التربية بين الفلسفة والسوسيولوجيا
الفصل الأول : البعد المعجمي لمفهوم التربية.
لقد مارس الإنسان التربية منذ القديم مما جعل مفهومها يشيع ويتداول بين الجميع، إلى درجة أن تعريفها يبدو سهل المنال، ولكن سرعان ما يتبدد هذا الاعتقاد ويدرك المرء أن تعريف التربية هو من قبيل السهل الممتنع، لذا نجد أدبيات التربية تزخر بتعاريف كثيرة ومختلفة ، تعود إلى دلالات عدة:
أولا : البعد اللغوي
يعرف روبير التربية بأنها : ” مجموع الوسائل التي بواسطتها نوجه نمو وتكوين الكائن الإنساني، وكذا النتائج المحصلة بواسطة هذه الوسائل”.
كما يوضح المعجم الاشتقاقي Dictionnaire étymologique لدوزات “أن كلمة التربية Education ذات مصدر مزدوج لاتيني، تشير لفظة Educare الى فعل “غدى” أما لفظة educere فتدل على أخرج من ، قاد إلى ، رافق إلى، كما تدل على رفع أو رقي” .
إن تعريف روبير، يبين الطابع الإشكالي المعقد للتربية، فهي عملية أو ممارسة تنشئوية مستمرة دينامية تخضع أحيانا للسلطة والتسيير، فالدلالة الإشتقاقية هذه تحدد لنا التربية كغداء مادي ( طعام ، تمرينات رياضية، … ) ومعنوي ( معرفي ، أخلاقي ، … ) يقود الفرد إلى النمو ( الذهني ، العقلي، الجسدي، …)
إن مفهوم التربية في تناولاته المختلفة والمتنوعة ، يبرز بشكل قوي مدى كونيته وشموليته داخل الأنساق اللغوية والفكرية العربية، لكن هذا القول لا ينفي حضوره المستميث أيضا في السياقات المعجمية العربية ، ولا سيما في المعجم العربي الشهير ” لسان العرب” لابن منظور الذي يعرف التربية في بعدها الاشتقاقي وبطريقة فيها نوع من الدقة والتفصيل، إذ يقول في مجلده الأول : “التربية : رب ولده والصبي يربه ربا ، ورببه تربيبا وتربة، عن اللحياني: بمعنى رباه تربية. كالقول مثلا نعمة تربها أي تحفظها وتراعيها وتربيها كما يربي الرجل ولده ”
أما في مجلده الثاني فيحدد التربية انطلاقا من فعل ربت إذ يقول :” ربت الصبي، وربته : رباه، يربته ، تربيتا : رباه تربية “.
قال الراجز :
سميتها إذا ولدت تمــوت
والقبـر صهر صامت زميت
ليس لمن ضمنه تــربيـت
ثانيا : البعد الفلسفي
يعرف جميل صليبا التربية في معجمه الفلسفي بأنها: تبليغ الشيء إلى كماله، أو هي كما يقول المحدثون تنمية الوظائف النفسية بالتمرين حتى تبلغ كمالها شيئا فشيئا، تقول : ربيت الولد، إذا قويت ملكاته، ونميت قدراته، وهذبت سلوكه حتى يصبح صالحا في بيئة معينة، وتقول تربي الرجل، إذا أحكمته تجارب، ونشأ نفسه بنفسه، ومن شروط التربية الصحيحة أن تنمي شخصية الطفل من الناحية الجسمية والعقلية والخلقية حتى يصبح قادرا على مؤالفة الطبيعة ليحاور ذاته ويعمل على إسعاد نفسه وإسعاد الناس. كما تعد التربية ظاهرة اجتماعية تخضع لما تخضع له الظواهر الأخرى في نموها وتطورها .
التربية والوراثة مفهومان متقابلان، والفرق بينهما أن ماهية الأولى التغير وماهية الثانية الثبات، فإذا كان الموجود الحي يتغير بتأثير غيره تارة، وبمؤالفة الظروف التي يعيش فيها تارة أخرى، فمرد ذلك إلى التربية، وإذا كان يميل بفطرته إلى الاتصاف بصفات نوعه، فمرد ذلك إلى الوراثة .
وللتربية طريقان :
الأول : أن يربى الطفل بواسطة المربي.
الثاني: ان يربي نفسه بنفسه.
إذا أخذت التربية بالطريق الأول كانت عملا موجها يتم في بيئة معينة وفق لفلسفة معينة، أما إذا أخذت بالطريق الثاني كانت عملا ذاتيا يترك فيه الطفل على سجيته ليتعلم من نشاطه القصدي، وتسمى التربية التي تقوم على هذا النشاط الحر وعلى مراعاة الفروق الفردية والقابليات الشخصية ب” التربية التقدمية” وهي حركة إصلاحية مبنية على المذاهب النفسية والاجتماعية .
إضافة إلى هذا التحديد هناك تعريفات أخرى للتربية من بينها تعريف ” إميل دوركايم” الذي يقول : ” التربية هي الفعل الذي يمارسه جيل الراشدين على جيل الأطفال الذين لم ينضجوا بعد للحياة الاجتماعية ” أي أن الغرض من التربية –حسب دوركايم- أن تثير وتنمي لدى الطفل عددا من الحالات الجسدية والعقلية والأخلاقية التي تتطلبها منه بيئته الخاصة.
ويشير ” لا ندشير ” في مقدمة كتابهما إلى تعريف ” بيترز” لكملة التربية فهي برأيه :” تتضمن شيئا ما يستحق العناء، او تم سابقا إيصاله للإنسان بشكل هادف وبطريقة مقبولة من الناحية الأخلاقية، ويصبح أمرا غير منطقي ومتناقض أن يقال أن إنسانا ما قد تمت تربيته من دون أن يكون قد تغير نحو الأفضل “.
كما أن التربية حسب –هربرت- هي مجموع الأفعال والتأثيرات الممارسة إراديا من قبل كائن إنساني آخر، مبدئيا من قبل بالغ على صغير، وهي موجهة نحو هدف هو عبارة عن تشكيل استعدادات من كل نوع عند هذا الكائن الصغير، تتلاءم مع الغاية التي سوف يهيئ لها عند وصوله إلى مرحلة النضج.
بناء على ما توصلنا إليه من دلالات ومعان حول مفهوم التربية، يمكن القول إن هذا المفهوم هو في ممارساته الإجرائية، لن يبلغ المقام السامي إذا ما ظل مجرد تحديدات صماء، أو شعارات ثابتة يتم حفظها وترسيخها. بل إن تفعيل هذا المفهوم وأجرأته في الواقع هو ما يجعله أكثر دينامية وحيوية…، فأن نفكر معناه أن نربي العقل على ممارسة التفكير، وتربية هذا العقل لن تتم بالعنف والقمع…، كما كان الأمر في الأدبيات التربوية الكلاسيكية( التقليدية )، بل إن التربية الحديثة والفعالة هي إرشاد وتوجيه وتهذيب لهذا العقل بواسطة وسائل تكوينية قادرة على أن تغذيه تغذية سليمة ومرنة.
إن الإنسان هو أغلى ما نملك، أسرة ومؤسسة ومجتمعا… وان التربية هي أداتنا المثلى لتفعيل حاضر هذا الإنسان وبناء مستقبله…، إنها وسيلة المقاومة السليمة للتغيير إلى الأفضل وسبيلنا للتنمية الشاملة والوقاية من مزالق الخطأ والضعف والإنحراف .
إن التربية هدف ذو قيمة علمية في الحياة الإنسانية، والضامن الوحيد لتقدم المجتمع ونيل ما يرنو إليه من التحضر والرفاهية والطمأنينة والشعور بالرضا، فكلما كان المجتمع متعلما انتفى فيه الظلم وعمت العدالة وساد الاستقرار.
كل هذه المعطيات بمثابة مؤشر على إمكانية بلوغ الخير الأسمى الذي ينحو الإنسان نحوه، وهذا الخير هو كمال يتحقق بالتدريج، عبر تقوية ملكات الطفل وتنمية قدراته وتهذيب سلوكه حتى يصبح قادرا على التفاعل مع وسطه الخاص، وبالتالي تمكينه من تربية صحيحة ومتوازنة جسميا وعقليا وخلقيا. ولعل هذا ما سعت إليه مجموعة من المقاربات الفلسفية والسوسيولوجية وكذا السيكولوجية، عبر صراع تاريخي طويل، طرح العديد من الإشكاليات التي أقلقت الفكر الإنساني عبر العصور، ومن بين هذه الإشكاليات نجد:
كيف تتحدد التربية بين الفلسفة والسوسيولوجيا؟ ما هي الأسس النظرية والعلمية… التي تبنى عليها التربية؟ وإذا كانت هذه الأخيرة سترتبط في بحثنا هذا بمقاربتين أساسيتين [الفلسفة والسوسيولوجيا] فما نقط الاختلاف والإئتلاف بين هاتين المقاربتين بخصوص هذا المفهوم؟ وما موقعه كذلك داخل ثقافتنا العربية؟.
______________________________________
– Le rebert micro – dictionnaire d’apprentissage de la langue française – nouvelle edition 1998 , paris , p : 434.
-faculté . KSU .edu .sa./nasers /egypte
– جمال الدين بن مكرم بن منظور ، لسان العرب ، المجلد الأول، بيروت لبنان، ص 1099.
– جمال الدين بن مكرم بن منظور ، لسان العرب ، المجلد الثاني، دار الفكر بيروت، ص 33.
– جمال الدين بن مكرم بن منظور ، لسان العرب ، المرجع نفسه ، ص 33.
-جميل صليبا: المعجم الفلسفي الجزء الاول، دار الكتاب اللبناني ، بيروت لبنان ص 266.
– جميل صليبا: المعجم الفلسفي ، مرجع سابق، ص 267.
– Emile Durkheim , éducation et sociologie ed. P.U.F col , le sociologie , paris , 1973 , p : 49.
– Landshere « definir les objectifs de l’éducation , p u f , paris , 1978 , p : 15.