قراءة نقدية للمعجم من خلال المفاهيم: الميتافيزيقا, اللوغوس, الفضيلة والحكمة

قراءة نقدية للمعجم من خلال بعض المفاهيم :

خصصنا هذا الجزء الأخير للقيام بدراسة نقدية للمعجم الوارد في الكتاب المدرسي الخاص بالجذوع المشتركة للتعليم الثانوي التأهيلي، وذلك من خلال القيام بالمقارنة بين بعض المفاهيم الواردة في الكتاب المدرسي، والأخرى الموجودة في بعض المعاجم، هادفين من وراء ذلك الكشف عن مواطن القوة والضعف في بعض التعاريف التي شملها المعجم في الكتاب المدرسي، ومتجهين أيضا نحو الانفتاح على معاني ودلالات جديدة لبعض المصطلحات والمفاهيم، والوقوف عند نقاط الاتفاق والاختلاف بين المعاجم المختلفة.

وقد قمنا باختيار خمسة مفاهيم  من كتاب ”  في رحاب الفلسفة ” للجذع المشترك وهي :

  • النظرية: La théorie
  • الميتافيزيقا : La métaphysique
  • اللوغوس : Logos
  • الفضيلة :  la vertu
  • الحكمة  : la sagesse

1- مفهوم النظرية

أول شيء يمكن الإشارة إليه أن مفهوم النظرية لم يعرف في الكتاب المدرسي بالرغم من قيمته الفلسفية.

أما من حيث التعاريف الموجودة في المعاجم ، فيتضح أن مفهوم النظرية من خلال المعنى الاشتقاقي وبالضبط في المنجد في اللغة والأعلام تفيد معنى  “النظر”، بمعنى التبصر والتأمل، أي التدبر والتفكير في الشيء.

فالنظري حسب هذا المعجم هو المنسوب إلى النظر، ويقابله العملي، والنظرية قضية محتاجة إلى برهان لإثبات صحتها.

أما معجم “روبير” فيحصر معنى النظرية في مجموعة من الأفكار والمفاهيم المجردة والمنظمة قليلا أو كثيرا والمطبقة على ميدان مخصوص.

إذن يمكن القول أن التعريف الموجود ب “معجم روبير”،  يلتقي مع المعنى الاشتقاقي لمفهوم  النظرية إلا أنه جمع بين النظر والعمل في تعريفه للنظرية. وهذا التعريف يلتقي بشكل كبير بالتعريف الموجود في معجم لالاند، على اعتبار أن النظرية مجموعة من الأفكار والمفاهيم المجردة.

إلا أن لالاند قد أشار إلى شيء آخر هو أن النظرية إنشاء تأملي للفكر يربط نتائج بمبادئ، ويتضمن هذا الربط نسقا وبناء منطقيا ، يخضع لنظام فرضي استنباطي ، كما أن النظرية إنشاء تنظيري للعقل يربط النتائج بالمبادئ وهي بهذا المعنى في مقابل الممارسة. وبالإضافة إلى هذا الجانب ، نجد أيضا أن النظرية هي في مقابل المعرفة العامية والمعرفة اليقينية، وأخيرا في مقابل تفاصيل العلم .

يتضح إذن أن النظرية حسب المعجمين السابقين تفيد معنى التنظير، أي هي مجموع الأفكار والمفاهيم المجردة، فهي في مقابل العمل والممارسة من جهة وفي مقابل المعرفة العامية من جهة أخرى.

وهذا المعنى الذي استخلصناه من معجم لالاند، ومن المعنى الاشتقاقي لمفهوم النظرية ، هو نفسه ما نجد في المعجم الفلسفي لجميل صليبا، إلا أن هذا الأخير أضاف أن النظرية قضية تثبت بالبرهان والحجة ، وهذا موجود ضمنيا في التعريف الأول القائل بان النظرية تهدف إلى ربط النتائج بالمبادئ.

2- مفهوم الميتافيزيقا:

dictionnaryلم يحظ هذا المفهوم بتعريف في الكتاب المدرسي رغم الأهمية الفلسفية لهذا المفهوم ، وإذا ما أردنا أن نقارن التعاريف التي استقيناها من بعض المعاجم الفلسفية السالفة الذكر ، ومن خلال ما تقدم، نجد في المعجم الفلسفي لجميل صليبا  أن الميتافيزيقا تعني ما بعد الطبيعة ، وهو الاسم الذي نطلقه اليوم على مقالات أرسطو الخاصة بالفلسفة الأولى.

ويتفق الكندي مع أرسطو على اعتبار أن الميتافيزيقا هي أيضا الفلسفة الأولى وهي علم الربوبية.

ونجد في الفلسفة الإسلامية خاصة عند الفارابي وابن رشد أن الغرض من الميتافيزيقا هو النظر في الوجود بما هو موجود.  كما يعرفها ابن سينا ، أنها العلم الذي يبحث عن الوجود المطلق .

وهذه التعاريف الموجودة بمعجم صليبا تتقاطع وتتوافق بشكل مطلق مع التعريفات الواردة في موسوعة الفلسفة لعبد الرحمان بدوي، حيث نجد أن الميتافيزيقا هي الفلسفة الأولى، والمبحث الأول الذي يهتم بدراسة المواضيع الغيبية والماورائيات أي مواضيع ما وراء الطبيعة.

3- مفهوم اللوغوس

عرف هذا المفهوم في الكتاب المدرسي من قبل المؤلفين ، في هامش “أعلام ومصطلحات ص 13″، فكلمة “لوغوس” كلمة يونانية تعني الخطاب ، المبدأ والعقل والعلم.

ويلتقي هذا التعريف مع التعريف الموجود في المعجم النهائي من الكتاب المدرسي ” في رحاب الفلسفة ” جذع مشترك ص 125، والذي مفاده أن اللوغوس هو التعبير والقول والخطاب الذي يستند على الحجة والعلم والاستدلال .

في حين نجد” logos لوغوس” حسب الموسوعة الفلسفية لعبد الرحمان بدوي يدل على ” الكلمة الإلهية”، فنجد هيراقليطس مثلا يعرفه بأنه القانون الكلي للكون، والقوانين الإنسانية تتغذى من هذا القانون الإلهي، إذن فاللوغوس هنا مرتبط بالقانون المتحكم في الكون، وهذا ما نجده يلتقي مع تعريف الرواقيين في اعتبارهم أن كلمة لوغوس تعني العقل والمبدأ الفعال في الكون الذي تشع فيه الحياة، وينظم ويرشد العنصر السلبي في العالم والمادة.

نجد أيضا آباء الكنيسة اعتبروا اللوغوس مساويا لابن الله والله الأب، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فاللوغوس عندهم يشارك الجنس البشري من حيث هو العقل ، كما اعتبر الغنوصيون اللوغوس هو الذي يتولى تكوين العالم .و قرر “أوريجانس” أن اللوغوس هو وجود الموجودات وجوهر الجواهر وصورة الصور.

يتضح إذن من خلال هذه الدلالات الموجودة بالموسوعة، أنها تصب جميعا في الاتجاه الديني أكثر مما تصب في ما هو فلسفي، في حين نجد التعريف الموجود بالكتاب المدرسي يعرف المفهوم بشكل مبسط، ويأخذ معنى فلسفيا بهذا المعنى. وتسهيلا لعملية إدراك وفهم المصطلح الفلسفي لدى التلميذ، يمكننا الاحتفاظ بالتعريف الوارد في الكتاب المدرسي والذي هو من اجتهاد المؤلفين، وهو فعلا اجتهاد من قبلهم وسعي وراء بناء جيد للدرس الفلسفي.

4- مفهوم الفضيلة :

لم يعرف هذا المفهوم بالكتاب المدرسي، لكننا نخلص من خلال جرد معاني ودلالات مفهوم الفضيلة ومقارنتها في بعض المعاجم وكذلك في بعض النصوص الفلسفية ، ثم التوصل لما يلي :

أولا:

هناك نقطة مشتركة بين معظم التعاريف الواردة في المعاجم على المستوى الاشتقاقي، وهي أن”الفضيلة” تفيد معنى الدرجة الرفيعة في الفضل وهي خلاف الرذيلة ، وضد النقص والنقيصة.

ثم هناك نقطة أخرى مشتركة بين معجم صليبا ومعجم لالاند، تتجلى في كون الفضيلة هي الاستعداد الدائم لسلوك طريق الخير أو مطابقة الأفعال الإرادية للقانون الأخلاقي، وهي استعداد دائم لإرادة الخير، ومن محاسنها أنها تكفي نفسها بنفسها.

أما نقط الاختلاف بين تصورات الفلاسفة لمفهوم الفضيلة ، فنجد أن “كانط” مثلا ميز بين ” الفضيلة ” و” الواجب”، فإذا كانت الأولى المبدأ

الداخلي الذي يحقق به الإنسان كماله الذاتي، فإن الواجب هو الأمر المطلق الذي توزن به الأفعال.
كما أننا نجد عند القدماء ، أن الفضائل أو بالأحرى أمهات الفضائل، تتجلى في الحكمة والعفة والشجاعة والعدالة، وضدها الرذائل وهي الجهل والشره والجبن والجور ، كما يعتبرون أن كل فضيلة هي وسط بين رذيلتين، فمثلا عند أرسطو، فالشجاعة فضيلة وسط بين الجبن والتهور .

أما في القرون الوسطى، فقد تم التفريق بين الفضائل الأخلاقية ” vertus morales” وهي الفضائل الأربع السالفة الذكر، وبين الفضائل الدينية أو اللاهوتية ” vertus théologales” وهي الإيمان والرجاء والمحبة.

في حين نجد ” مونتيسكيو” يعرف الفضيلة باعتبارها إيثار المنفعة العامة على المنفعة الخاصة، والإنسان الفاضل vertueux هو المتصف بالفضيلة .

وتبقى الملاحظة الكبرى أن مفهوم الفضيلة لم يعرف في الكتاب المدرسي لا في المعجم النهائي، ولا في الإضاءات والهوامش، ومن هنا يمكن الاحتفاظ بالتعريف الاشتقاقي الذي مفاده أن الفضيلة هي الدرجة الرفيعة في الفضل ، وهي خلاف الرذيلة، وضد النقص والنقيصة ، ثم إضافة ما ورد في معجم صليبا، أن الفضيلة استعداد دائم لإرادة الخير.

5- مفهوم الحكمة :

بخصوص هذا المفهوم ، فهو أيضا لم يتم تعريفه بالكتاب المدرسي وإنما يوجد تعريف ” الحكيم” في ص 59 إضاءات ودعامات ، ومفاده أن الحكيم ، وإن كان يظهر طافيا على سطح العالم، فإنه لا يهجره أبدا، فهو منخرط فيه وله موقع داخله.

إنه فاعل في العالم وحاضر فيه من خلال هذا التعريف،يتضح أن مفهوم ” الحكيم” هنا يظهر دوره فقط واندماجه في العالم ، ولا يعطي تعريفا محددا يوضحه، فيبقى حدا ناقصا.

أما إذا انتقلنا إلى مفهوم ” الحكمة من خلال المعاجم ” فنجد ” لسان العرب ” لابن منظور يوضح المعنى الاشتقاقي للمفهوم ، فيفيد هذا المعنى الإتقان والدقة والعدل والقدرة والعلم. ويتقاطع هذا المعنى مع التعريف الموجود بالمنجد في اللغة والأعلام، حيث نجد الحكمة أيضا تعني الإتقان والدقة والعدل.

وفي هذه النقطة يلتقي هذا التعريف أيضا مع الشق الأول من التعريف الموجود في المعجم الفلسفي لجميل صليبا ، والذي مفاده أن الحكمة تعني كذلك العلم والدقة والعدل ، مصداقا لقوله تعالى :” لقد آتينا لقمان الحكمة ” صدق الله العظيم ، والحكمة هنا بمعنى العلم والفهم .

وعند اليونان أطلق لفظ الحكمة على العلم، وبعد ذلك على العلم مع العمل. لذلك قيل أنها استعمال النفس الإنسانية باقتباس العلوم النظرية واكتساب الملكة التامة من الأفعال الفاضلة. وهنا نلمس الاختلاف البسيط بين المعاجم السابقة وما ورد ذكره، ويتجلى ذلك في إضافة العمل إلى العلم.

أما ابن سينا، فقد قسم الحكمة إلى قسمين: قسم نظري مجرد، وقسم عملي،  والغاية هي حصول الاعتقاد اليقيني بحال الموجودات، ثم حصول رأي لأجل عمل، مثل ” علم الأخلاق” فغاية النظري هي الحق، وغاية العملي هي الخير.

وهذا ما يؤكده التعريف الديكارتي الذي فسر لنا الحكمة بكونها المعرفة الكاملة بجميع ما يمكن أن يعرف لتدبير الحياة وحفظ الصحة واختراع الصناعات. ومعنى ذلك أن الحكمة علم وعمل أيضا، كما عرفه ابن سينا .

ويتضح في معجم صليبا في تعريفه للحكمة،أنه أضاف مفهوم “الحكمة الإلهية” التي تعني العلم الذي يبحث في أحوال الموجودات الخارجية المجردة عن المادة التي لا تتعلق بقدرتنا ولا باختيارنا.

وحسب لالاند فالحكمة جاءت لتفيد معنى الفضيلة لاغير، وهي الاسم الأقدم للفلسفة، وهذا كان ولا يزال مستعملا في ق 17 إلا أن  ديكارت شعر بالحاجة إلى تفريغه من المعنى الجاري والمألوف، إذ عرفها كما سبق بأنه لا نقصد بالحكمة الحصافة فقط في الأعمال، بل يقصد بها أيضا المعرفة الكاملة لكل الأشياء. بمعنى أن الحكمة ليست المعرفة المجردة والمتعالية فقط وإنما كذلك المعرفة العملية التي تخدم مصالح الإنسان .

وهذا ما يلتقي مع التعريف الوارد في كتاب التعريفات للعلامة علي بن محمد الشريف الجرجاني الحسيني الحنفي، فتفيد معنى العلم والعمل كما يستفاد من الحكمة ما هو حق أي كل كلام وافق الحق هو حكمة وهي الكلام المعقول المصون من الحشو .

إذن الذي يمكن استخلاصه من هذه التعاريف المختلفة باختلاف المعاجم أنها جميعها تحيل إلى مفهوم العلم والعمل والدقة والإتقان والعدل، و بهذا تكون الحكمة قد اتخذت المعنى والدلالة الفلسفية أكثر من الاقتصار على التحديد اللغوي والاشتقاقي للمفهوم .

الخاتمة  :

بعد فحصنا لأهمية ووضعية المعجم في الكتاب المدرسي للجذع المشترك ، وبعد قراءتنا له قراءة تنطلق أساسا من فوائده النظرية و العملية، ومن دوره الجوهري في عملية تدريس الفلسفة في التعليم الثانوي التأهيلي عموما، والجذع المشترك خصوصا، نود أن ننهي حديثنا عن المعجم بخلا صات عامة  .

إن أول ما يتبادر إلى الذهن، هي المكانة التي يحتلها المعجم في تدريس الفلسفة، فرغم العوائق والإكراهات والنواقص التي يعاني منها، فإنها لا تلغي أهميته البيداغوجية والديداكتيكية ومساهمته الكبيرة في إيصال المعرفة الفلسفية إلى المتعلمين في مختلف مستوياتهم الدراسية  .

ثاني ملاحظة ، تتعلق بمستوى المضمون المعرفي للمعجم الذي يرد سواء في الهوامش أو المذيل في آخر الكتاب، فالجرد الذي قمنا به يوضح وبجلاء غياب أي مرجعية يعتمد عليها في تعريف المفاهيم وتحديد معانيها ، وهذه الملاحظة مبررة وذلك للغياب المطلق للقواميس و المعاجم في الكتب المدرسية للجذوع المشتركة، وهذا أمر لا يخدم تدريس الفلسفة ولا يساعد المتعلم على الاحتكاك بالمفاهيم الفلسفية  .

ثالث ملاحظة جديرة بالاهتمام ،وهي أنه حتى التعاريف المجتهد في صياغتها من لدن لجنة التأليف تعاني مما تعاني منه من هزال مضموني، ولعل معترضا يعترض قائلا إن تلك التعاريف موجهة للمتعلمين في الجذع المشترك، وهذا غير صحيح على الإطلاق. وخير دليل على ما نقول هو أن الكتب المدرسية الخاصة بالسنتين الأولى والثانية بكالوريا بدورها تعاني من المشكل نفسه المذكور آنفا، وقد اتضح هذا جليا من خلال الانفتاح الذي قمنا به على معاجم أخرى، فوقفنا على النقص الحاد للمفاهيم المعرفة في الكتب المدرسية أي في رحاب الفلسفة الموجهة للمتعلمين .

آخر ملاحظة: ونعتقد أنها مشتركة بيننا وبين الزملاء الطلبة الأساتذة الذين يشتغلون على الكتب المدرسية، وهي أنها كتب لابد من إعادة النظر فيها منهجا ومضمونا إذا أردنا أن ننهض بالفكر الفلسفي.

وذلك من خلال الاحتفاظ ببعض التعريفات الواردة ، مع توثيقها، و إغناء المعجم بتعاريف أخرى جديدة مؤثثة للدرس الفلسفي.

منزلة المعجم في درس الفلسفة
الفصل الثالث: المفاهيم الخمس الأساسية: تعريف وقراءة نقدية

قرأوا أيضا...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.