المسؤولية الطبية – المطلب الثالث:
لعل الإشكالات التي تطرحها المسؤولية المدنية للطبيب تتمحور حول الأساس الذي تقوم عليه هذه المسؤولية (الفقرة الأولى) وأركانها (الفقرة الثانية) ومن يقع عليه عبئ إثبات عناصر هذه المسؤولية (الفقرة الأولى)
الفقرة الأولى: أساس مسؤولية الطبيب
لم يعد هناك خلاف في الفقه والقضاء حول اعتبار الطبيب مسؤولا عن أخطائه المهنية، لكن السؤال الذي كان ولا زال يشغل بال الفقهاء في كثير من الأحيان هو: على أي أساس تقوم هذه المسؤولية، هل على أساس تقصيري أم على أساس تعاقدي؟
أولا: مسؤولية الطبيب على أساس تقصيري
تقوم المسؤولية التقصيرية كلما وقع الإخلال بالتزام قانوني هو التزام الفرد بعدم الإضرار بالغير، فمصدرها العمل غير المشروع ومن بين المبررات المعتمد عليها من قبل القائلين بأن مسؤولية الطبيب تقوم على أساس تقصيري ما يلي:
1) عدم احتواء العلاقة بين الطبيب والمريض
ذلك أن العقد الطبي عقد غير متكافئ بين طرفيه وفي هذا الصدد يقول الفقيه الفرنسي لوسر بورت ” وضعية المريض الضعيف الذي أنهكه الألم وأثر على عقله وتفكيره وإرادته وحواسه تجعله كالدمية عمياء متألمة أو كطفل أمام طبيب سليم معافى القادر على تخفيف ألامه وتجفيف دموعه ويؤدي ذلك إلى عدم توفر المساواة حتى على الصعيد القانوني لأن المريض ليس حرا في التعبير عن إرادته بصورة صريحة “ وبالتالي فانه لا يمكن الجزم بقيام عقد بين الطبيب والمريض المنهك[1].
وقد خلص الأستاذ بورت إلى أن التكييف القانوني السليم للعلاقة التي تربط بين الطبيب والمريض ينبغي قياسها على العلاقة بين القاصر (المريض) ووليه الشرعي (المريض)
strong>2) >مصدر التزامات الطبيب هو القانون
فالطبيب خلا ل أدائه لعمله يبقى محاصرا بالتزامات مصدرها القانون وليس العقد، لأن القانون هو الذي نظم المهنة وحدد كيفية ممارستها وأدائها ولم يترك ذلك لإرادة الطرفين نظرا لتعلق التزامات الطبيب بالنظام العام، مما يمكن القول معه أن كلا من الطبيب والمريض يوجدان في مركز قانوني لا يستطيعان المساس به وليس مركزا تعاقديا[2].
وإذا كان الرأي الغالب في الفقه والقضاء المعاصر يميل إلى اعتبار مسؤولية الأطباء في القطاع الخاص مسؤولية عقدية إلا أن هناك حالات استثنائية تخضع فيها مسؤولية الطبيب لأحكام المسؤولية التقصيرية بدلا من العقدية ومن أهم هذه الحالات:
-حالة وصول الخطأ الطبي إلى درجة الخطأ الجنائي
-حالة انعدام العقد أو عدم صحته[3].
وبالتالي فانه يمكن للمتضرر أن يؤسس دعواه في هذا الصدد على أساس الخطأ طبقا للفصل 78 من قانون الالتزامات والعقود، وقد ذهبت في هذا السياق المحكمة الابتدائية بالناضور في إحدى حيثياتها في ملف مدني رقم 1168/94 – بتاريخ 28/6/1996 إلى ما يلي : ” …وحيث يتضح من وثائق المدعى عليه انه لا يوجد ضمنها ما يفيد انه طلب من المدعية إجراء تحليل تشريحي مخالفا بذلك التزامه بمجرد بذل عناية مما يجعله تحت طائلة المسؤولية التقصيرية في تدهور الحالة المرضية للمدعية والذي نتج عنه نمو ورم سرطاني اقتضى استئصاله إصابتها بالعقم.
وحيث إن طلب المدعية بالتعويض طبقا لمقتضيات الفصلين 77 و78 من ق.ل.ع كان مبنيا على أساس سليم، وقد ارتأت المحكمة بما لها من سلطة تقديرية تحديد التعويض في المبلغ الوارد بمنطوق الحكم أدناه…”[4].
ولكي تتحقق المسؤولية يتعين على المريض أن يثبت خطأ الطبيب وكذا الضرر الذي لحق به من جراء ذلك الخطأ ثم قيام علاقة سببية بين الخطأ والضرر
وقد أثبت التطبيق العملي لهذا التحليل أنه مجانب للصواب في تأسيس قواعد المسؤولية الطبية، لذلك فقد أضحى القضاء يبحث عن اتجاه جديد لتكييف قواعد المسؤولية الطبية[5].
ثانيا: مسؤولية الطبيب على أساس تعاقدي
فالقضاء الفرنسي ظل يعتر مسؤولية الطبيب مسؤولية تقصيرية إلى غاية 20 ماي 1936 حيث أصدرت الغرفة المدنية بمحكمة النقض الفرنسية قرارها الشهير في القضية المعروفة بقضية ميرسي Mercierالذي يعد نقطة تحول مهمة في ميدان مسؤولية الطبيب حيث قلبت لأوضاع وأعطى للقضاء الفرنسي منذ ذلك الوقت اتجاها آخر اعتبر فيه الطبيب مرتبطا بعقد مع مريضه يلتزم بمقتضاه ليس بشفائه من المرض ولكن بتقديم عناية يقضة له تقتضيها ظروف المريض الصحية ومطابقة للأصول الثابتة لمهنة الطب ولمقتضيات التطور العلمي، وأن إخلال الطبيب لهذا الالتزام المتولد عن العقد تنتج عنه مسؤولية عقدية حتى ولو كان ذلك الإخلال عفويا وغير مقصود.
وبالرجوع إلى الفصل 263 من قانون الالتزامات والعقود المغربي فانه يمكن للضحية المتضرر من جراء خطأ الطبيب المعالج له أن يرتكز على أساس الإخلال بالتزام تعاقدي للمطالبة بالتعويض، شرط أن يكون هناك اتفاق مسبق يكون الطبيب بمقتضاه ملزما بالمعالجة
وعليه فالمسؤولية العقدية هنا تقوم كلما تم الإخلال بتنفيذ أحد الالتزامات الناشئة عن العقد على نحو يسبب ضررا للمتعاقد وبالتالي فقيام هذا النوع من المسؤولية متوقف على شرطين:
- وجود عقد صحيح يربط بين المتضرر والمسؤولية عن الضرر
أن يقع من احد طرفي العقد إخلال بالتزام مترتب عن هذا العقد وأن سبب هذا الإخلال ضررا للطرف الآخر[6].
وقد ساند غالبية الفقه المغربي اتجاه القضاء الفرنسي بتشبثهم وتأكيدهم على أن المسؤولية الطبية مسؤولية عقدية ويعد أستاذنا أحمد ادريوش من أهم الفقهاء الداعين لذلك ، الذي يرى أن الفصل 724 من قانون الالتزامات والعقود المتعلق بإجارة الصنعة يصلح كسند قانوني للعقد الطبي[7].
المسؤولية الطبية
____________________
8 أستاذنا أحمد ادريوش: مسؤولية الأطباء المدنية بالمغرب، منشورات جمعية تنمية البحوث والدراسات القضائية، مطبعة الأمنية ـ الرباط 1989
[1]، ص 101 و102
أستاذنا أحمد ادريوش: مسؤولية الأطباء المدنية بالمغرب،المرجع السابق، ص 109[2]
محمد عبد النباوي: المرجع السابق، ص 90 و91[3]
[4] حكم صادر عن المحكمة الابتدائية بالناظور، ملف مدني رقم 1168/94 – بتاريخ 28/6/1996، منشور بمجلة الإشعاع، عدد 15 ص205 إلى 209
عبد الرحمان مصلح الشرادي: الخطأ في المسؤولية المدنية التقصيرية الشخصية، الطبعة الأولى، مطبعة دار السلام ـ الرباط، يناير 2001، ص [5]
182
محمد عبد النباوي: المرجع السابق، ص 51،52 و53[6]
أستاذنا أحمد ادريوش: مسؤولية الأطباء المدنية بالمغرب،المرجع السابق، ص 97[7]