التحكيم في منازعات عقود الأشغال

نماذج لتطبيقات التحكيم في العقود الإدارية – المطلب الثاني:
بعد أن تطرقنا في المطلب السابق لجواز التحكيم وبينا كيف تفوقت القوانين المقارنة – في مصر وفرنسا – على التشريع المغربي في فهم دور العقود الإدارية في تنمية الاقتصاد. كان من الواجب علينا تبسيط كافة ما ذكر من آراء فقهية وأحكام قضائية من خلال التطرق لبعض صور العقود التي تضمنت شرط التحكيم، والتي أصبح هذا الشرط عنصرا لازما فيها لسرعة الفصل في المنازعات الناشئة عن تنفيذها وتحقيق عامل السرعة والسرية، الذي دائما يكون هدفا أساسيا لطرفي العقد، لعدم تعرض مراكزهم القانونية للخلل والتشويش وسوء السمعة مما يؤثر على علاقاتها مع الغير[1].

وبناء عليه سنتطرق في هذا المطلب لتطبيقات التحكيم في منازعات عقود الأشغال في نقطة أولى ثم نتناول في نقطة ثانية للتحكيم في منازعات عقود الطاقة.

أولا: التحكيم في منازعات عقود الأشغال
من بين أهم الأمثلة العملية للتحكيم في منازعات هذه العقود نذكر ما يلي:
أ- قضية الشركة الفرنسية «frères Bec» ضد الحكومة التونسية في تاريخ 8 دجنبر 1981 صدق الوزير التونسي للتجهيز والإنشاءات على العقود المبرمة بين كل من وزارة التجهيز والإنشاءات والشركة الفرنسي «frères Bec» وتهدف هذه العقود إلى إقامة مجموعة من الطرق كانت وزارة التجهيز والإنشاءات في الدولة التونسية قد أعلنت عن رغبتها في القيام بتشييدها من خلال مناقصتين. ولقد تضمنت المادة 66-2 أ من كراسات الشروط الإدارية الخاصة بكل من العقدين الخاصين بتشييد كل مجموعة من الطرق، شرط تحكيم نص على أنه:

“اتفقت الأطراف على اللجوء إلى التحكيم في حالة نشأة المنازعات بين المقاول وجهة الإدارة مع تعذر حلها عن طريق اللجوء إلى وزير التجهيز والتشييد وعلى طرف أن يقوم بتعيين محكمه.

ولا يجوز الرجوع على أحكام المحكمين بأي طريق من طرق الرجوع” ونظرا للمشاكل التي نشأت بين الأطراف أثناء تنفيذ الأعمال، فإن المهندس المشرف على التنفيذ أخطر شركة « Fréres Bec » بوقف الأعمال وفسخ العقود.

وإزاء عجز الأطراف عن التوصل إلى اتفاق ودي، فإنه لم يكن هناك مفر من الالتجاء إلى التحكيم والذي انتهى بإصدار حكم بإلزام وزارة التجهيز والتشييد التونسية بدفع مبالغ متنوعة إلى الشركة الفرنسية « Fréres Bec » وهو الحكم الذي طعن عليه بالبطلان أمام محكمة استئناف باريس من قبل الوزارة التونسية للتجهيز والإنشاء، حيث تمسكت الوزارة التونسية أمام المحكمة ببطلان حكم التحكيم مستندة في ذلك إلى أن محكمة التحكيم قد فصلت في المنازعة المعروضة عليها وذلك على الرغم من بطلان الاتفاق على التحكيم. إذ يتعلق الأمر بعقد إداري من عقود القانون الداخلي يحظر قبول التحكيم فيه، وهو الحظر الناجم عن إعمال المادتين 260 و 251 من قانون الإجراءات المدنية والتجارية التونسية.

ولقد ذهبت الوزارة التونسية إلى أن تحديد طبيعة العقود المبرمة بين الشركة الفرنسية وجهة الإدارة التونسية بتعين الفصل فيه وفقا للقانون التونسي، وأن المحاكم التونسية وحدها هي المختصة بالفصل في المنازعات الناشئة عن تنفيذ العقود الإدارية.

إلا أن محكمة استئناف باريس ذهبت في حكمها إلى القضاء بأن :
” الحظر الوارد على الدولة في قبول شرط التحكيم وأياما كان السبب الذي يستند إليه، يعمل به فقط في إطار العقود الوطنية ولا يعد هذا الحظر من قبيل القواعد المتصلة بالنظام العام الدولي، الذي يحظر على العكس، على الشخص العام المتعامل على مسرح التجارة الدولية من أن يتمسك بالنصوص المقيدة الواردة في القانون الوطني أو في القانون الحاكم للعقد من أجل التنصل من اتفاق التحكيم المتفق عليه مسبقا”[2].

ب- قضية الشركة الإيطالية ICORI ESTERO و الشركة الكوتية للتجارة والمعاملات الخارجية والمعاملات الخارجية (KFTCIC):
في عام 1983 أعلنت الشركة الكويتية المذكورة عن مناقصة دولية بغرض بناء مقر لسفارة دولة الكويت في الجزائر.

ولقد تم رسو هذه المناقصة على الشركة الايطالية، ونص في عقد التشييد المبرم بين الشركتين في أول مايو 1985 على أن هذا العقد يخضع للقانون الجزائري وأن السعر المتفق عليه جزافي Forfaitaires وغير قابل للتعديل وأن الدفع سيكون بالدولار وأن أية مشكلة أو منازعة مع رب العمل أو المقاول أو المهندس أثناء تنفيذ الأعمال تخضع أولا إلى المهندس والذي يجب أن يصدر قرارا في خلال 90 يوما ويعد هذا القرار نهائيا وملزما للأطراف، وإلا تعين إعمال إجراءات التحكيم المنصوص عليها في المادة 76 من الشروط الخاصة من ال FIDIC (نماذج العقود الدولية).

ونظرا لانخفاض سعر الدولار الأمريكي، وعلى الرغم من الشروط التعاقدية بشأن عدم إمكانية مراجعة السعر، فإن الشركة الإيطالية تقدمت في عام 1987 بطلب من أجل زيادة السعر مستندة في ذلك إلى نصوص القانون الجزائري الخاصة بفكرة تغير الظروف وهو الطلب الذي رفضته الشركة الكويتية وثم عرض هذا الأمر على المهندس.

ولقد قام السيد المهندس بالرد على هذا النزاع في 24 مارس 1987 بخطاب أثارت طبيعته ومضمونه الكثير من الجدل بين أطراف النزاع، واستندت عليه الشركة الإيطالية من أجل أن تحدد طلبها في التعويض المالي عند إتمام الأعمال.

وبتاريخ 30 يونيو 1988 أعطى المهندس الحق للشركة الإيطالية في أن تحصل من الشركة الكويتية على مبلغ 3.433.155.29 دولارا وفي أعقاب هذا القرار قامت الشركة الكويتية بتحريك إجراءات التحكيم.

واتفقت الأطراف على اختيار باريس كمقر للتحكيم واختيار لائحة التحكيم التي وضعتها لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي لتسري على إجراءات التحكيم ولقد انحصر النقاش بين الأطراف أمام هيئة التحكيم في بادئ الأمر على تحديد طبيعة الخطاب المرسل من المهندس في 24 مارس 1987 مفاده أن هذا الخطاب يعقد قرارا في مفهوم الشرط 67 من شروط التحكيم وفقا لقواعد FIDIC والتي تتطلب من أجل أعمال إجراءات التحكيم ضرورة صدور قرار من المهندس.

ولقد طعنت الشركة الكويتية على هذا الحكم التمهيدي ببطلان بالبطلان أمام محكمة استئناف باريس مستندة إلى عدم صحة تشكيل هيئة التحكيم لعدم استقلالية رئيس هيئة التحكيم عن الأطراف، وإلى عدم تسبيب حكم التحكيم، وعدم وجود اتفاق على التحكيم إذ أن المحكمين فصلوا في المنازعة دون اتخاذ إجراءات وثيقة المهمة « Acte de mission » .

ولقد قضت محكمة استئناف باريس في 28 يونيو 1991 برفض هذا الطعن بالبطلان وثم استئناف إجراءات التحكيم.

وبتاريخ 29 دجنبر 1993 أصدرت هيئة التحكيم حكما نهائيا ذهبت فيه إلى صحة شرط التحكيم وأن الخطاب الصادر عن المهندس هو قرار نهائي، إذ لم يشرع في اتخاذ أي إجراءات تحكيمية ضده في الفترة المحددة زمنيا لذلك وفقا لقواعد ال FIDIC وأن الاخلال الاقتصادي بالالتزامات الناشئة عند العقد استمرت بعد 24 مارس 1987 وأن النصوص المتعلقة بالنظام العام في القانون الجزائري والخاصة بتغير ظروف العقد، تخول الشركة الإيطالية الحق في التعويض على الرغم من الشرط التعاقدي بثبات السعر المتفق عليه بين الأطراف.

وبناء على ذلك أصدرت هيئة التحكيم حكما بإلزام الشركة الكويتية بدفع مبالغ متعددة للشركة الإيطالية علاوة على فائدة تقدر بنسبة 14 % سنويا ولقد طعنت الشركة الكويتية على هذا الحكم بالبطلان مستندة في ذلك الطعن على العديد من الأسباب والذي يهمنا فيها هو الطعن بالبطلان بسبب بطلان اتفاق التحكيم ذاته. إذ قدرت الشركة الكويتية أن المبدأ المستخلص النظام العام الدولي والذي يقص بصحة شروط التحكيم الواردة في العقود التجارية المبرمة من قبل الدولة من أجل حاجة المعاملات الدولية، لا يعمل به في العقد المبرم بين الشركة الكويتية والتي أبرمتها بصفتها ممثلة لدولة الكويت من أجل بناء مبنى عام بطبيعته مخصص من أجل أن تمارس فيه هذه الدولة المزايا التي تتمتع بها بصفتها دولة، وبهذه المثابة، فإن التصرف الصادر عن الشركة الكويتية يتعلق بأحد المقاولات العامة والتي لا تتعلق بالنظر لموضوعها والطرق التي تنفذها مصالح التجارة .

وحيث أن الأطراف قد اتفقت على إخضاع العقود المبرمة بينها إلى القانون الجزائري وتشبيه الشركة الكويتية بأي شخص عام جزائري فيما يخص العقد الماتل، فإن النظام العام في القانون الجزائري ولاسيما المادة 442 من قانون المرافقعات المدنية الجزائري والتي تحصر على الأشخاص الاعتبارية العامة قبول التحكيم يتعين إعمالها وهو ما يؤدي إلى بطلان شرط التحكيم موضوع المنازعة.

ولقد رفضت محكمة استئناف باريس هذا الحـظر وذهبت إلى القضاء بـأن الحظر الوارد على الدولة في قبول شرط التحكيم يعمل به في إطار العقود ذات الطابع الداخلي وأنه غير متعلق بالنظام العام الدولي.

ولعل أهم ما يستخلص من القضاء المتقدم هو أن محكمة استئناف باريس في معرض تقديرها لصحة الحظر الوارد على الدولة أو الأشخاص الاعتبارية العامة لم تفصل في هذه المسألة من خلال منهج التنازع وإنما من خلال أعمال منهج القواعد المادية مستكملة بذلك النهج الذي بدأه القضاء بشأن صحة اتفاق التحكيم بنفسه وبذلك قد تبنت الرأي الذي دافع عنه الأستاذ Goldman والذي وفقا له يتم الفصل في مسألة صحة شرط التحكيم الوارد في العقد الدولي المبرم من قبل الدولة أو أحد أجهزتها ليس وفقا لمنهج تنازع القوانين وإنما تحكمه قاعدة مادية من قواعد القانون الدولي للتحكيم تقرر صحته [3].

وتجدر الإشارة في الختام إلى أنه أمام تطور عقود التشييد والبناء ظهر ما يعرف بالاتحاد الدولي للمهندسين والاستشاريين والذي يتخذ من سويسرا مقرا له في إصدار بعض نماذج العقود الدولية في هذا المجال وهي ما تسمى بعقود الفيديك FIDIC والتي سبق أن أشرنا إليها – وكان ذلك في عام 1969 و أنشئت لجنة خاصة في هذا الاتحاد تتولى متابعة وتنفيذ هذه العقود ومراقبة تحديثها بشكل مستمر لتفادي المشاكل التي ظهرت في تطبيق هذه العقود. وكنتيجة للتطور المتسارع في مجال عقود التشييد والبناء ظهرت ما يسمى بعقود Bot , Boot وهي تلك العقود التي تبرم بين حكومات الدول والمستثمرين الأجانب بإنشاء مشروعات الاستثمار التي تتعلق بالبنية الأساسية مع عدم تحمل الحكومات مسؤولية تمويل هذه المشروعات، وتحمل المستثمرين لمخاطر التمويل والمخاطر التجارية وتهدف هذه العقود التي تبرمها الدولة إلى تحقيق مزايا محددة وتتلخص في عدم تحمل ميزانية الدولة لأعباء مالية خاصة بإنشاء هذه المشروعات، واستفادة الدولة من التقنية العلمية الحديثة التي تحتاجها لتشييد هذه المشروعات ، هذا فضلا عن التزام المستثمرين بتمويل هذه المشروعات واستغلالها ثم تسليمها في النهاية إلى الحكومة دون مقابل مادي تتحمله وتحتاج هذه المشروعات إلى إبرام عدد من العقود الدولية، والتي يكون أحد أطرافها الحكومة والطرف الآخر هو المستثمر، ومن بين هذه العقود عقد الامتياز الذي توقعه الحكومة مع المستثمر الأجنبي concession contract ، ومن ثم فأي نزاع ينشأ عن تنفيذ هذه العقود يكون موضوع تحكيم، ومن هنا تأتي أهمية النص على جواز التحكيم في العقود الإدارية التي تبرمها الدولة مع الشركات الأجنبية، لدفع مجلة التنمية في البلاد والتطور المستمر في استحداث البنية التحتية، التي تعد الأساس لانطلاق كافة المشروعات الصناعية والتكنولوجية[4].
المبحث الثاني: التطبيقات العملية لـنظام التحكيم
التحكيم في العقود
___________________________
[1] – د. أحمد عبد البديع  شتا، مرجع سابق، ص 243.
[2] – د. حفيظة السيد الحداد، مرجع سابق، ص 366 وما بعدها.
[3] – د. حفيظة السيد الحداد، مرجع سابق، ص 367 وما بعدها
[4] – د. أحمد محمد عبد البديع شـتــا، مرجع سابق، ص 259- وما بعدها..

قرأوا أيضا...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.