المفاهيم القانونية المتولدة عن التطور التكنولوجي

المفاهيم المتولدة عن التطور التكنولوجيالمطلب الثاني:
نتج عن التطور التكنولوجي ظهور وسائل جديدة للتعاقد، ترتب عنها تغير في مجموعة من المفاهيم القانونية حتى تستجيب لخصوصيات الظاهرة الجديدة، هذه التحولات التي شملت على الخصوص الإثبات، التوقيع، و ظهور مؤسسة جديدة اصطلح عليها مؤسسة المصادقة الالكترونية.

فعلى مستوى الإثبات، إذا كانت القاعدة العامة المنصوص عليها في قانون الالتزامات و العقود، تقضي بأن الدليل الكتابي ينتج من ورقة رسمية أو عرفية وبالتالي فهناك إقصاء للوثيقة الالكترونية التي تعتبر إشارات ضوئية(الفصل 417 من ق.ل.ع)، و الورقة العرفية دليل على تاريخها فقط في مواجهة الأطراف (الفصل 425 من ق.ل.ع )، و ضرورة توقيع الورقة العرفية باليد لكي يعتد بها قانونا (الفصل 426 من ق.ل.ع )، و أن النسخة المشهود بمطابقتها للأصل من طرف الموظف المختص لها نفس القوة القانونية التي للأصل ( الفصل 440 من ق.ل.ع )، و اشتراط الكتابة للإثبات إذا تجاوزت قيمة الالتزام 250 درهما ( الفصل 443 من ق.ل .ع ).

و لما كانت القواعد المذكورة أصبحت كلها تشكل عراقيل أمام التجارة الالكترونية على اعتبار أن هذه الأخيرة تعتمد على آليات و ميكانيزمات تتجاوز القواعد التقليدية مما فرض تحولا في المفاهيم، و هو ما حدى بالمشرع المغربي إلى مواكبة التشريعات الحديثة في هذا المجال، من خلال مشروع قانون رقم 53-05 يتعلق بالتبادل الالكتروني للمعطيات القانونية، غير من خلال مادته الخامسة كل المفاهيم الواردة في الفصول السابق ذكرها من ق.ل.ع [1].

وهكذا أصبح الدليل الكتابي يشمل كذلك الشارات الضوئية أو الرموز ذات الدلالة الواضحة كيفما كانت طريقة إرسالها، كما أن مفهوم التوقيع لم يعد يقتصر على التوقيع باليد بل أصبح يشمل كذلك التوقيع الالكتروني، هذا الأخير الذي ستصبح له نفس القيمة القانونية للتوقيع العادي، ومن جهة أخرى أصبح من الممكن إثبات الالتزامات ت بجميع وسائل الإثبات بما شهادة الشهود، متى لم تتجاوز عشرة آلاف درهم،  أما إذا تجاوزت هذه القيمة فيلزم إثباتها كتابة أو بشكل الكتروني.

و نفس السياق متع المشرع – من خلال المشروع المذكور – كل محرر مذيل بالتوقيع الالكتروني   المؤمن[2] بنفس قوة الإثبات التي يتمتع بها المحرر المصادق على صحة توقيعه و المذيل بتاريخ تابت  (الورقة الرسمية).

و إذا كان المشرع قد ساوى بين التوقيع الالكتروني المؤمن و الوثيقة الرسمية، بحيث أعطاه حجية قاطعة في مواجهة الغير لكونه ثابت التاريخ،فأن الإشكال يطرح حول إمكانية الطعن في التوقيع المؤمن على اعتبار أن الورقة الرسمية لا يطعن فيها إلا بالزور طبقا للقواعد العامة.

و في نفس السياق نجد المشرع المغربي –من خلال المشروع السالف ذكره – قد استحدث هيئة جديدة تقوم بدور الموثقين و العدول و الموظفين المخولين صلاحية المصادقة على الوثائق، حيث

جعل الوظيفة الرئيسية لهذه الأخيرة تتمثل في التعريف بين الأطراف و التأكد من نسبة الإمضاءات الالكترونية إليهم، فتقدم على ضوء ذلك شهادة الكترونية مؤمنة، يمكن اعتمادها أمام القضاء في حالة وقوع نزاع بين أطراف العلاقة التعاقدية بواسطة الانترنت، خاصة و أن المشرع يفرض عليها الاحتفاظ بأرشيف الكتروني.

و لما كانت مؤسسة المصادقة الالكترونية تقوم بدور جد خطير، فإن ذلك استوجب من المشرع الدقة في تنظيمها، ولذلك خصص لها حيزا كبيرا في المشروع المذكر؛ حيث اشترط في كل من يرغب في ممارسة مهنة مؤسسة المصادقة مجموعة من الشروط من أهمها أن يكون مقدم الخدمة معتمد من لدن السلطة الحكومية، وأن يتخذ شكل شركة يوجد مقرها الاجتماعي بالمغرب، و المشرع لم يحدد شكل الشركة على عكس ما قام به بالنسبة لبعض الأنشطة الخاضعة لمراقبة الدولة. إضافة ضرورة كون طالب الاعتماد على دراية بالمنظومة العامة للتشفير،و أن يتوفر على الكفاءات البشرية المؤهلة لتقديم خدمات المصادق الالكترونية، علاوة على التوفر على نظام سلامة قادر على اتقاء تزوير الشهادات الالكترونية و المحافظة على جميع المعلومات المتعلقة بالشهادة الالكترونية.

و لتفادي إمكانية حصول تعاقد بين طرفين أحدهما ناقص الأهلية على اعتبار التعاقد بواسطة وسائل الاتصال عن بعد يتم بين غائبين، فقد ألزم المشرع مؤسسات المصادقة الالكترونية من توافر الأهلية في الشخص الذي سلمت له الشهادة الالكترونية عن طريق إدلائه بوثيقة الهوية الرسمية قبل تمكينه من الاستفادة من خدماتها.

و نظرا لخطورة الدور المنوط بمؤسسات المصادقة، فقد ألزمها المشرع بأن تبرم عقد تأمين لتغطية أخطائها المهنية.

و نظرا لهيمنة المواقع الوهمية على شبكة الانترنت، فإن الاعتماد على مؤسسة المصادقة الالكترونية سيمكن من تفادي الاحتيال و التدليس، و بالتالي من شأنه أن يشجع الأفراد على التعامل بواسطة الانترنت، و يتيح للمقاولة فرصة لخلق مواقع تجارية على الشبكة للبحث عن مستهلكين جدد.

و إذا كان ما ذكر يتعلق بمؤسسات المصادقة الالكترونية المعتمدة بالمغرب، فإنه يمكن التساؤل عن القوة الإلزامية لشهادة المصادقة التي تقدمها مؤسسات معتمدة خارج المغرب، وفي هذا نجد المشرع من خلال المشروع السالف ذكره، قرر لشهادة الحجية المسلمة من مؤسسة مصادقة معتمدة بالخارج نفس حجية للشهادة المسلمة من مؤسسة معتمدة داخل المغرب، و لكن شرط أن يكون هناك اتفاق متعدد الأطراف يكون المغرب طرفا فيه أو اتفاق ثنائي يتعلق بالاعتراف المتبادل بين المغرب و بلد إقامة مقدم الخدمة( المادة 22 من المشروع المتعلق بالتبادل الالكتروني للمعطيات القانونية).

و لماكان المشرع المغربي بتنظيمه لمؤسسات المصادقة الالكترونية قد أحدث تحولا في المفاهيم من مؤسسة العدول و الموثقين إلى موثقين في الشبكة متوخيا في ذلك تحقيق الفعالية للقاعدة القانونية بدل تقديس المبادىء التقليدية، كل ذلك من أجل توفير المناخ الملائم للمقاولة ودمجها في محيطها الاقتصادي و التكنولوجي، فإن الأمر ليس بهذه البساطة، فالواقع المغربي يبين استفحال الأمية المعلوماتية[3] ، على اعتبار أن أغلبية المغاربة لم يتعودوا بعد على ثقافة التعاقد عن بعد، إضافة إلى كون المقولات المغربية تعتمد على الطرق التقليدية سواء في الإنتاج أو في تصريف هذا الأخير، فإن السؤال الذي يطرح ذاته هو هل المشرع المغربي توخى من خلال هذه التحولات في المفاهيم حماية المقاولة المغربية أم الأجنبية؟

خاتمة:
إذا كانت المقاولة هي نواة الاقتصاد، بحيث أن جميع التغيرات الاقتصادية التي لأفرزها عالم الأعمال ترجع إلى المقاولة، و هو استدعى من المشرع أن يكرس هذه التحولات في قالب قانوني ضاربا عرض الحائط المبادىء القانونية التقليدية حتى لا يحصل صرخ بين الاقتصاد و القانون، بل سير كل من هذين العنصرين في خط متوازي، فإن المقاولات ليست من درجة واحدة؛ فهناك مقاولات كبرى لها من الموارد البشرية و التقنية و المالية و التكنولوجية ما يسمح لها بتبني سياسة هجومية من أجل اكتساح أسواق جديدة الوطنية منها و الأجنبية، و في مقابل ذلك هناك مقاولات متوسطة و صغرى تعني من المديونية و ضعف الإمكانيات و انعدام التنظيم و هي المهيمنة على النسيج الاقتصادي المغربي، و بذلك فإن المفاهيم الجديدة التي أفرزها تطور الواقع الاقتصادي و كرسها المشرع من خلال التعديلات المتلاحقة لا تغدو أن تكون في صالح المقاولات الكبرى ليس إلا.

أمام هذا أصبح المغرب، أكثر من أي وقت مضى، في حاجة إلى إرادة سياسية حقيقية تمكن المقاولات الصغرى و المتوسطة المشكلة للنسيج الاقتصادي الوطني من الاستفادة من التحولات التشريعية في أفق تأهيل نفسها لتطوير قدرتها التنافسية

لائحة المراجع:
الكتب:
امحمد لفروجي- العقود البنكية بين مدونة التجارة و القانون البنكي- مطبعة النجاح الجديدة- الدار البيضاء- الطبعة الثانية 2001
خالد مداوي-حقوق الملكية الصناعية في القانون الجديد رقم 97-17 –دار القلم للطباعة و النشر و التوزيع- الطبعة الأولى  2005
محمد بن أحمد بونبات- الجديد في كراء الأماكن المعدة للسكن أو الاستعمال المهني-المطبعة و الوراقة الوطنية- مراكش- الطبعة الثانية 2000 .
محمد كرام – محاضرات في مساطر صعوبات المقاولة – جامعة القاضي عياض كلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية مراكش – السنة الجامعية 2005-2006
فؤاد معلال- شرح القانون التجاري المغربي الجديد- دار النشر غ.م- الطبعة الثانية2001 .

الأطروحات:
خالد مداوي-حقوق الملكية الصناعية في القانون الجديد رقم 97-17 –دار القلم للطباعة و النشر و التوزيع- الطبعة الأولى  2005
المجلات:
أحمد الشيخ قاسم – دور التحكيم التجاري الدولي – مجلة المحاكم المغربية – العدد65 – يناير- أبريل 1992
المختار بكور- الشركة الفردية ذات المسؤولية المحدودة من شريك وحيد إصلاح أم بدعة- المجلة المغربية للقانون و السياسة و الاقتصاد- العدد 35
محمد الادريسي العلمي المشيشي- خصائص الشركات التجارية في التشريع الجديد- مجلة المحاكم  المغربية- العدد 80 –السنة 2000 .
Ouverages :
4Yves GUYON- Droit des affaires-Edition Economica- 7eme édition 1992- Tome 1

مختلفات:
لطيفة وراوي، سعاد عيساوي، سهام عمرني، أحمد الميلي- نظام الوقاية من صعوبات المقاولة-عرض في مادة المقاولات التجارية – جامعة محمد الأول كلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية – السنة الجامعية 2004-2005

الفهرس:
مقدمة
المبحث الأول: المفاهيم الجديدة المؤطرة للمقاولة
المطلب الأول: المفاهيم المؤطرة لتأسيس المقاولة
المطلب الثاني: هاجس المحافظة على المقاولة
المبحث الثاني:المفاهيم الجديدة المتولدة عن التطور الصناعي و التكنولوجي
المطلب الأول: المفاهيم المتولدة عن التطور الصناعي
المطلب الثاني:المفاهيم المتولدة عن التطور التكنولوجي
خاتمة
الإطار القانوني للمفاهميم الاقتصادية
________________________________
33 لإشارة لن نتحدث عن إشكالية العقود النموذجية لكونها كانت محل موضوع سابق.
33 التوقيع المؤمن الذي يتم إنشاؤه بشكل كانت معه هوية الموقع مؤكدة، و يشترط في التوقيع لكي مؤمنا أن يكون خاصا بالموقع،و  أن يتم لإنشاؤه بوسائل يمكن للموقع الاحتفاظ بها تحت مرابته الخاصة، و أن تضمن – هذه الوسائل –  للمحرر الموضوع عليه التوقيع  علاقة تمكن كشف إي تغيير يلق بالمحرر المذكور، ثم أن يثبت بواسطة آلية مؤمنة لإنشاء التوقيع الالكتروني المتبة صلاحيتها بشهادة المطابقة. طبقا للمادة 6 من مشروع القانون المتعلق بالتبادل الالكتروني للمعطيات القانونية.
34نقلا عن أستاذنا عبد الكريم غالي في إحدى محاضراته.

قرأوا أيضا...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.