سبل الحد من ظاهرة التهرب الضريبي – المطلب الثاني
مهما كانت حجية الدوافع التي تؤدي إلى تملص الملزمين من دفع الضريبة، فإن التهرب الضريبي يبقى في آخر المطاف آفة تمس بشرعية توزيع عبء الضريبة بين الملزمين وتضر بالتالي بمردودية النظام الضريبي وفعاليته مما يستوجب محاربة التهرب.
وتتعدد وسائل مكافحته، والتي يجب توظيفها في إطار إستراتيجية دقيقة ومضبوطة من خلال عقلنة التدبير الضريبي ( الفقرة الأولى ) وتنمية الموارد البشرية وإستراتيجية التواصل ( الفقرة الثانية ).
الفقرة الأولى: عقلنة التدبير الضريبي
إن مقاومة التهرب الضريبي تبدأ أولا من التدبير القانوني للضريبة، يؤسس لفاعلية النظام الجبائي وقوته، ويحض المنظومة الضريبية ضد كل اختراق سواء من لدن هواة التهرب الضريبي أو محترفيه.
أولا: عصرنة تدبير التشريع الضريبي
إن إستراتيجية تدبير التشريع الضريبي تقوم على مقاربات جديدة قد تساعد على مكافحة التهرب الضريبي ومنها أن نقطة البدء في سياسة مقاومة التهرب الضريبي يجب أن تكون بإصلاح النظام الجبائي[1]، لتجاوز ثغراته، والعمل على تحديثه لجعله أداة رئيسية في عملية إنجاح السياسة الاقتصادية، والإصلاح الجبائي يبدأ من:
1- تبسيط وتحسين صياغة القوانين الضريبية
إن غموض التشريع الضريبي وتعقيده الأحكام الجبائية وتعددها، إلى جانب غلبة المصطلحات التقنية القليلة التداول وغير الواضحة الدلالة والمعنى نظرا لسوء ترجمتها من الفرنسية الى العربية لا يخدم مبدا العدالة.
كما أنه على الإدارة الجبائية أن تتجنب التقليد العشوائي للنصوص المستوردة من بعض الدول[2] وأن توفق بين القوانين والمنظومة الاجتماعية التي سوف يتم تنفيذ هذه القوانين داخلها، وهكذا فالخبراء الذين يضعون قوانين الدول التي يتم منها استيراد القوانين لا يعملون شيئا بالواقع الاقتصادي والاجتماعي الذي تكون الدولة التي أخذت تلك القوانين بشكل عشوائي، كما على الدول النامية قبل أن تطلب أي قانون يجب عليها أن تخلق أرضية ملائمة لاستيعابه، بدل تقليد القوانين الضريبية الغربية الجاهزة، والمغرب خير مثال على هذه الدول فمنذ الاستقلال وهو يستورد القوانين الفرنسية بإيجابياتها وسلبياتها ومن دون مراعاة للواقع الاجتماعي والاقتصادي.
وفي هذا الإطار يقول الأستاذ مصطفى الكثيري[3]: ” يدخل النظام الضريبي المغربي في إطار الأنظمة الضريبية للبلدان السائرة في طريق التنمية مع متغيرات وطنية خاصة يقتبس صفاته وتقنياته بكيفية واسعة من نماذج البلدان المصنعة، وعيب هذه النماذج عدم مطابقتها لوضعية ومستوى تنمية البلاد وقد تأثر هذا النظام بكيفية كبيرة بتقنيات وتقاليد مستعارة من الدول المتقدمة.
ولم تتكيف هذه التقنيات والأعراف إلا نادرا مع المؤسسات الوطنية والأسبقيات المعطاة للأهداف الاقتصادية التي حددتها البلدان لتنميتها وهذا التقليد لنماذج اقتصاد متقدم مطبقة على اقتصاد متخلف لذا يتميز هذا النظام الضريبي نظرا لتنوعه وتشعبه ومسلسل تطوره بعدد من مواطن الضعف التي قد لا تتمكن من حصرها… “.
هذا التعقيد والغموض وغياب الوضوح في القانون الضريبي يتعين تداركه، والعمل على تيسيره، ليكتسب الإصلاح الضريبي مصداقية علمية وفعالية في أوساط الهيآت الإدارية الساهرة على تنفيذ القوانين الضريبية، وبين الملزمين الذين يرون في التعقيد الضريبي حيف وظلما جبائيا، يدفعهم إلى الشعور بأن التهرب الضريبي هو الآلية الدفاعية المشروعة في مواجهة ضريبة غير عادلة في صياغة قوانينها وتحديدا حكامها وتطبق جزاءاتها.
فإذا كانت النظم القانونية قد أصبحت بالغة التنظيم والدقة أكثر من أي وقت مضى، فإن الاهتمام حاليا ينبغي أن ينصب على ضرورة تدعيم التبسيط على مستوى صياغة النص القانوني لجعله أكثر إيجازا وأشمل دقة، وأقوى ضبطا.
إن السوسيولوجيا الضريبية لازالت لم تأخذ حظها الأوفر في الدول النامية، إذ أن اختيار الصورة الفنية للضريبة وصياغة تفصيلاتها التشريعية يتحدد على ضوء الهدف من فرضها وملائمة أسلوب تحقيقه لإيديولوجية المجتمع وموافقة لأوضاعه.
كما أن عدم وجود مؤسسات دائمة كما هو الشأن في فرنسا تساعد على خلق القاعدة الضريبية، كالمجلس الاقتصادي والاجتماعي والغرف البرلمانية الدراسية التي تسهر في علاقات دائمة مع ممثلي التنظيمات السوسيومهنية للمكلفين من أجل اقتراح كل التعديلات الضريبة والتي تهم هذه الشرائح.
مع أن المغرب بدوره توجد فيه الكونفدرالية العامة للمقاولين المغاربة تتوفر على لجنة خاصة بالشؤون القانونية والجبائية والتي تقوم بإعداد الدراسات المتعلقة بالإجراءات الجاري بها العمل، وبالتالي إعداد الاقتراحات الرامية إلى تخفيف العبء الضريبي أو الوساطة فيما يتعلق بالتصالح بين الملزم وإدارة الضرائب عند سوء تفاهم ما، غير أن هذه الكونفدرالية لا تخوض فيما يتعلق بالتشريع الضريبي[4].
2-تيسير الإجراءات الضريبية
يؤسس النظام الضريبي الإيجابي على المبدأ الذي مفاده تحصيل الأموال الخاصة بالطريقة الأكثر فعالية والأكثر عدالة ممكنة، مع الحفاظ على استمرارية الصورة الشرعية في عيون الأشخاص المكلفين، الناخبين والرأي العام” غير أن الصورة الشرعية لا يجب أن تنحصر في المضمون القانوني الصرف والبحث على مستوى النص القانوني المجرد فقط.
وإنما الشرعية يجب أن تصاحب الفعل الضريبي من وضع النص الضريبي كقانون إلى انتهاء الفعل الضريبي في شكله المالي بخزينة الدولة وان تكون هذه المسافة التي يقطعها الفعل الضريبي ميسرة بإجراءات بسيطة وخفيفة، وهي الشرعية التي يجب أن يقتنع ويمتد بها الملزمون والتي لن تتحقق عندهم إلا بإدراكهم اليقيني للعملية الضريبية في تحدي وعائها وكيفية تحصيلها ولا يمكن أن يدركوا لهذه العملية إلا تبسيط أجرأتها.
كما أن كثرة الوثائق المتعلقة بالإقرارات التي يتعين ملؤها[5] تجعل الملزمين من يشعرون بنفور وتعب في ملئها، فكل ضريبة إلا وتجدها تحتوي على بيانات كثيرة ومعقدة وتكون نتيجة ذلك تشجيع الملزمين على التهرب الضريبي نتيجة كثرة التعقيدات.
أضف إلى ذلك ارتباط هذه المسألة مع شريحة واسعة من الملزمين بالضريبة الذين يعانون من الأمية بحيث لا يعرفون محتوى هذه الإقرارات بل حتى إذا ما تم ملؤها نجدها في بعض الأحيان خاطئة مما ينتج عنه إعادة ملأ المطبوع عدة مرات، فأحيانا قد يتم ملئ هذه الإقرارات بحسن نية إلا أن هذه الشكليات المعقدة تجعله في حالة نفور، وأحيانا قد يتم أخذ هذه الإقرارات إلى شخص آخر لملأها مثل الخبراء المحاسبين والمحامين وذوي الخبرة[6].
وبذلك يجب على الإدارة الجبائية أن تقوم بتبسيط الإجراءات الخاصة بملء المطبوعات والإقرارات الضريبية، حتى تتمكن من توفير الوقت للملزمين وتجنبهم النفور من ملء الإقرارات الذي يؤدي في بعض الحالات إلى ممارسة التهرب الضريبي نتيجة تعقيد المساطر والإجراءات.
إن التدبير العلمي ” المنجمانتي ” يقوم في أساسه على تبسيط الإجراءات والمساطر والأحكام حتى يدرك الملزم أن الفعل الضريبي يتم حسب ما يرسمه القانون، وحدده بكل شفافية، ولا مجال للغبن أو الحيف من لدن إدارة الضرائب.
ويتجلى أهم تبسيط للإجراءات في ضرورة تعميم نشر القوانين والمذكرات التفسيرية الصادرة عن إدارة الضرائب وكل التوجيهات والإرشادات قصد تحسين مستوى أداء الخدمات، بهدف دعم ثقة الملزمين وكسبها، وذلك لجعل الملزم مدركا للفعل الضريبي من خلال فهمه للعقل القانوني الضريبي لتتكرس شفافية المنظومة الضريبية لديه، مما سيعزز وفاءه الضريبي.
هكذا وانطلاقا مما سبق، فقبل وضع أي قاعدة قانونية وخاصة في المجال الضريبي فلابد من دراسة الواقع الاجتماعي ومدى تقبله لهذه القاعدة، فالقاعدة أو القانون لن ينجح تطبيقه على أرض الواقع إلا إذا كانت ظروف البيئة التي سيطبق فيها ملائمة ومتوافقة والقاعدة الجديدة فكما جاء على لسان مونتيسيكيو في كتابه “روح القوانين ” :”….فكل شيء موجود له قوانينه الخاصة به … “[7].
المبحث الثاني: الآثار المالية والاجتماعية للتهرب الضريبي
الفصل الأول: التهرب الضريبي والفعالية الاجتماعية
إشكالية التهرب في القانون الضريبي
_____________________________________________________
[1] – احمد حليبة، “التهرب الضريبي وانعكاساته……”.، م. س، ص: 321.
[2] – أحمد انميلي، “التهرب الضريبي…”، م س ، ص: 139.
[3] – مصطفى الكثيري ، “النظام الجبائي والتنمية الاقتصادية في المغرب”، ترجمة العربي الزياني، عبدالرحمان الشاوي ، خالد عليوة ، مصطفى المطيع بالمنظمة العربية للعلوم الإدارية عمان، جامعة الدول العربية، 1985، ص: 125.
[4] – أحمد حليبة ، “التهرب الضريبي…” ، م س ، ص: 325.
[5] – تنص المادة 112 من مدونة العامة للضرائب لسنة 2009 ” يجب أن يحرر الإقرار في مطبوع نموذجي معد من طرف الإدارة ويتضمن بوجه خاص ما يلي:” 1-هوية الخاضع للضريبة 2- مجموع مبلغ الأعمال المنجزة ، 3- مبلغ الأعمال غير المفروضة عليها الضريبة، 4- مبلغ الأعمال المعفاة من الضريبة ، 5 مبلغ رقم الأعمال المفروضة عليها حسب طبيعة كل نشاط وكل سعر… واللائحة طويلة انظر نفس المادة.
[6] – أحمد حليبة ، التهرب الضريبي…. ، ص 139.
[7] – إبراهيم أبراش ، “المنهج العلمي وتطبيقاته في العلوم الاجتماعية” ،شركة بابل للطباعة والنشر والتوزيع، الرباط، 1999 ، ص: 47.