؤتمر”هامبورج” Hambourge الذي انعقد في ابريل سنة 1974 تم الاتفاق بالإجماع على تبني قواعد جديدة أطلق عليها اسم” قواعد يورك وانفرس1974″ .
و لقد تمثل مضمون المراجعة أساسا في تلك التعديلات التي مست القواعد المرقمة والتي تضمنت أحكاما مفصلة حول الأضرار التي تدخل ضمن الخسارات ا لمشتركة:
إطفاء الريق(القاعدة III)، قطع الحطام(القاعدةIV)، الجنوح الإرادي(القاعدةV)، الخسارة التي تصيب شراع السفينة(القاعدةVI)، الأضرار التي تصيب الآلات و المراجل(القاعدة VII)، نفقات الرسو في ميناء الالتجاء(القاعدةX و القاعدة XI )، تكاليف الإصلاحات(القاعدة XIII )، الخسارة الناتجة عن التضحية والقيم المساهمة (القاعدةXVI)، الفوائد على الخسارات المعتبرة خسارات مشتركة(القاعدةXXI)، حكم خاص بالأموال (القاعدةXX) .
وفي “باريس”سنة 1990 قامت اللجنة البحرية الدولية (C.M.I) بمراجعة القاعدة رقم بحجة تعديل قانون التأمين البحري الذي تم في اكتوبر1989.
وحسب ما ذهب إليه الباحث الفرنسي” كريديك دوسير” Crédic Desserre في معرض حديثة عن قواعد يورك وانفرس1974، فان المبدأ الذي يحكم الخسارات المشتركة في ظل قواعد 1974 يكمن في كون النفقات التي بذلت من اجل سلامة الرحلة البحرية يجب أن تحظى بتأييد الجماعة التي تم إنشائها عند بداية الرحلة البحرية: السفينة والبضاعة هذا في حين أن البيئة البحرية تمثل بدون شك مصلحة مشتركة لهذه الجماعة و بالتالي فان النفقات التي تتولد عن حماية هذه البيئة سوف تتحملها هذه المجموعة، هذا في حين أنها لن تقبل كخسارة مشتركة الأستاذ “برنتو” Parenthou يتحدث هنا عن”اختلاس الخسارة المشتركة”.

قرأوا أيضا...

فكرتين عن“التطورات التاريخية لنظام الخسارات البحرية المشتركة”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.