هل ينزل الأعمى منزلة الأمي؟

جامعة محمد الخامس
كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية
أكدال- الرباط

ماستر العلوم القانونية
وحدة القانون المدني المعمق
الفصل الأول

عرض حول

هل ينزل الأعمى منزلة الأمي؟
هل ينزل الأعمى منزلة الأمي؟
التعليق على القرار عدد 1908 في الملف عدد 1806/1/04 الصادر عن المجلس الأعلى بتاريخ 7/6/2006

تحت إشراف الأستاذ:
الدكتور أحمد ادريوش

من إعداد الطالب:
عبد الحق الإدريسي

السنة الجامعية
0102م / 1201م

مقدمة:
يتعرض القرار المدني عدد 1908 في الملف عدد 1806/1/04 الصادر عن المجلس الأعلى بتاريخ 7/6/2006 لمسألة على قدر كبير من الأهمية تتعلق بمدى صحة إنزال الأعمى منزلة الأمي، يتبين ذلك من خلال وقائع القضية، التي جاء فيها أن الطاعن تعرض للاستغلال بسبب أميته وفقدانه لبصره، من طرف ابنه المطلوب الذي ساقه إلى مصلحة الإمضاءات، وأوهمه بغير الحقيقة، وانتزع منه التوقيع على عقد بيع سطح العقار، الذي كان يرمي الطاعن إلى إصلاح طابقه الثاني لا بيع سطحه، مما دفع هذا الأخير إلى المطالبة بإبطال العقد فاستجابت المحكمة الابتدائية لطلبه، واستأنفه المدعى عليه فألغي الحكم المستأنف بعلة أن العمى لا يعتبر عيبا من عيوبي الرضى إضافة إلى تبريرات أخرى، فنقض العارض قرار محكمة الاستئناف أمام المجلس الأعلى على أساس عدم سلامة التعليل وخرق الفصل 427 ق.ل.ع  وهو ما خلص إليه المجلس الأعلى الذي قضى أن مناط الحماية القانونية المتضمنة في الفصل المذكور هو جهل الشخص الأمي لمضمون الورقة التي التزم بها وما دام الأعمى في وضعية تمنعه من معرفة فحوى الوثيقة، فالأمر يجعله في حكم الأمي، كما اعتبر المجلس الأعلى أن توقيع الطاعن على عقد غير العقد موضوع الدعوى لا يعد قرينة على العلم بمضمون الورقة المطعون فيها.

وانطلاق من وقائع القرار موضوع التعليق تثار التساؤلات التالية:
– ما هو الأساس الذي اعتمده المجلس الأعلى لإنزال الأعمى منزلة الأمي؟
– ما هو مفهوم الأمي لدى الفقه والقضاء؟
–  هل العمى كإعاقة  يعد عيبا من عيوب الإرادة؟
– ما هو حكم العمى في ضوء الفقه الإسلامي والقانون الوضعي (ق.ل.ع)؟
– هل التوقيع ينهض دليلا على المعرفة بالقراءة والكتابة؟
أسئلة وأخرى سنحاول الإجابة عنها من خلال معالجة القرار وفق التقسيم التالي:
أولا: مناط الحماية القانونية للأمي هو جهله بمضمون المحرر
ثانيا: التوقيع على العقد لا يعد قرينة على عدم الأمية

أولا: مناط الحماية القانونية للأمي هو جهله بمضمون المحرر
من المعلوم أن كل شخص بلغ سن الرشد يعتبر أهلا للإلزام والالتزام  ما لم يصرح قانون أحواله الشخصية بغير ذلك[1]، والأمي يتمتع بكامل أهليته فيكتسب الحقوق ويتحمل بالالتزامات إلا أن المحررات المتضمنة لالتزامات الأشخاص الأميين لا تكون لها قيمة قانونية إلا إذا تلقاها موثقون أو موظفون عموميون مأذون لهم بذلك[2]، رغبة من المشرع المغربي في توفير الحماية القانونية لهذه الفئة المهمة في المجتمع وهذا ما درج عليه القضاء في عدد من الأحكام الصادرة عنه، حيث جاء في قرار صادر عن المجلس الأعلى بتاريخ 4 يوليوز 1969 في الملف عدد 394 ما يلي ” إن الالتزامات الصادرة من الأشخاص الأميين الذين لا يعترفون بمضمونها لا تكون لها قيمة إلا إذا حررت بواسطة موثق أو موظف عمومي مختص ولهذا فان محكمة الموضوع كانت على صواب حين لن تعتد بالتزام مختوم ببصمة أحد الطرفين الذي لم ينكرها زاعما أنه لم يعرف مضمون ما كتب لأنه أمي”[3]

وقد كان القضاء المغربي في وقت سابق مستقرا على تعريف الأمي المشمول بحماية الفصل 427 من ق.ل.ع بأنه الشخص الذي يجهل الإمضاء وقد تعرض هذا الموقف لعدة مآخذ، ترتب عنها إفراز اجتهاد جديد يعتبر أن الأمي هو الذي يجهل مضمون الوثيقة الموقع عليها، وهذا ما أقره القرار موضوع التعليق قائلا ” فان مناط الحماية القانونية المنصوص عليها في الفصل 427 ق.ل.ع هو جهل الشخص الأمي لمضمون الورقة…”، كما عرفه المجلس الأعلى الأمي في القرار رقم 777 الصادر عنه بتاريخ 15 دجنبر 1976 قائلا: ” الأمي ليس هو الذي لا يحسن التوقيع ولكن الذي لا يعرف اللغة التي حرر بها العقد “[4]

وتعد دعوى الإبطال بسبب الأمية حق شخصي لا يجوز تقديمها إلا من طرف الشخص الأمي وحده الذي شرعت الحماية القانونية له وهذا ما أقره قضاء المجلس الأعلى في القرار الصادر في 26 مايو 1999 الملف المدني عدد 2848/ 94 قائلا ” إن دعوى الإبطال بسبب الأمية حق شخصي لا يرتبط بالدفاع عن حقوق التركة، ولا يجوز تقديمها إلا من طرف الشخص الأمي وحده، والذي شرعت له هذه الحماية، ولا يحق لورثته أن يتمسكوا بنص الفصل 427 من قانون الالتزامات والعقود”[5]

ويتضمن القرار محل التعليق مقتضى على قدر كبير من الأهمية يتمثل في أنه أنزل الأعمى منزلة الأمي معتمدا في ذلك على أساس استحالة معرفته لمضمون وفحوى الورقة العرفية التي التزم بها، وهذه هي العلة الجامعة بين الفصل 427 من ق.ل.ع واعتبار الأعمى في حكم الأمي على اعتبار أن الأعمى مصاب بعاهة وهي مانع طبيعي يترتب على وجودها عدم استطاعة الشخص الإحاطة الكاملة بكل الظروف الواقعية أو التعبير عن إرادته على الوجه الذي يفهم به عنه فهما صحيحا[6]، والشخص الأعمى كما  هو معلوم يستحيل عليه قراءة حروف العقد فبالأحرى معرفة مضمونه

والسؤال الذي يثار هنا هل العمى كإعاقة يعتبر عيبا من عيوب الرضا؟

فلو عدنا إلى الفصل 39[7] من ق.ل.ع الذي ينص على عيوب الرضى لا نجده متضمنا للعمى كعيب من عيوب الرضى ولا ينبغي للقضاء تقرير عيوب ارادة جديدة لكونها أمور نفسية، حددها المشرع بنفسه وفصل شرطها، وبالتالي لا يجوز للقضاء أن يعتبر العمى عيبا من عيوب الإرادة مادام لم يتم النص عليه في صلب الفصل  39 ق.ل.ع.

إلا أنه بالاطلاع على الفصل 54[8] من ق.ل.ع نجده جاء صريحا في هذا الشأن، فالصيغة الأصلية لهذا النص كانت تنص على الاختلالات المتقطعة والعاهات لكن عندما خرجت الصيغة النهائية قالت حالات المرض والحالات المشابهة[9]، ويرى بعض الفقه أن هذا الفصل المذكور ذا طبيعة خاصة، يهدف إلى تكريس تمسك ق.ل.ع بالنظرية التقليدية  للتعاقد التي تقوم على احترام مبدأ سلطان الإرادة وحرية التعاقد، فهو يحمي أساسا مصالح العاقد الذي تعاقد تحت وطأة المرض أو ما شابهه من وضعيات أفسدت إرادته، ويمكن بالتالي القاضي من الاستجابة لطلب إبطال العقد عندما لا يتأتى ذلك استنادا إلى أحد عيوب الرضا الأخرى[10]،  وعليه يمكن القول أن موجبات العدالة والمنطق تقتضي تخويل القاضي صلاحية الاستجابة لدعوى إبطال العقد بسبب العمى حيث يمكن اعتباره من الحالات المشابهة لحالات المرض المنصوص عليها في الفصل 54 ق.ل. ع إعمالا للقاعدة الفقهية التي تقول بأن “إعمال النص خير من إهماله”

والحقيقة أن الفصل 54 ق.ل.ع هو تقنين للفقه الإسلامي هذا الأخير الذي له أحكام خاصة بفئة المعاقين فقد جاء في تحفة ابن عاصم[11]:

وَمَنْ أَصَمَّ أَبْكَمَ العقودُ@جائزَةٌ ويَشْهَدُ الشُّهودُ
بِمُقْتَضَى إشارةٍ قَدْ أَفْهَمَتْ@مَقْصودَهُ وَبِرِضاهُ أَعْلَمَتْ
فَإنْ يَكُنْ مَعْ ذاكَ أعْمَى امْتَنَعَا@لِفَقْدِهِ الإِفْهامَ والْفَهْمَ مَعَا
كَذاكَ لِلْمَجْنونِ والصَّغيرِ@يُمْنَعُ والسَّكْرانِ لِلْجُمْهورِ
وذو العَمَى يَجوزُ الابْتياعُ لَهْ@وبَيْعُهُ وكُلُّ عَقْدٍ أَعْمَلَهْ
وبَعْضُهُمْ فَرَّقَ بَيْنَ مَنْ وُلِدْ@أَعْمَى ومَنْ عَماهُ مِنْ بَعْدُ وُجِدْ

وبالتالي فالفقه الإسلامي لم يقتصر على تنظيم تصرفات ذوي العاهات الواحدة  وإنما أفرد أيضا أحكاما خاصة لذوي العاهات المزدوجة – فقد يكون الشخص مصابا بعاهات ثلاث هن : الصم والبكم والعمى – هذه الفئة التي حضيت باهتمام من لدن التشريعات المقارنة التي أقرت لهم مساعدا قضائيا يكون بمثابة عون لهم في إجراء التصرفات بما يضمن إحاطته بعناصر الواقع إحاطة تامة، والتعبير عن إرادته تعبيرا حقيقيا صحيحا[12].

ثانيا: التوقيع على العقد لا يعد قرينة على عدم الأمية
فقد عمل المجلس الأعلى في البداية – كما سبق القول- على التضييق من مفهوم الأمي المنصوص عليه في الفصل 427 من ق.ل.ع واعتبر الشخص الذي يحسن التوقيع لا يعتبر أميا.

وقد بادرت المحاكم إلى السير في هذا الاتجاه ورفضت الدفع بالأمية كلما تبين لها أن هناك توقيعا على العقد بخط اليد وليس بالبصمة وأن صاحبه يحسن التوقيع غير أنه تبين أن إطلاق وتعميم الفكرة على هذا النحو قد لا يحقق هدف المشرع الذي يتوخى حماية الشخص الأمي من الوقوع ضحية تدليس أو غلظ، لأن الشخص قد يتمرن على التوقيع بخط اليد ويصبح محترفا له في حين أنه لا يعرف لا قراءة ولا كتابة وقد يقوم بالتوقيع على عقد على أساس أنه عقد بيع بينما هو عقد كراء، وبالمقابل قد يكون هناك شخص آخر لا يتقن وضع توقيعه بينما هو يعرف القراءة والكتابة

وقد اعتبر القرار موضوع التعليق أن التوقيع على عقد غير العقد موضوع الدعوى لا ينهض دليلا على أن الطاعن على علم بفحوى الورقة المطعون فيها وعلى كونها تعبر عن إرادته، مما يعد خرقا للفصل 427 ق.ل.ع، ويعرض القرار للنقض
ومن تم يتضح أن القضاء استقر على كون الأمي هو الذي لا يمكنه التعرف على مضمون العقد بنفسه إذ لا يعقل اعتبار الإنسان غير أمي لمجرد كونه يحسن التوقيع

وجدير بالذكر أنه يمكن لمن وقع على العقد بخط اليد أن يثب أميته ويقع الإثبات بكافة الوسائل

خاتمة:
يتضح مما سبق مدى الدور الذي يلعبه القضاء وبالأخص قضاء المجلس الأعلى في المبادرة والاجتهاد لتخويل الحماية القانونية لطرف الضعيف في العلاقات التعاقدية ويعد الشخص المعاق الأعمى من أشد الأفراد حاجة للحماية القانونية التي ضمنه له القضاء بتوسيعه لمفهوم الشخص الأمي حتى أدخل الأعمى في حكمه وأنزله منزلته، وقد أحسن بذلك صنعا
_____________________________________
الفصل 3 من قانون الالتزامات والعقود المغربي [1]
الفصل 427 من قانون الالتزامات والعقود المغربي [2]
[3] مؤرخ بتاريخ 4 يوليوز 1969 في الملف عدد 349 منشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى – العدد 16 الإصدار الرقمي دجنبر 2000 ص 2، 34
قرار رقم 777 الصادر عن الغرفتين بتاريخ 15 دجنبر 1976 قضاء المجلس الأعلى – العدد 20  الإصدار الرقمي دجنبر 2000ص[4]  و350  351
5 ق رقم 2698 المؤرخ في 26 مايو 1999 الملف المدني عدد 2848/ 94، الغرفة المدنية (القسم الثامن)منشور قضاء المجلس الأعلى – العدد 53- 54  الإصدار[5] الرقمي دجنبر 2000 ص 350 و 35194
[6] سميرة كميلي اضريف: الأهلية القانونية، الطبعة الأولى، دار القرويين 2005، ص 49
[7] ينص الفصل 39 من ق.ل.ع على ما يلي: ” يكون قابلا للإبطال الرضى الصادر عن غلط، أو الناتج عن تدليس، أو المنتزع بإكراه”
[8] ينص الفصل 54 من ق.ل.ع على ما يلي: ” أسباب الإبطال المبنية على حالة المرض والحالات الأخرى المشابهة متروكة لتقدير القضاة”
[9] أستاذنا أحمد ادريوش خلال حصة التأطير لطلبة  ماستر العلوم القانونية 2010/2011
عبد الواحد صافي: القانون المدني، الجزء الأول: العقد، الكتاب الأول:تكوين العقد، الطبعة الأولى 2006، ص 377[10]
[11] منظومة تحفة الحكَّام في نكت العقود والأحكام للقاضي أبي بكر محمد بن عاصم الأندلسي الغرناطي ت829 هـ
سميرة كميلي اضريف: المرجع السابق، ص 50 [12]

الشكر كل الشكر للطالب “عبد الحق الإدريسي” على مسهاماته العظيمة في تزويد الموقع ببحوثه بدون أي مقابل.

قرأوا أيضا...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.