عدم قابلية النيابة العامة للتجريح

مفهوم قرينة البراءة لدى القضاء الجنائي
الفصل الأول : القضاء الواقف – النيابة العامة
المبحث الأول: مبادئ النيابة العامة
المطلب الأول: مبدأ وحدة جهاز النيابة العامة.
المطلب الثاني: عدم قابلية النيابة العامة للتجريح
سبق القول بأن لجنة واضعي المدونة تكونت أغلبها من قضاة النيابة العامة وهذا ما جعل هذه اللجنة تبالغ نوعا ما في حماية نفسها من الأغيار عن طريق تمتيع أنفسهم بحصانة مهمة جدا، وكذلك لكون المشرع وفي سياسته العامة يود تعزيز وتقوية مركز النيابة العامة في المجتمع لاعتبارات سياسية لا تخفى عن الجميع وتكمن هذه الحصانة في عدم قابلية أعضاء هذا الجهاز للتجريح وبالتالي عدم إمكانية إبعاد قاضي النيابة العامة عن ممارسة القضية أمام المحاكم وذلك بناءا على طلب المتهم في حالة تحقق وجود مصلحة مرتبطة بهذا القاضي بشكل مباشر أو غير مباشر مع الإشارة إلى ما يقتضيه هذا من مساس فادح بمبدأ البراءة المفترضة وهذا ما سنعمل على توضيحه من خلال الأسطر القليلة اللاحقة.

فقد نصت المادة 274 من قانون المسطرة الجنائية على أنه «لا يمكن تجريح قضاة النيابة العامة»، فاعتبارا لكون قاضي النيابة العامة في نهاية المطاف أنه إنسان لا يخلو أن يكون اجتماعيا بطبعه فقد تربطه علاقة أو صلة أو مصلحة مباشرة أو غير مباشرة بأفراد المجتمع الذي قد يقع أحدهم ضحية عمل إجرامي يعمد قاضي النيابة العامة إلى تولي القضية في حالة كونها ضمن اختصاصه المكاني والنوعي طبعا والقيام بصلاحياته وسلطاته حيث يمكنه وضع المتهم تحت الحراسة النظرية أو غيرها من الإجراءات المخولة له، وقد اعتمد واضعوا المدونة كمبرر لهذه الوضعية بأن قضاة النيابة العامة هم قضاة عادلون يتميزون بالنزاهة والحياد وكأننا بهؤلاء القضاة ملائكة تمشي على الأرض. وهذا الوضع يدل عن طريق المخالفة بأن قاضي الحكم لا يتميز بالنزاهة والحياد حيث نجد أن المادة 273 من قانون المسطرة الجنائية نصت على إمكانية تجريح قضاة الحكم في حالة ثبوت علاقة أو مصلحة تربطهم مع الضحايا أو على العكس من ذلك في حالة وجود علاقة بين القاضي والمتهم الماثل أمامه. ولا نغفل الإشارة إلى أن المشرع اعتبر أن قضاة الحكم لهم خصوصيات تميزهم عن قضاة النيابة العامة وهي أنهم يملكون سلطة الحكم مباشرة على المتهم وهذا ما دعا إلى إمكانية تجريحهم، إلا أن هذا القول مردود على أصحابه من خلال التفحص الدقيق لنصوص المسطرة الجنائية والتي جاء فيها أن قضاة النيابة يمارسون سلطاتهم والتي تدخل ضمنها سلطات تمس بحرية المتهم وحقوقه هذا من جهة، إضافة إلى أن للمحاضر والإجراءات التي يتخذها قاضي النيابة العامة تأثيرها الذي لا يخفى على اقتناعات قاضي الحكم وبالتالي قراره، وإن هذا التضارب كبير ينم إما عن قصد واضح لتقوية مركز النيابة العامة في المجتمع مع إهدار حق المواطنين في الدفاع عن مصالحهم، وإما أنه ينم عن ضعف تكوين واضعي المدونة من الناحية القانونية. إن مبدأ قرينة البراءة يفرض أن تتم محاكمة المتهم بشكل عادل ونزيه يعبر عن رغبة حقيقية في إيقاع العقوبة على الفاعل الأصلي وليس المتهم الذي لم تتم إدانته بعد، ولا نريد أن نغفل مصدر هذا المبدأ والذي يتمثل في اعتبار النيابة العامة كخصم وطرف آخر في القضية. وهذا ما يثير بدوره تساؤل عريض، فكيف يمكن لخصم ما أن تكون له سلطات في مواجهة الخصم الآخر؟ بل الأكثر من ذلك إن قضاة النيابة العامة يعتبرون كممثلي المجتمع والمطالبين بحقوقه، فهل يعتبر المتهم خارجا عن المجتمع؟

المطلب الثالث: عدم ارتباط النيابة العامة بمطالبها
لقد خول المشرع للنيابة العامة حقا لا نرى له سوى أنه يعزز قرينة البراءة من الناحية النظرية على الأقل، حيث يمكن للنيابة العامة حسب هذا المبدأ أن تقوم بتغير مطالبها مرة بل وعدة مرات حسب ما تراه ملائما، ذلك أن الأصل هو كون النيابة العامة تطالب بتوقيع عقوبات على المتهم نظرا لكونها طرف أصلي في الدعوى ولكونها هي من قامت بإحالة الملف على القضاء، إلا أن مصلحة المتهم ومن تم إثبات براءته قد تأتي على يد النيابة العامة من خلال ما تقدمه من أدلة توصلت بها تثبت عدم ارتكاب المتهم للجريمة وبالتالي تطالب ببراءته. وأهمية هذه الخاصية تكمن في ما تخوله للنيابة العامة من قدرة على تدارك هفواتها وضمان لها من حيث عدم إمكانية محاسبتها عن التناقض الحاصل بين موقفيها الأول والثاني( ) ولولا وجود هذا المبدأ لكان لزاما على النيابة العامة أن تبقى على مطالبها حتى ولو علمت بل وتأكدت من براءة المتهم ووجود متهم آخر يستحق العقاب وكونه الفاعل الحقيقي، إن هذا المبدأ يؤكد على أن النيابة العامة لا تبقى على مطالبها حتى ولو إن علمت على التأكد من براءة المتهم ووجود متهم آخر يستحق العقاب كونه الفاعل الحقيقي، إن هذا المبدأ يؤكد على أن النيابة العامة لا يمكن مسائلتها إذا ما قدمت على تغير مطالبها من طلب بإيقاع أقصى العقوبات إلى طلب إخلاء السبيل وذلك حماية للنيابة العامة حتى لا تخاف العقاب وتفضل السكوت عن الحق على الوقوع في شرك العقوبات التأديبية لمخالفتها لمبادئ القانون.
ورغم كل ما سبق ذكره فإن هذا المبدأ يبقى خالي المضمون من الناحية الواقعية، ذلك أن قضاة النيابة العامة لا نراهم يحركون ساكنا أثناء المحاكمات بل يكتفون بمطالبة المحكمة بتطبيق القانون، وهذا في نظرنا لا يعدو أن يكون فهما غالطا لمقتضيات المادة 49 والتي نصت على أنه «يطالب بتطبيق العقوبات المقررة في القانون» فبالنسبة لقضاة النيابة العامة أن كل ما يلزمهم هو المطالبة بهذا التطبيق مع أن مقصود المشرع يأتي على أساس أنها تطالب المحكمة بتطبيق مقتضيات القانون عمليا وليس قوليا، إذا ما ثبت لها أن الفاعل هو المتهم وليس إذا ما كان هناك شك. وحيث أن النيابة العامة تكتفي بما تم تقديمه من ملتمسات مع ملف القضية من خلال المحاضر وغيرها فلا نراهم يقومون بأي أعمال من شأنها أن تظهر الحقيقة.
______________________________
– محمد عياط: دراسة في المسطرة الجنائية المغربية، م.س. ص 80.

قرأوا أيضا...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.